ستيفن م. والت

هل تنجح الصين في "هجومها الساحر"؟

31 كانون الثاني 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال مأدبة عشاء بمناسبة الذكرى السبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية | الصين، 30 أيلول 2019

يقال إن جزءاً من مزايا الأنظمة الاستبدادية يتعلق بقدرتها المزعومة على تغيير مسارها فجأةً للتعامل مع الظروف المتبدلة. إذا كان شخص واحد يملك سلطة مطلقة ولا يضطر للقلق بشأن القواعد البيروقراطية المتحجرة، والصحافة المزعجة، والمعارضة المحلية، وجماعات المصالح المؤثرة، والسلك القضائي المستقل، وجميع ملحقات الديمقراطية الفوضوية الأخرى، يعني ذلك نظرياً أنه يستطيع إصدار مرسوم جديد وإطلاق الدولة نحو وجهة جديدة.



تبقى هذه الصورة الحيوية التي ينسبها البعض إلى الحكام المستبدين، باعتبارهم قادرين على التكيف مع الظروف، خاطئة على الأرجح أو غير مكتملة على الأقل. يشعر الدكتاتوريون الأقوياء ظاهرياً بالقلق أيضاً من خصومهم المحتملين، ويتنافسون على مراكز السلطة، وينشغلون بالتأكد من تنفيذ أوامرهم بالشكل المناسب. أحياناً، يتعامل الحكام المستبدون مع سياسات فاشلة لأن أتباعهم لا يخبرونهم بحقيقة ما يحصل أو يرفضون تغيير الوضع خوفاً من الظهور بصورة ضعيفة. كذلك، قد تتخذ الديمقراطيات "الشائبة" خطوات سريعة وقوية أحياناً، لا سيما في الحالات الطارئة.

لكن رغم هذه المحاذير كلها، تبقى سرعة ووتيرة التغيرات التي أحدثها الرئيس الصيني شي جين بينغ في الفترة الأخيرة مبهرة. بعد ترسيخ سطوته على السلطة خلال المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الصيني، في تشرين الأول 2022، ردّ شي على اندلاع الاحتجاجات العامة عبر التخلي فجأةً عن سياسة "صفر إصابات" الصارمة والمكلفة التي دعمها سابقاً لمكافحة أزمة كورونا. من الواضح أنه عدّل، ولو جزئياً، مقاربته اللينينية للتعامل مع الاقتصاد المحلي، وحاول طمأنة القطاع الخاص الصيني وتجديده في ظل تباطؤ النمو الاقتصادي بعد جهوده السابقة لكبح شركات صينية مثل "علي بابا".

الأهم من ذلك هو سعي الصين راهناً إلى التصالح مع العالم الخارجي كجزءٍ من جهود أوسع لتحسين صورتها العالمية، وإعادة تحريك النمو الاقتصادي، وتعطيل الجهود الأميركية الرامية إلى توحيد عدد من البلدان الأساسية ضمن تحالف ضد الصين. لكن هل ستنجح هذه النسخة الأخيرة من "الهجوم الصيني الساحر"؟

كانت نتائــج السياسة الخارجية التي طبّقها الرئيس الصيني في السابق واضحة: أجمع الحزبان الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة على التصدي "للتهديد الصيني"، واحتدمت الحرب التجارية المتطورة تقنياً، بما في ذلك فرض قيود تصدير لإعاقة القطاع التكنولوجي في الصين، وترسّخ تحالف "الحوار الأمني الرباعي" المؤلف من الولايات المتحدة، واليابان، والهند، وأستراليا، وقررت اليابان أن تزيد إنفاقها على الدفاع بحلول العام 2027 وتوثّق تعاونها مع الولايات المتحدة، وألمحت كوريا الجنوبية إلى احتمال اكتسابها أسلحة نووية (إنه جزء من ردّها على تحركات كوريا الشمالية لكنه انعكاس لمخاوفها من الصين أيضاً)، وأخيراً تدهورت صورة الصين في الاتحاد الأوروبي، وأستراليا، وأماكن أخرى كثيرة.

