رونالد ج. ديبرت

كائن مستبد في هاتفك

برمجيات التجسّس الإنتهازية تُهدد الديمقراطية...

21 كانون الثاني 2023

02 : 00

برنامج «بيغاسوس» للقرصنة

في صيف العام 2020، تصدّرت مؤامرة رواندية للقبض على زعيم المعارضة المنفي بول روسسابغينا عناوين الأخبار الدولية. روسسابغينا معروف بدفاعه عن حقوق الإنسان، وقد تلقى وسام الحرية الرئاسي الأميركي، وكان قد حرص على إيواء أكثر من 1200 شخص من جماعات الهوتو والتوتسي في أحد الفنادق خلال الإبادة الجماعية في رواندا، في العام 1994. لكن خلال العقود التي تلت تلك الإبادة، أصبح روسسابغينا أيضاً من أبرز منتقدي الرئيس الرواندي بول كاغامي من مقره في الولايات المتحدة. لكن أثناء وجوده في دبي، في آب 2020، تم استدراجه عبر حجج كاذبة لركوب طائرة متّجهة إلى عاصمة رواندا، كيغالي، حيث اعتقلته السلطات الحكومية فوراً على خلفية انتمائه إلى جماعة معارِضة. في السنة اللاحقة، حكمت عليه محكمة رواندية بالسجن لمدة 25 سنة، فاستنكرت جماعات حقوق الإنسان الدولية، والبرلمان الأوروبي، والكونغرس الأميركي، ذلك الحُكم. 




لم يلاحظ الكثيرون حينها أن تلك العملية الجريئة والعابرة للحدود استعملت على الأرجح نسخة متطورة جداً من تقنيات المراقبة الرقمية. بعد صدور الحُكم على روسسابغينا، اكتشفـت منظمة العفو الدولية ومختبر «سيتزن لاب» في جامعة تورونتو أن الهواتف الذكية التي تعود إلى عدد من أفراد عائلة روسسـابغينا المقيمين في الخارج تعرّضت للقرصنة عبر برنامـج تجسس متقدّم اسمه «بيغاسوس». هذا البرنامج هو من إنتاج «مجموعة إن إس أو» الإسرائيلية، وهو يسمح للمشغّلين بالوصول إلى البيانات الشخصية المستهدفة بشكلٍ شبه كامل. كشفت التحليلات الجنائية أن برنامج تجسس استهدف هاتف ابنة روسسابغينا، كارين كانيمبا، تزامناً مع خطف والدها وأثناء سعيها لاحقاً لإطلاق سراحه واجتماعها مع مسؤولين رفيعي المستوى في أوروبا ووزارة الخارجية الأميركية، بما في ذلك المبعوث الأميركي الخاص لشؤون الرهائن. لا تكشف «مجموعة إن إس أو» علناً عن عملائها الحكوميين وأنكرت حكومة رواندا استعمال برنامج «بيغاسوس»، لكن تتعدد الأدلة الظرفية القوية التي تُوجّه أصابع الاتهام إلى نظام كاغامي.




هيكتور تيمرمان


عملياً، تُعتبر هذه الحادثة واحدة من عشرات الحالات التي رُصِد فيها برنامج «بيغاسوس» أو تقنيات تجسس مشابهة في أجهزة رقمية تعود إلى كبار الشخصيات السياسية المعارِضة، والصحافيين، والناشطين في مجال حقوق الإنسان، في عدد كبير من البلدان. يسمح «بيغاسوس» بالتسلل سراً إلى أكثر الهواتف الذكية حداثة، وقد أصبح الأداة المفضلة للأنظمة القمعية حول العالم في مجال المراقبة الرقمية. سبق واستُعمِل هذا البرنامج ضد منتقدي الحكومة في الإمارات العربية المتحدة والمحتجين الداعمين للديمقراطية في تايلاند.



لا يقتصر استخدام برمجيات التجسس على الحكام المستبدين حول العالم. يكشف الباحثون أن عدداً كبيراً من الديمقراطيات، بما في ذلك إسبانيا والمكسيك، بدأ يستعمل برمجيات التجسس على مر العقد الماضي بطرقٍ تنتهك معايير حقوق الإنسان والمسؤوليات العامة.



