مجيد مطر

آخر الجدران

28 كانون الثاني 2023

02 : 00

حدث ما لم يكن في الحسبان، ودخل الجسم القضائي في حالة انقسام عمودي خطير قوامها مواجهة بين مدعي عام التمييز غسان عويدات والمحقق العدلي طارق البيطار، الذي أحدث مفاجأة كبرى باجتهاده القانوني الذي أتاح له استئناف التحقيقات بعد توقف عنها دام نحو سنة ونيف نتيجة لطلبات كف اليد التي وصلت لحدود 40 دعوى تقدّم بها عدد من المُدعى عليهم وتحديداً من السياسيين، الذين بالغوا بتلك الطلبات لحدود التعسف باستعمال الحق على حدّ وصف أهل الاختصاص.

فقد جاء في حيثيات الاجتهاد أنّ المادة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، التي نصت على آلية تشكيل المجلس العدلي لناحية رئيسه والقضاة الأربعة الآخرين والقاضي الرديف الذي يحل محل الأصيل في حالات الوفاة أو الرد أو انتهاء الخدمات، لم تأتِ على ذكر المحقق العدلي ولم تحدد كيفية ردّه أو تنحيته.

والتعليل الذي استند إليه القاضي البيطار يقول إنّ دعاوى الرد بحقه لا تتمتع بأثر قانوني وبالتالي هو في حلٍّ منها، كما أنّ المادة 362 من القانون نفسه، التي تبيّن مسلك التعاون بين مدعي عام التمييز والمحقق العدلي، قد أتاحت له سلطة اصدار جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق من دون طلب من النيابة العامة، وعند ظهور أي مساهم في الجريمة، فيستجوبه بصفة مدعى عليه حتى ولو لم يرد اسمه في لائحة الادعاء الأساسية، وبناء عليه عاد لمزاولة عمله من خلال اصدار ادعاء على 14 شخصية جديدة أمنية وسياسية وقضائية. كما اتخذ قراراً باطلاق سراح 5 موقوفين بعد منعهم من السفر.

من جهته رفض مدعي عام التمييز غسان عويدات قرار القاضي معتبراً إياه في حالة انعدام كون يد القاضي بيطار مكفوفة ولا يحق له استئناف عمله الّا بعد البتّ بدعاوى كف اليد بحقه.

إلى هنا كان الموقف ضمن الأصول القضائية، ومن باب تعارض الاجتهادات كسلوك طبيعي داخل القضاء كونه يصدر أحكامه من خلال نص قانوني صريح أو بناء لاجتهادات قضائية أو فقهية أو سوابق من سبق.

ضمن هذا الحدّ، أي حدّ التعارض في الآراء، يُعتبر المدعي العام غسان عويدات سيد الموقف وصاحب القدرة على التأثير كون الضابطة العدلية تخضع له ولا قدرة للقاضي بيطار أن يحركها من دون العودة إليه، وكان بإمكانه أن يضع كامل ما قام به المحقق العدلي في عهدة مجلس القضاء الأعلى، ليبنى على الشئ مقتضاه.

انّما جاءت المفاجأة الأخطر من خلال رد فعل مدعي عام التمييز الذي قام باخلاء سبيل جميع الموقوفين في جريمة المرفأ، وهو في حالة تنحٍّ عن القضية ثم أنّه في الأساس لا يمكنه القيام بذلك لكونه من اختصاص المحقق العدلي حصراً، والشاهد على ذلك آراء القضاة السابقين ونقابة المحامين ونادي القضاة.

فاذا سلّمنا بأنّ اجتهاد القاضي البيطار لم يكن في محله وأنّه سلك منهجاً استنباطياً أوصله إلى نتيجة مخالفة للأصول المتبعة، فهل من المفيد للعدالة أن يصل رد الفعل إلى إفراغ القضية من محتواها واطلاق سراح جميع الموقوفين، وتعريض الوصول للحقيقة لخطر الزوال والضياع وبالتالي ترتيب نتائج مأسوية على التحقيق، ليبدو الأمر أكبر بكثير من موضوع تعارض آراء ليصل إلى حدود تصفية الحسابات من دون مراعاة حق الضحايا وذويهم، فحُمّلوا أثقالاً فوق اثقالهم.

وهل تصحُّ العدالة المنقوصة، ليتم الافراج عن موقوفين بحجة تطبيق المواثيق الدولية، والابقاء على موقوفين آخرين قضوا مدة توقيف تفوق مدة العقوبة نفسها من دون محاكمات أو حتى النظر في قضيتهم؟

قِيَم القضاء

إنّ العدالة لا تتحقق فقط من خلال القضاء كتقنيات وقضاة وآلية تعيين، بل من خلال قيَم القضاء نفسه كآخر جدار يصون الدولة والمجتمع ويعطي كل ذي حق حقه، ويكرّس مفاعيل دولة القانون على أرض الواقع، لا فرق عنده، بين رجال السياسة والمواطنين العاديين. وهذا يتطلب من القضاة أنفسهم الخضوع للقانون قبل غيرهم كسبيل وحيد للجم محاولات الافلات من العقاب خصوصاً في الجرائم التي تحمل شبهة سياسية.

لقد نجحت السلطة في جعل العدالة لجريمة العصر وجهة نظر، فزرعت الانقسام العمودي بين أهالي الضحايا أنفسهم، فريق يثق بالمحقق العدلي وفريق يشكك به، كما حققت الانقسام بين أهالي الموقوفين وأهالي الضحايا، وبدلاً من أن يكون تحقيق العدالة قضية مجتمعية الهدف النهائي منها كشف الفاعلين وتحميل المسؤوليات، حماية لها من التضامن المزيف الذي يخفي تعدد المصالح وتلاقيها لمنع تحقيق العدالة.

ويبدو أنّ الطبقة السياسية التي تخاف من التحقيق أكثر من خوفها من الحكم نفسه، قد وقعت في شر أعمالها، فهي لم تظن يوماً بأنّها ستكون محل مساءلة، فلم تعمد إلى تعديل القوانين باتجاه اكثر وضوحاً وحسماً منعاً للوقوع بما نحن فيه، واذ بها تشرب من الكأس نفسه، عاجزة عن الخروج من الورطة الّا على حساب العدالة.

فها هي نجحت مجدداً في نقل المعركة إلى داخل الجسم القضائي كآخر جدار من جدران هذا الوطن الصغير الذي بغير تحقيق العدالة ووضع حد لسياسة الافلات من العقاب، لن تقوم له قيامة.