أصبحت الحاجة إلى تغيير المسار الصيني واضحة في الفترة الأخيرة، لذا بدأت بكين تُعدّل تصرفاتها. شارك شي جين بينغ ونظيره الأميركي جو بايدن في لقاء ودّي خلال قمة مجموعة العشرين في بالي. كذلك، رحّب شي بالمستشار الألماني أولاف شولتس في بكين خلال زيارة رسمية، وقابل الرئيس الصيني شخصياً رؤساء دول في جنوب شرق آسيا، وسافر إلى المملكة العربية السعودية لإجراء سلسلة لقاءات من تحضير الأمير السعودي محمد بن سلطان. في غضون ذلك، أعلن نائب رئيس الحكومة الصيني، ليو هي، في دافوس أن "الصين عادت إلى الساحة" وأكد على "انفتاح البلد على الأعمال التجارية". في الوقت نفسه، بدأ مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي التابع للحزب الحاكم يصدر توجيهات مُشجّعة لرجال الأعمال بهدف تحسين النمو الاقتصادي. ظهر ليو أيضاً إلى جانب وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين ودعاها إلى زيارة بكين، ما يثبت اهتمام البلد بتعزيز التنسيق الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة للمرة الأولى منذ سنوات. لكن هل ستنجح هذه المبادرات كلها؟ تتوقف النتيجة على عوامل أخرى.

على المدى القصير، من المتوقع أن تتجاوب مناطق عدة مع تخلي الصين عن دبلوماسية "الذئب المحــــارب" وتأكيدها عـلى رغبتها في توثيق العلاقات الاقتصادية مع بلدان أخرى. تنجم مكانة الصين وتأثيرها في العالم اليوم عن حجم اقتصادها وزيادة تقدّمها التكنولوجي. لكنّ توسّع قوتها العسكرية يقلق جهات أخرى. حتى أقرب الحلفاء إلى الولايات المتحدة لا يريدون قطع روابطهم الاقتصادية مع الصين (ولا حتى عدد كبير من الشركات الأميركية)، رغم اعتراضهم على ممارسات الصين في مجال حقوق الإنسان ومحاولات تغيير الوضع الإقليمي الراهن. في هذا السياق صرّح رئيس الوزراء الهولندي، مارك روتي، في دافوس، خلال الأسبوع الماضي: "تبقى الصين قوة اقتصادية كبيرة ذات قدرات هائلة وقاعدة ابتكار ضخمة، رغم المخــاوف الأمنية المشروعــة التي تطرحها". كرر وزير المال الفرنسي، برونو لومير، الفكرة نفسها فقــــال: "الولايات المتحدة تريد أن تعادي الصين، لكننا نريد التواصل معها... أنا مقتنع لأقصى درجة بضرورة أن تكون الصين جزءاً من هذه اللعبة العالمية واستحالة إخراجها منها".

هذه التطورات تدعو الصين إلى وقف محاولاتها الرامية إلى تحديد إيقاع التغيير بنفسها وتبنّي سياسة مبنية على الصبر الاستراتيجي. يُفترض أن تُركّز في المقام الأول على النمو الاقتصادي المحلي، لا سيما في أهم مجالات التكنولوجيا المتقدمة، ما يزيد رغبة الدول الأخرى في الحفاظ على روابط وثيقة معها ويثنيها عن المشاركة بالكامل في ضوابط التصدير الأميركية والتدابير الأخرى التي لجأت إليها واشنطن لإبطاء النمو الصيني. كذلك، يجب أن تتابع الصين جهودها لكسب النفوذ داخل المؤسسات العالمية القائمة. ستزيد فرص نجاحها إذا لم تقلق الدول الأخرى من طريقة استعمال بكين لنفوذها المتزايد مستقبلاً.