تكشف وثائق حكومية أميركية نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» في تشرين الثاني 2022 أن مكتب التحقيقات الفدرالي لم يكتفِ بطلب خدمات من «مجموعة إن إس أو» لمكافحة التجسس على الأرجح، بل إنه فكّر أيضاً باستعمال تلك البرمجيات ضد جهات أميركية. (صرّح متحدث باسم مكتب التحقيقات الفدرالي بأن وكالته لم تستخدم أي منتج من «مجموعة إن إس أو» لدعم التحقيقات).



أدى ظهور هذه البرمجيات المتقدمة إلى تغيير عالم التجسس والمراقبة. تجمع التكنولوجيا الجديدة بين قطاع غير منظّم في معظمه، وبيئة رقمية غازية بطبيعتها حيث تحتوي الهواتف الذكية وأجهزة شخصية أخرى على أدق التفاصيل في حياة الناس، وهي تستطيع تعقّب الجميع تقريباً في أي مكان من العالم. لاحظت الحكومات ما يحصل. في إسرائيل التي توافق على منح تراخيص لتصدير برنامج «بيغاسوس»، حصل البلد على نفوذ دبلوماسي مستجد في بلدان متنوعة مثل الهند وبنما بعد البدء ببيع برنامج التجسس إلى حكومات أجنبية. كذلك، يذكر تحقيق «نيويورك تايمز» أن صفقات «مجموعة إن إس أو» ساعدت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على إبرام «اتفاقيات أبراهام» مع البحرين، والمغرب، والإمارات العربية المتحدة. لم تكتفِ الدول العميلة من جهتها باستعمال «بيغاسوس» ضد جماعات المعارضة والصحافيين والمنظمات غير الحكومية فحسب، بل استهدفت أيضاً خصومها الجيوسياسيين. في العامَين 2020 و2021، اكتشف مختبر «سيتزن لاب» أن أجهزة عدد من المسؤولين في «مكتب الكومنولث الأجنبي والتنمية» في المملكة المتحدة تعرّضت للقرصنة ببرنامج «بيغاسوس»، وأن أحد عملاء «مجموعة إن إس أو» في الإمارات استعمل البرنامج للتسلل إلى جهاز في مقر رئيس الوزراء البريطاني. وفي تشرين الثاني 2021، أبلغت شركة التكنولوجيا العملاقة «آبل» 11 موظفاً في السفارة الأميركية في أوغندا بأن «بيغاسوس» اخترق هواتف «آي فون» التي يحملونها.



كريستينا فرنانديز دي كيرشنر


رداً على هذه التطورات، أنكرت شركات برمجيات التجسس عموماً إساءة استخدام بيانات العملاء أو رفضت التعليق على الموضوع. ذكرت «مجموعة إن إس أو» في بيان نشرته مجلة «ذا نيويوركر» في نيسان 2022: «لقد تعاونّا مراراً مع التحقيقات الحكومية، واستخلصنا الدروس من هذه النتائج والتقارير كلها، وعملنا على تحسين حواجز الحماية في تقنياتنا». أعلنت الشركة الإسرائيلية أيضاً أن تقنيّتها مُصمّمة لمساعدة الحكومات على التحقيق بالجرائم والنشاطات الإرهابية. لكن أصبحت برمجيات التجسس المتقدمة اليوم جزءاً من انتهاكات حقوق الإنسان وعمليات التجسس بين عشرات الدول، وتتراجع الواجبات القانونية أو الحوافز التي تدفع الشركات إلى الالتزام بمبادئ الشفافية العامة أو المساءلة. لم تقدّم «مجموعة إن إس أو» أي معلومات محددة لدحض الأدلة المفصّلة التي طرحها «سيتزن لاب» عن حصول انتهاكات كثيرة.



