خضر الغضبان

مئوية لبنان والجمهورية الثالثة

1 شباط 2020

02 : 00

في الأول من أيلول من العام 1920 أعلن الجنرال الفرنسي غورو "دولة لبنان الكبير" من قصر الصنوبر في بيروت. هذه الدولة التي قامت على أنقاض أجزاء من الدولة العثمانية ضمت أربع متصرفیات ومدینتین ممتازتین: متصرفیة جبل لبنان ومركزها بعبدا، متصرفیة لبنان الجنوبي ومركزها صیدا، متصرفیة البقاع ومركزها زحلة، متصرفیة لبنان الشمالي ومركزها زغرتا، بالإضافة الى مدينتي بیروت وطرابلس.

إنتقلت هذه الدولة من صيغة الكيان اللبناني الى "الجمهورية الأولى" بعد الإستقلال، اهتزّت مرّات عدّة، مرّت بكثيرٍ من الأزمات السياسية والفتن والانقسامات الداخلية، احتَلّت أرضَها جيوشٌ معادية، ذاقت مرارة الحروب الداخلية وويلات القتل والدمار والتهجير، كانت مسرحاً لتبادل الرسائل الإقليمية والدولية، تحمّلت تداعيات حروب الآخرين على أرضها، عانت الكثير الكثير ولم تزل تعاني.. لكنها لم تسقطْ.

دخل لبنان "الجمهورية الثانية" بعدما أرسى اتفاق الطائف نوعاً من التسوية التوافقية للحُكْم.. لم تكن التسوية الأفضل طبعاً، لكنها حاولت أن تراعي التوازنات بين مختلف المكونات اللبنانية. لم يتم اختبار الطائف فعلياً لأن نظام الوصاية السوري لم يسمح بذلك، مستبدلاً إياه بصيغٍ وبدعٍ ظرفيةٍ تخدم مصالحه المباشرة على قاعدة الإمساك الكلّي بمفاصل الحكم واللعبة السياسية والامنية والاقتصادية في البلد.

اليوم، وفي ظل الإرباك الكبير على المستوى الداخلي، خاصة مع الأزمة المالية – الإقتصادية غير المسبوقة، وفي لحظة اشتباك اقليمي – دولي كبير في المنطقة، يقف لبنان على مفترق طرق خطير ومفصلي... فلقد بات من الواضح والجلي أن ما يعانيه البلد هو أزمة حكم وطبقة حاكمة، وهنا جوهر الصراع. صراعٌ واختلافٌ كبيران بين صيغتين مستقبليتين للبنان لا ثالث لهما: لبنان الوطن الحر الديمقراطي التعددي المتنوع، ولبنان المنصّة والإرادة المصادرة والساحة المستباحة.

لبنان الذي كان بحكم موقعه وطبيعتِه وتنوّع تركيبته السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية واحة في محيطِه، ومساحة فريدة لحريَّةِ التفكير والتعبير والمُعتَقَد.. لبنان الذي شارك في تأسيسِ جامعة الدُّول العربية ومنظمة الأمم المتحدة، ونقطة التلاقي بين الشرق والغرب.. أضحى الآن بفضل حكّامه الجدد دولة مارقة ومنهارة ومنبوذة حتى من الأشقاء والأصدقاء والمقربين.

بعد الإنتفاضة الشعبية الكبيرة التي بدأها الشعب اللبناني في 17 تشرين الأول، وما حملته من خطاب عابر للطوائف والمذاهب والأحزاب والمناطق، والصدمة التي شعرت بها معظم القوى السياسية... بات من الضروري والملح التأسيس لمرحلة جديدة تكون جسر العبور نحو الجمهورية الثالثة، أي نحو الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة... التي تقوم على أسس الحرية والسيادة والمشاركة الحقيقية والعدالة والمساواة.

لهذه الجمهورية أركانها الأساسية الأربعة: قضاء مستقل ونزيه بعيد كل البعد عن تأثيرات السياسيين وأصحاب المصالح والنفوذ، قانون إنتخابات جديد وعصري خارج القيد الطائفي يهدف الى توسيع قاعدة المشاركة ويؤمن عدالة التمثيل، قانون مدني للأحوال الشخصية يخفف من قبضة رجال الدين على المواطنين، بالإضافة الى قانون جديد وعصري للأحزاب السياسية.

إنها اللحظة المؤاتية لهذه النقلة التاريخية، والتأسيس لعقد اجتماعي جديد بين اللبنانيين يقوم على مبدأ الشراكة الحقيقية والحوار واحترام الرأي الآخر والحق بالتمايز والإختلاف وسيادة القانون.. هو ليس بالأمر الصعب إذا توافرت القناعة وتضافرت الجهود حول هذه المشتركات بين المواطنين والقوى السياسية التي تؤمن بالدولة ومؤسساتها وبالوطن الحر السيد المستقل.

هذا حلم أكثرية اللبنانين بالجمهورية الثالثة، علماً أن الوصول إليها دونه الكثير من العقبات خاصة في ظل القوى ذات الأجندات الخارجية أو القوى التي أعمتها تجربة السلطة فأضحت رهينتها.. لكن البديل عن هذا "الحلم غير المستحيل" هو العودة الى زمن ما قبل المتصرفية، والدخول في عصر مذهبي هجين مرتهن لمحور الظلام والتخلف والرجعية... فيسقط لبنان ويزول في مئويته الأولى!


MISS 3