قد تستفيد هذه المقاربة أيضاً من التزام الصين القوي (ولو أنه غير متماسك بالكامل) بالسيادة الوطنية، بما يشبه بنود معاهدة وستفاليا. لا يُعتبر النموذج السياسي الصيني جاذباً على المستوى العالمي، لكنه لا يفرض على الدول الأخرى طريقة تنظيم سياساتها الداخلية، وهو يدعم صراحةً حق كل بلد بتحديد نظام حُكمه بنفسه. في المقابل، تميل الولايات المتحدة إلى إلقاء المحاضرات على مسامع الآخرين بشأن طريقة حُكم بلدانهم، وهي لا تكف عن محاولة إقناع البلدان الأخرى بتبنّي قِيَمها الليبرالية. قد تصبح مقاربة بكين الأقل ميلاً إلى التدخل بالعلاقات الثنائية أكثر جاذبية بالنسبة إلى الدول غير الديمقراطية الأخرى. تجدر الإشارة إلى أن عدد البلدان غير الديمقراطية يفوق الديمقراطيات الحقيقية بفارق كبير في العالم المعاصر.

لكن إذا عجزت الصين عن العودة إلى نسخة من استراتيجيتها السابقة المبنية على «الصعود السلمي»، لا مفر من أن تصبح محاولات ضبط العلاقات الراهنة محكومة بالفشل. قد ينجم هذا الفشل عن التزام شي جين بينغ المستمر بتحقيق أهداف معينة (مثل إعادة توحيد الصين مع تايوان) خلال حياته وعهده الرئاسي، مع أن أي هجوم عسكري ضد الجزيرة يطرح مخاطر كبرى وقد يجعل المخاوف من الصين تبلغ مستويات قياسية. أو قد تفشل هذه الجهود لأن قادة الصين يظنون أن بلدهم يتجه إلى ذروة ازدهاره، ما يعني ضرورة تعديل الظروف الراهنة وترسيخها قبل أن يصبح هذا الهدف بعيد المنال بسبب خليط من التبدّلات الديمغرافية، والركود الاقتصادي، والتوازن الإقليمي.

يُفترض أن يستخلص قادة جميع الدول الكبرى (وبعض الدول الصغرى أيضاً) درساً مهماً من كل ما يحصل. نادراً ما تردّ البلدان في النظام الدولي بطريقة قوية وسلبية حين يسجّل اقتصاد بلد خارجي نمواً متسارعاً، حتى أنها ترحّب بهذا النمو في معظم الحالات لأنها تستطيع الاستفادة من فرص اقتصادية متوسّعة. قد تصبح هذه السياسة قصيرة النظر إذا سمحت للمنافسين بالتقدّم بوتيرة أسرع مما كانوا ليفعلوا في ظروف مختلفة، ومع ذلك لا تزال هذه النزعة شائعة على نطاق واسع. لن تشعر الدول الأخرى بذعر كامل وتبدأ باتخاذ خطوات مباشرة لاحتواء المشكلة إلا إذا قررت أي قوة ناشئة أن تستعمل ثقلها المستجد، لا سيما إذا سعت إلى تغيير الوضع القائم بالقوة، وهو ما تحاول روسيا فعله راهناً في أوكرانيا.

كانت الولايات المتحدة محظوظة جداً في هذا المجال بالذات: لم يطلق الصعود الأميركي خلال القرن التاسع عشر أي ردة فعل عدائية لأن البلد يقع على مسافة بعيدة من القوى الكبرى الأخرى، وكانت هذه الدول أكثر قلقاً من بعضها البعض، وتمكنت الولايات المتحدة من التوسع في أنحاء أميركا الشمالية من دون الاضطرار لمحاربة أي منها مباشرةً. في المقابل، لا يُعتبر وضع الصين اليوم إيجابياً بالقدر نفسه، إذ لا يزال شعب تايوان يعارض بشدة أن تحكمه بكين ولا يمكن إجباره على التوحد مع الصين إلا عن طريق التحرك العسكري. سيتوقف نجاح أحدث "هجوم صيني ساحر" إذاً على اعتراف شي جين بينغ وشركائه بهذه المشكلة، واستعدادهم لإبقاء طموحاتهم القومية تحت السيطرة، وتركيزهم على متابعة بناء قوتهم الاقتصادية محلياً.