ستكون عواقب ثورة برمجيات التجسس هائلة. في البلدان التي تفتقر إلى الموارد، تستطيع قوات الأمن اليوم أن تنفّذ عمليات متطورة تقنياً عبر استخدام تكنولوجيا جاهزة يسهل اقتناؤها بقدر سماعات الرأس من «أمازون». وفي الأنظمة الديمقراطية، أصبحت هذه التكنولوجيا أداة لا تُقاوَم يمكن استعمالها من دون التعرّض لرقابة مشددة. في السنة الماضية وحدها، تورطت وكالات أمنية في أربع دول أوروبية على الأقل (اليونان، المجر، بولندا، إسبانيا) في فضائح اتُّهِمت فيها الوكالات الحكومية باستعمال برمجيات تجسس ضد صحافيين وشخصيات من المعارضة السياسية. كذلك، يعني نشوء سوق عالمي لهذه البرمجيات أن أنواع المراقبة والتجسس التي كانت محصورة سابقاً في عدد صغير من الدول الكبرى أصبحت متاحة الآن لمعظم البلدان ولعدد إضافي من الشركات الخاصة على الأرجح. إذا بقيت هذه النزعة عشوائية، يجازف توسّع التكنولوجيا الجديدة باستنزاف جزء كبير من المؤسسات، والعمليات، والقيم التي يرتكز عليها النظام الدولي الليبرالي.



تميل شركات برمجيات التجسس المتقدمة إلى تقديم الأرباح على المبادئ الأخلاقية، فتبيع منتجاتها بغض النظر عن التوجهات السياسية لعملائها. هذه النزعة أنتجت مصطلح «برامج التجسس الانتهازية». على غرار المتعاقدين العسكريين، غالباً ما تتعامل تلك الشركات مع وكالات الأمن الحكومية سراً لتجنب التدقيق العام. ومثلما منح هؤلاء المتعاقدون وظائف مربحة في القطاع الخاص للمسؤولين القدامى في الوكالات العسكرية والاستخبارية، تعمل شركات برمجيات التجسس وأجهزة الأمن الحكومية على بناء شراكات متبادلة المنافع أيضاً، ما يسمح بدعم القطاع كله. كان عدد كبير من أهم الأعضاء في «مجموعة إن إس أو» مثلاً مسؤولين قدامــى في الاستخبارات الإسرائيلية، بما في ذلك مديرية الاستخبارات العسكرية النخبوية.



بول روسسابغينا


في مناسبات متكررة، استُعمِلت برمجيات التجسس لإضعاف المسؤولين القضائيين والمنظمات التي تنشط في المجتمع المدني وتحاول مساءلة الحكومات. كان المدعي العام الأرجنتيني ألبيرتو نيسمان معروفاً مثلاً بجهوده لمكافحة الفساد، وكان يُحقق بمؤامرة جنائية مزعومة تورّط فيها مسؤولون رفيعو المستوى في الأرجنتين. في كانون الثاني 2015، وُجِد نيسمان ميتاً في ظروف مشبوهة (نُسِب موته لاحقاً إلى جريمة قتل) قبل يوم من تقديمه شهادته أمام الكونغرس عن الرئيسة الأرجنتينية السابقة كريستينا فرنانديز دي كيرشنر ووزير الخارجية في حكومتها، هيكتور تيمرمان. كانت تلك الحادثة تهدف إلى التستر على تورّط إيراني مزعوم في حادثة قصف مركز يهودي في بوينس آيرس، في العام 1994. وفي وقتٍ لاحق من تلك السنة، وثّق مختبر «سيتزن لاب» كيف كُلّفت مجموعة قرصنة من أميركا الجنوبية باستهداف نيسمان ببرنامج تجسس قبل وفاته، ما يعني أن شخصاً في السلطة تسلل إلى تحقيقاته. وفي المكسيك، استعملت وكالة حكومية لا تزال مجهولة الهوية أو مجموعة من الوكالات الأخرى، في العام 2017، برنامج «بيغاسوس» ضد مجموعات ناشطة في مجال حقوق الإنسان ومحققين دوليين كانوا يتعقبون تستّر الحكومة المحتمل على حالات اختفاء شهيرة وجرائم قتل مشينة استهدفت 43 طالباً في إيغوالا، المكسيك. كشفت التقارير اللاحقة أن الحكومة المكسيكية أعاقت مسار التحقيق وكان مسؤولون فيها متورطين في تغطية الارتكابات. ما كانت هذه النتائج لتظهر علناً لولا جهود جماعات المراقبة في المجتمع المدني.



