رابط بين الشيخوخة وزيادة نشاط الجينات القصيرة

02 : 00

يتألف حمضنا النووي من جينات تختلف أحجامها بطريقة جذرية. قد تكون الجينات البشرية قصيرة لدرجة أن تساوي حجم مئات القواعد الجزيئية، أو طويلة بقدر مليونَي قاعدة. تحمل هذه الجينات تعليمات لبناء بروتينات ومعلومات أساسية أخرى تسمح بمتابعة تشغيل الجسم بالشكل المناسب. لكن تكشف دراسة جديدة الآن أن أطول الجينات تصبح أقل نشاطاً من أقصر الجينات مع التقدم في السن. من خلال فهم هذه الظاهرة، قد تظهر طرق جديدة لمواجهة مسار الشيخوخة.



يقول لويس أمارال، أستاذ في الهندسة الكيماوية والبيولوجية في جامعة "نورث وسترن"، إنه لم يرغب في تحليل طول الجينات في البداية. كان جزء من مساعديه في الجامعة يحاول تحديد التغيرات في التعبير الجيني (أي العملية التي تُستعمَل من خلالها المعلومات في جزء من الحمض النووي لتشكيل منتج فاعل مثل البروتين أو الحمض النووي الريبي) تزامناً مع تقدّم الفئران في السن. لكنهم وجدوا صعوبة في تحديد التغيرات الدائمة. بدا كل شيء عشوائياً برأي أمارال.



ثم قرر الفريق تحليل التغيرات في طول الجينات بتوصية من العالِم توماس ستوغر من مختبر أمارال. كانت دراسات سابقة قد ألمحت إلى احتمال حصول تغيير واسع النطاق في النشاط الجيني مع التقدم في السن.

استعمل الباحثون خوارزمية التعلم الآلي لتحديد الخصائص التي تفسّر التغيرات الحاصلة في الحمض النووي الريبي المأخوذ من 17 نسيجاً مختلفاً، بما في ذلك القلب والدماغ والكلى، لدى ذكور فئران بلغت أعمارها 4، أو 9، أو 12، أو 18، أو 24 شهراً. كشف هذا التحليل نمطاً واضحاً ومتماسكاً في جميع الأنسجة: تراجع نشاط أطول النُسَخ مقارنةً بأقصرها لدى الحيوانات الأكبر سناً. قد يكون غياب التوازن في التعبير عن الجينات الطويلة والقصيرة تفسيراً محتملاً لغياب مجموعة جينات ذات تعبير متبدّل. اختلف التعبير الجيني من تجربة إلى أخرى بشكل عام، لكن بدا وكأن أقصر الجينات تصبح أكثر نشاطاً من أطول الجينات حين تتقدم الحيوانات في السن.



كرر الفريق هذه التجربة عبر استعمال بيانات مأخوذة من أنسجة بشرية متنوعة تم استخراجها بعد الوفاة، فضلاً عن أنسجة مستخرجة في أعمار محددة من حيوانات أخرى. تبيّن أن هذا الخلل المرتبط بالسن في التعبير المتعلق بطول الجينات يتكرر لدى مختلف الكائنات الحية. كانت النتائج البشرية مثيرة للاهتمام لأن البشر عاشوا حياة مختلفة وماتوا لأسباب مختلفة في أوقات مختلفة، على عكس الفئران التي كانت متشابهة من الناحية الوراثية ونشأت في الظروف المخبرية نفسها.



