جاد حداد

Little Women...قصة شقيقات سابقة لعصرها!

4 شباط 2020

10 : 06

يؤكد فيلم Little Women (نساء صغيرات) على براعة غريتا غيرويغ في تجربة الإخراج، فتعطي هذه الأخيرة منحىً دافئاً ومنمقاً وأسلوباً سينمائياً متقناً لرواية لويزا ماي ألكوت الخالدة منذ القرن التاسع عشر (صدرت في الأصل على جزئين في العامَين 1868 و1869). تتخذ هذه القصة الكلاسيكية المقتبسة مساراً ممتعاً ومبتكراً على الشاشة، فتبدو متجددة ومعاصرة.

لا يزال فحوى القصة يتمحور حول الشقيقات "مارش"، "جو" و"ميغ" و"إيمي" و"بيث"، إذ يحافظ الفيلم على شخصياتهنّ بكل أمانة. اجتمعت مع غيرويغ الممثلة المدهشة سيرشا رونان المعروفة من فيلم Brooklyn (وهي من أفضل الممثلات في جيلها)، فتؤدي في هذا العمل دور المتمردة والحيوية "جو". حين نقابل هذه الفتاة القوية التي تُركّز على مهنتها، تدور القصة في المستقبل، بعد سبع سنوات على الأحداث الأصلية، فلا تعود تقيم في "نيو هامبشاير" حيث "يعيش الكتّاب وسط الغابة"، بل تعيش في منزل مشترك في نيويورك وتسعى إلى تحقيق أحلامها بالتحول إلى روائية حقيقية. في هذه المرحلة الأولية، كانت متحمسة في كل ما تفعله مع أنها قوبلت بالرفض (أو حصدت موافقة مشروطة) من رئيس التحرير (ترايسي ليتس بدور أبوي ساخر وساحر، بما يشبه أداءه في Lady Bird (سيدة الطيور)، فيطلب منها هذا الأخير أن تعطي شخصياتها النسائية نهاية تقليدية تتمثل بالزواج السعيد. كما أنها تقابل واحداً من أشرس منتقديها (لكن أكثرهم صدقاً)، وهو الأستاذ الجذاب "باير" (لويس غاريل)، ويمكن اعتباره نظير "جو" من الناحية الفكرية وتعود وتقع في غرامه لاحقاً.



يعطينا هذا المستقبل أيضاً لمحة عن "إيمي" التي تحب الفنون وتجول في أوروبا (فلورانس بوغ التي تضاهي رونان بقوة أدائها)، فتقابل بالصدفة جارهم السابق المحبوب "لوري": يؤدي دوره تيموثي شالاميه بشعره الأشعث وأسلوبه التلقائي، علماً أن الجميع كانوا معجبين بعمقه الروحي ومعالم وجهه المرسومة منذ صغره. تكتمل الصورة مع ظهور "ميغ" (إيما واتسون)، الشقيقة العنيدة التي تحب الموضة، لكنها تتخلى عن طموحاتها المادية وتتزوج عن حب، بغض النظر عن الاعتبارات المالية التي كانت تهمّها. نتعرف أيضاً على "بيث" (إليزا سكانلين)، وهي عازفة البيانو الخجولة والموهوبة، و"مارمي" المُحِبّة والمُضَحّية (لورا ديرن)، والعمة "مارش" المشاكسة والواقعية (ميريل ستريب). يجيد مسؤول المونتاج نيك هوي التنقل بين الحقبات الزمنية، ما يسمح للمخرجة غيرويغ بتقديم تاريخ العشائر في "ماساتشوستس" للمشاهدين تدريجاً. تعطي غيرويغ جميع القصص الجريئة والمنظّمة حقها، فنشاهد رفض عرض زواج، وعلاقة رومانسية تتطور في السر، واختلافات طبقية، ومنافسة بين الشقيقات، ومرض خطير يلوح في الأفق. وبما أن المشاهدين يعرفون مصير الفتيات من الرواية، من الطبيعي أن يزيد تركيزهم على سنوات المراهقة في حياتهنّ. كما أن تسليط الضوء على صراعاتهنّ في مرحلة الشباب يزيد منسوب التشويق لاكتشاف المسار المستقبلي لكل واحدة من السيدات.

لا تكتفي غيرويغ بعرض هذه الأحداث بكل بساطة، بل إنها تدرك طبيعة القصة التي تتمتع بطابع دافئ وممتع وتجيد نقلها على الشاشة. يتّسم Little Women بأفضل الأجواء حين تجتمع الشقيقات "مارش" بالقرب من المدفأة أو حول مائدة الطعام لتناول غداء عيد الميلاد معاً. من الممتع أن نشاهد هذا الجو العائلي الإيجابي (يتضخم أثر هذه المشاهد بفضل الأزياء المدهشة، وأداء المصور السينمائي بوريك ليسو، وتصميم الإنتاج الغني بتفاصيل متقنة). تجتمع هذه العوامل تدريجاً لإعطاء طابع رومانسي بارز للقصة. من جهة، ينتقد فيلم غيرويغ مفهوم الزواج التقليدي باعتباره مؤسسة حيث يضطر الرجل للاعتناء بزوجته مادياً. لكنه يحتفل من جهة أخرى بمظاهر الحب والارتباط باعتبارها خيارات تساوي بأهميتها الطموحات المهنية. في نهاية المطاف، تختار "ميغ" تأسيس عائلة وتدافع عن قرارها أمام "جو" في مشهدٍ يحمل في طيّاته جوانب من مبادئ الحركة النسوية.لكن يتعلق أهم عامل في Little Women بالتحديث الذي تضفيه غيرويغ على شخصية "جو" بطريقةٍ كانت الكاتبة ألكوت لتوافق عليها وتشيد بها حتماً. في نهاية القصة، لن تكون "جو" مجرّد شابة مغرمة وحيوية في كوميديا رومانسية كلاسيكية، بل ستصبح أيضاً كاتبة شجاعة لا تخشى إثبات قيمتها الحقيقية، بل إنها تشاهد صدور أول كتاب لها بكل فخر. إنها نهاية مدهشة ومؤثرة لأنها تدعو إلى التفاؤل وتبدي احتراماً كبيراً لألكوت التي اضطرت للتنازل عن النهاية المثالية التي أرادتها لقصتها. من الواضح أن غيرويغ فهمت روحية الكاتبة السابقة لعصرها، فحوّلت الفيلم إلى قصة تحاكي الجيل الجديد بمختلف طموحاته.


MISS 3