حملة استهداف واضحة


يبدو توسّع استعمال برمجيات التجسس ضد أطراف سياسية وناشطين من المجتمع المدني في الديمقراطيات المتقدمة مقلقاً بما يكفي. لكن قد يتعلق أخطر جانب بالوسائل التي تمنحها هذه التكنولوجيا للأنظمة الاستبدادية لتوسيع حملاتها القمعية إلى ما وراء حدودها. خلال العقود الماضية، واجه الحكام المستبدون عوائق كبرى منعتهم من قمع المواطنين في المنفى. لكن بفضل برمجيات التجسس، يستطيع مُشغّل البرنامج أن يتسلل إلى شبكة المنفيين السياسيين كلها من دون أن يطأ في البلد الذي يستضيف الشخص المستهدف. تتراجع تكاليف ومخاطر هذه التقنية مقارنةً بعمليات التجسس الدولي التقليدي.



تتعدد الأمثلة على هذا النوع الجديد من القمع العابر للحدود. منذ العام 2016، استُعمِلت منصة «سايبربيت» لاستهداف المعارضين والمحامين والطلاب الإثيوبيين وسواهم في 20 بلداً تقريباً.



رئيس رواندا بول كاغامي خلال قمّة G20 في إندونيسيا


رغم وفرة الوثائق المرتبطة بانتهاكـات برمجيات التجسس حول العالم، تتعدد الأسباب التي تنذر بزيادة شيوع هذه التكنولوجيا. أولاً، تسوّق الشركات منتجاتها لأكثر من عميل واحد في أي بلد، بما في ذلك وكالات إنفاذ القانون المحلية، مع أن عقود شركات برمجيات التجسس مع الوكالات الحكومية تخضع لتدقيق مشدد. خلال رحلة لتقصي الحقائق في إسرائيل، في صيف العام 2022 مثلاً، اكتشف مسؤولون من البرلمان الأوروبي أن «مجموعة إن إس أو» تتعامل مع 22 عميلاً على الأقل في 12 بلداً أوروبياً، ما يعني أن عدداً كبيراً من هؤلاء العملاء هو عبارة عن وكالات دون وطنية. هذا النوع من الصفقات يزيد التشكيك بإجراءات المساءلة، فقد أثبتت الأبحاث أن وكالات إنفاذ القانون المحلية تكون عموماً أكثر عرضة لانتهاكات مثل التنميط العنصري أو الفساد، وتتراجع فيها مستويات الشفافية والرقابة.



ثانياً، لا يمكن فعل الكثير لمنع شركات برمجيات التجسس من بيع تقنياتها إلى الشركات الخاصة أو أفراد فاسدين مع أن جزءاً منها، مثل «مجموعة إن إس أو»، يزعم أنه لا يتعامل إلا مع عملاء حكوميين. لكن تكشف الأدلة أن بعض الشركات يجري صفقات مختلفة: في تموز 2022، نشر مركز استخبارات التهديدات في شركة «مايكروسوفت» تقريراً عن شركة قرصنة وبرمجيات تجسس في النمسا، اسمها DSIRF، وقد استهدفت أفراداً في بنوك وشركات محاماة ومجموعات استشارية في بلدان عدة. لم تُحدد «مايكروسوفت» نوع العملاء، لكن تسوّق الشركة نفسها باعتبارها أداة لتزويد الشركات بخدمات «ترضي متطلبات» العملاء، ما يعني أن عمليات القرصنة حصلت لصالح عملاء من القطاع الخاص. عندما سألت وكالة «رويترز» شركة DSIRF عن تقرير «مايكروسوفت»، رفض المسؤولون فيها التعليق على الموضوع. يُعتبر هذا النوع من عمليات القرصنة في القطاع الخاص غير قانوني عند تنفيذه من دون تفويض رسمي، لكن يصعب ردعه حين تقع شركات المقرصنين خارج صلاحيات الدولة التي تحصل فيها عملية الاستهداف. بعدما زادت التهديدات المطروحة على حماية حقوق الخصوصية، وحرية الصحافة، والمحاكم المستقلة، في بلدان عدة، من الأسهل على الأرجح أن تستعمل الشركات الفاسدة أو الأوليغارشيون برمجيات التجسس الانتهازية من دون حسيب أو رقيب.