عندما راقب أمارال وزملاؤه أطول وأقصر النُسَخ، اكتشفوا أن أول 5% من الجينات التي تحمل أقصر النُسَخ شملت مجموعة على صلة بوظيفة المناعة وتراجع متوسط العمر، بما يشبه تلك المرتبطة بالحفاظ على طول التيلوميرات (سلاسل الحمض النووي على أطراف الكروموسومات التي تصبح قصيرة مع التقدم في السن). تبيّن أيضاً أن أول 5% من الجينات التي تحمل أطول النُسَخ شملت تلك المرتبطة بطول العمر، مثل النشاط العصبي وتنظيم النُسَخ. حلل الباحثون أيضاً طريقة تأثير 12 مقاربة مضادة للشيخوخة على توازن نشاطات الجينات الطويلة والقصيرة من خلال إعادة تقييم بيانات تجارب حيوانية سابقة. شملت سبع مقاربات منها دواءين مضادَين للشيخوخة (رابامايسين وريسفيراترول)، وسبّبت زيادة نسبية في نُسَخ الجينات الطويلة، ما يعني أن هذا الخلل المرتبط بالسن يمكن عكسه على الأرجح. نُشِرت النتائج في مجلة "شيخوخة الطبيعة"، في شهر كانون الأول.



تتماشى هذه الدراسة مع نتائج سابقة. أثبت الباحثون مثلاً أن تراكم أضرار الحمض النووي في مرحلة الشيخوخة يعطي أقوى أثر في أطول الجينات. تقول ماريا إيرمولايفا، رئيسة فريق بحثي في "معهد لايبنيز للشيخوخة" في ألمانيا: "كلما طالت الجينة، ستصبح أكثر ميلاً إلى تطوير مشكلة لا يمكن إصلاحها. هذا النوع من إصابات الحمض النووي الشائب يبطئ عملية النسخ، ما يؤدي إلى تراجع النُسَخ التي تنتجها أطول الجينات. ربما لاحظ المشرفون على الدراسة الجديدة التداعيات الشاملة لهذه الظاهرة الجزيئية المعروفة".



يقول جواو بيدرو دي ماغالهايس، أستاذ في علم الشيخوخة الحيوي والجزيئي في جامعة "برمنغهام" البريطانية (لم يشارك في الدراسة الجديدة): "يُعتبر هذا الخلل الذي لاحظه الباحثون في الترنسكريبتوم مع التقدم في السن مثيراً للاهتمام. لكننا لم نتأكد بعد من ارتباط هذه العملية بالشيخوخة. لن أستبعد هذا الاحتمال، لكن أظن أننا نحتاج إلى أدلة قوية ما زلنا نفتقر إليها". قد تكون تغيرات الترنسكريبتوم المرتبطة بطول الجينات مجرّد انعكاس لعمليات أخرى على صلة بالشيخوخة، مثل تكثيف نشاط جهاز المناعة. غالباً ما ترتبط الجينات الصغيرة بوظيفة المناعة وقد تصبح العمليات المناعية، مثل الالتهاب، أكثر نشاطاً مع التقدم في السن. يضيف دي ماغالهايس: "من المنطقي إذاً أن نرصد أنماطاً متماسكة في طول الجينات لأنها تعكس العمليات المتبدّلة مع التقدم في السن".



يفترض أمارال أن الخلل في عملية النسخ قد ينجم عن التعرّض لأضرار متكررة (مثل الالتهابات الفيروسية) على مر الحياة، فتتغيّر آلية الخلايا تدريجاً للتمكن من نسخ أطول الجينات. يوضح أمارال: "قد تكون الشيخوخة قياساً لغياب التوازن: يعني تفاقم الخلل أنك أصبحت أكبر سناً وأن أنسجة جسمك تشيخ". في التجارب المستقبلية، يأمل أمارال في تحليل طريقة تأثير الإصابات على خلل الترنسكريبتوم لدى الكائنات الأصغر سناً، ومعرفة مدى قدرة المقاربات المضادة للشيخوخة على إصلاح الخلل الذي يحصل بعد التعرّض لأضرار محتملة.

تتعدد الأسئلة التي لا تزال عالقة حتى الآن، ويتعلق أبرزها بطريقة تغيّر آلية النسخ مع التقدم في السن. في النهاية، يستنتج أمارال: "نأمل في أن تثير هذه الدراسة اهتمام الباحثين وتُشجّعهم على إجراء تجارب لمساعدتنا على كشف ما يحصل في عمق أجسامنا".