ثالثاً، أصبحت برمجيات التجسس عنصراً محورياً من قائمة متوسعة لأدوات المراقبة التي تستعملها شريحة واسعة من وكالات الأمن الحكومية، منها أنظمة تعقب المواقع وتحديد الهوية بالتقنيات البيومترية. كلما زاد اندماج برمجيات التجسس مع عمليات جمع المعلومات اليومية وفرض الأمن والنظام، ستزيد صعوبة كبحها. الأخطر من ذلك هو احتمال أن تكسب هذه البرمجيات المزيد من القدرات الغازية قريباً عبر استغلال تطبيقات قابلة للارتداء، مثل الشاشات الطبية الحيوية، وتقنية كشف العواطف، والشبكات العصبية التي تتّصل بالإنترنت وأصبحت قيد التطوير في الوقت الراهن. تهدف تطبيقات رقمية كثيرة منذ الآن إلى التعمق في جوانب لاشعورية أو لاواعية من سلوكيات المستخدمين وجمع بيانات عن وضعهم الصحي وخصائصهم الفيزيولوجية. لم يعد ظهور برنامج تجسس قادر على التسلل خلسةً إلى بيانات متعلقة بأنظمتنا البيولوجية أو المعرفية لمراقبة سلوك الضحية ووضعها العام، أو حتى التلاعب بها، مجرّد خيال علمي.



إنذارات قضائية


طوال عشر سنوات تقريباً، نجح قطاع التجسس الانتهازي في توسيع نطاقه حول العالم من دون أي إجراءات تنظيمية أو محاسبة جدّية. لكنه خيار قامت به الحكومات، وليس نتيجة حتمية يجب أن يتقبّلها الجميع بكل بساطة. سلّط الصحافيون وجماعات المراقبة في المجتمع المدني الضوء على انتهاكات فاضحة، لذا زادت صعوبة أن يخفي كبار بائعي برمجيات التجسس والعملاء الحكوميين عملياتهم. في أوروبا والولايات المتحدة، نظّمت اللجان جلسات استماع حول برمجيات التجسس، وبدأت الوكالات الحكومية تُطوّر سياسات جديدة للحد من استعمالها. كان لافتاً أن تضع وزارة التجارة الأميركية «مجموعة إن إس أو»، و»كانديرو»، وشركات قرصنة أخرى، على قائمة قيود التصدير، ما يَحِدّ من حصولها على المنتجات والتقنيات الأميركية ويوجّه رسالة قوية إلى المستثمرين المحتملين مفادها أن شركات برمجيات التجسس تخضع لتدقيق متزايد. كذلك، بدأت منصات التكنولوجيا تتحرك في هذا الاتجاه. أقدمت شركتا «ميتا» (الشركة الأم لفيسبوك) و»آبل» على مقاضاة «مجموعة إن إس أو» في المحاكم الأميركية، وأبلغتا ضحايا برامج التجسس بإجراءاتهما، وكثّفتا جهودهما لدعم جماعات المراقبة في المجتمع المدني. كذلك، تبرّعت «آبل» بمبلغ 10 ملايين دولار لإجراء الأبحاث عن المراقبة السيبرانية، وتعهدت بالتعامل بالمثل مع أي تعويضات تحكم بها الدعوى المرفوعة ضد «مجموعة إن إس أو».



لكن لكبح توسّع برمجيات التجسس الانتهازية حول العالم، تبرز الحاجة إلى مقاربة شاملة. في المقام الأول، يجب أن تُخصّص الشركات موارد متزايدة لرصد برمجيات التجسس واستئصالها وتأمين خدماتها بالشكل المناسب ضد أي شكل من الاستغلال. سبق وكشفت «آبل» و»واتساب» طريقة إنذار الضحايا عند رصد برمجيات التجسس وكيفية محاسبة بائعي هذه البرامج بالوسائل القانونية بعد انتهاك شروط الخدمات وارتكاب مخالفات قانونية أخرى. كذلك، يُفترض أن تزيد منصات التكنولوجيا تشديدها على الأمن، وتُخفف مساعيها لاستنزاف بيانات المستخدمين عبر تغيير ثقافة العمل السائدة أو تقوية التنظيمات الحكومية مثلاً. في المقابل، يجب أن تتوسع التحقيقات التقنية التي يجريها مختبر «سيتزن لاب»، ومنظمة العفو الدولية، والصحافيون، وجهات أخرى، ثم يتم دمجها مع أطراف تقوم بمهام مماثلة، سواء كانت منظمات غير حكومية، أو جامعات، أو وكالات أنباء استقصائية. في غضون ذلك، يُفترض أن يعترف الجميع بعلم الطب الشرعي الرقمي والمحاسبة الرقمية كتخصص بحثي رسمي باعتباره قادراً على مراقبة نشاطات برمجيات التجسس، ومساعدة الضحايا والجهات المستهدفة، ومتابعة الضغط على الحكومات والشركات لرفع مستوى شفافيتها ومحاسبتها على أفعالها. لكن تبرز الحاجة إلى دعم عام وخاص وخيري طوال سنوات قبل نشوء هذا القطاع.



في نهاية المطاف، يجب أن تتبنى الحكومات بحد ذاتها إطاراً قوياً لتنظيم استعمال برمجيات التجسس. يتطلب تنظيم هذا القطاع على الأرجح سنّ مجموعة معقدة من القوانين التي تعالج جوانب متنوعة من سوق برمجيات التجسس. قد يُطلَب من الشركات المحلية مثلاً أن تكشف بانتظام عن صادراتها، فيما يُطلَب من الوكالات الحكومية تقديم تقرير يكشف مصدر استيراد البرمجيات ومكان وجودها. في الوقت نفسه، يجب أن تزداد قواعد التصدير قوة منعاً لبيع برمجيات التجسس إلى الحكومات أو عملاء آخرين قد يميلون إلى استعمالها بطريقة تنتهك قانون حقوق الإنسان الدولي. ثمة حاجة أيضاً إلى طرح قواعد ومعايير واضحة لفرض الرقابة على استخدام برمجيات التجسس، فضلاً عن تشريعات محددة للتعامل مع النشاطات الشائكة في سوق البرمجيات، لكن يجب أن تُصمَّم تلك التشريعات بحذر وبطريقة تمنع إعاقة الأبحاث الأمنية الشرعية. أخيراً، تستطيع الحكومات أن تُمرر تشريعاً يمنح ضحايا برامج التجسس الحق بمقاضاة الحكومات الأجنبية وبائعي البرمجيات لمحاسبتهم على الأضرار التي تُسبّبها عمليات التجسس.



يمكن تدعيم هذه الجهود على المستوى الدولي من خلال تطوير نظام للسيطرة على برمجيات التجسس حول العالم. لطالما تعرّضت النشاطات العسكرية مثلاً لرقابة دولية عبر آليات مثل سجل الأسلحة التقليدية في الأمم المتحدة، أو السياسات التي ترتبط بمعايير المتعاقدين العسكريين والأمنيين في القطاع الخاص، أو عبر حظر الألغام الأرضية. قد يؤدي مسار مماثل إلى تنظيم برمجيات التجسس على الساحة الدولية، بما في ذلك إقرار متطلبات الشفافية ونشر تقارير عن استعمالاتها. لكن تثبت النماذج المعتمدة راهناً أن النجاح يتطلب استمالة عدد كبير من البلدان وزيادة الضغوط لإقناع الحكومات وقادة العالم بأن برمجيات التجسس الانتهازية تطرح تهديداً خطيراً ومتوسّعاً على الأمن العالمي والنظام الدولي الليبرالي.



لا شك في أن الحكومات الاستبدادية والوكالات الأمنية التي تستفيد راهناً من برمجيات التجسس ستحاول إعاقة هذا النوع من التنظيمات المستجدة، لكنّ زيادة المخاطر التي يطرحها هذا السوق غير المنظّم على الأمن القومي قد تستدعي تقييماً أكثر اتزاناً. في تشرين الثاني 2022، حذّر السير جيريم فليمينغ، وهو مسؤول مرموق في الاستخبارات البريطانية، من زيادة التهديدات المستقبلية على الأمن السيبراني في بريطانيا بسبب توسّع استعمال برمجيات التجسس الانتهازية ولجوء الدول والمجرمين إلى شركات القرصنة على الطلب. إذا استمر نمو تلك البرمجيات بلا رادع، ستصبح التهديدات المطروحة على الديمقراطية بالغة الخطورة. وإذا تمكّنت النُخَب في أي بلد من استعمال هذه التكنولوجيا لإبطال مفعول المعارضة السياسية الشرعية في أي مكان من العالم، ونجحت في إسكات صوت المعارضة عن طريق التجسس المستهدف، وأضعفت الصحافة المستقلة، واستنزفت المسؤوليات العامة من دون حسيب أو رقيب، قد لا تعود القيم التي يرتكز عليها النظام الدولي الليبرالي أكثر أماناً من كلمات المرور على هواتفنا.