كارين عبد النور

ملفّ مقتل الطالبة ماغي حمود على قارعة الحقيقة والعقاب

"راحت عالمدرسة بالمريول... ورجعت بالكفن"

2 شباط 2023

02 : 01

الصبية الحلوة
«كانت تحبّ غروب الشمس كتير»، كما تخبرنا شقيقتها. لكنها، أغلب الظنّ، لم تعتقد للحظة أن شمسها ستنطفئ على غفلة إلى غير رجعة. لا يجب أن ننسى ماغي حمود. الشابة التي غادرتنا ذات يوم من تشرين الثاني الماضي. كيف ننسى والسّبب لا يُعقل. قنطرة إحدى غرف مدرسة «الأميركان» الرسمية المختلطة في جبل محسن الطرابلسية اختارت أن تنهار فوق رأسها. لكن هل تغيب شمس الحقيقة في أدراج قضاء يأكل نفسه؟ نجول بين جدران منزل ماغي ونعرّج- كي لا ننسى- على ملفّ القضية.

الوالد والوالدة ما زالا تحت وقع الصدمة، وفي صمتهما ألم أكثر بلاغة من لغات العالم. وحدها دوللي، الشقيقة الكبرى لماغي، كسرت ذلك الحاجز وفتحت قلبها لنا بكلام مدجّج بدموع الألم والحرقة على غياب من وصفتها بـ»حياة البيت». «يلّي صار صعب كتير. تخايلي أختي راحت عالمدرسة بالمريول ورجعت بالكفن. هيدا آخر شي كنّا منتخايلو، وبعدنا لهلّأ منّا قادرين نصدق». هكذا لخّصت دوللي واقع العائلة المأسوي الذي انقلب رأساً على عقب. تجهش بالبكاء وتتساءل: «لم يأخذوا روح ماغي فقط إنما دمّروا حياتنا جميعاً. هل ذنبها أنها كانت تحاول شقّ مستقبلها عبر ثانوية رسمية في دولة وصل فسادها إلى هذا الحدّ؟».



الوالد في صفّ ابنته: من يبرّد قلبه؟



بلسان أقرب الناس

بين لا منطق الحياة ولا عدالة الأرض، نسأل عن باقي أفراد الأسرة. هنّ شقيقات أربع كانت ماغي «الغنّوجة» الصغرى بينهنّ. الأقرب لها سنّاً تتابع دراستها الجامعية في حين أن الشقيقتين الكبريين أنهتا تخصّصهما. «مستقبلنا جميعاً كان معلّقاً على ماغي، أما الآن فلا أمل لدينا بالغد. أختي تجد صعوبة في إكمال دراستها بمجرّد دخولها مبنى الجامعة وتخيّلها أن ماغي هي من كان يُفترض جلوسها على أحد مقاعدها». وبعد صمت عميق، تضيف: «هي شخص كلّو حياة، ما بعرف كيف العمر سرقها هيك. يمكن لأنها أنضف من كتير أشياء بالبلد. كانت تعشق التصوير، وتلتقط الكثير من الصور. كأنها كانت تريد التزوّد بأكبر قدر من معالم الحياة وتوثيق ما أمكن قبل انقضاء الحلم». التخصّص في الرياضيات أو الكيمياء أو حتى فن التصوير كان محور أهدافها. ولكن...

وضع رفاق ماغي ليس أفضل حالاً. الصدمة كبيرة إلى درجة أنهم غير قادرين على تقبّل العودة إلى مقاعد الدراسة على أعتاب المشهد الذي حفر في ذاكرتهم. وهذا اختصار بلسان الشقيقة عمّا حصل يومها. «بداية سمعنا من بعض الأقرباء أن حادثاً وقع في المدرسة لكننا لم نعلم بإصابة ماغي. توجّه والدي مسرعاً إلى هناك. ثم وصلني خبر عن تعرّض ماغي لإصابة بالغة فلحقت بوالدي على الفور. ونحن في الطريق اتّصلت بنا أمي لتخبرنا بنقل ماغي إلى المستشفى، وإلى هناك توجّهنا». وتكمل: «أختي فارقت الحياة قبل أن تصل المستشفى. توسّلت الأطباء كي يفعلوا أي شيء لإنقاذها، لكن الوقت كان قد فات. للوهلة الأولى ظننتها مزحة. مستحيل أن تتحوّل الفتاة المفعمة بالحياة إلى جثة هامدة». دوللي كانت أوّل من تعرّف إلى جثة أختها. فهل من وصف لتلك اللحظة؟ «بترجّاكي ما بقدر». وتجهش بالبكاء مجدّداً.



الغروب بعدسة ماغي



ردّ الاعتبار لروحها

ندع الشقيقة تلتقط أنفاسها ثم ننتقل إلى الإجراءات القانونية التي اتّخذتها العائلة بحق المتورّطين. ونسمع منها: «نحن نعرف جيداً أن لا شيء سيعوّض خسارة ماغي، لكن هدفنا ألا تعيش عائلة أخرى ما نعيشه نحن، وألّا نبقى ندور في دوّامة الأرواح المزهقة نتيجة الفساد المستشري». إشارات كثيرة كانت توحي بوجود خلل ما في مبنى المدرسة، كما تشير دوللي. فأختها الوسطى أخبرتها منذ أربع سنوات عن سهولة حفر الجدران داخل الصفوف لتخبئة الهواتف. كيف لجدران مدرسة أن تكون بهذه الهشاشة؟ لا ندري.

على أي حال، العائلة تقدّمت بشكوى شخصية ضد كل من يثبت التحقيق تورّطه. لكن لا مستجدات في الملف إذ لا موقوفين حتى الساعة رغم هول ما حصل. الثقة بالقضاء مهزوزة، وتبريد القلوب صعب، إلا أنّ «ما نطلبه هو ردّ الاعتبار ولو قليلاً لروح ماغي من خلال سجن ومحاسبة المتورطين ومنعهم من الاستمرار في وظائفهم، كي لا تكون هناك ماغي أخرى أو أكثر».

بعيداً عن الأقارب والأصدقاء، مواساة العائلة اقتصرت على بعض أساتذة المدرسة، كما على ممثل وزير التربية، القاضي عباس الحلبي، الذي شارك في الجنازة. أما الوزير، فرفضت العائلة حضوره إلى المنزل لتقديم واجب العزاء. فهو، بحسب دوللي، «امتنع عن حضور جلسة لجنة الأشغال العامة لتحمّل مسؤولياته. وإن كان هناك من واجب يقوم به، فهو محاسبة المسؤولين في وزارته وليس تقديم كلام معسول لنا».



واصف الحركة


المسؤولون كثر

نغوص أكثر في الشق القانوني مع الناشط السياسي والحقوقي في المرصد الشعبي، المحامي واصف الحركة. فقد لفت في حديث لـ»نداء الوطن» أن الجميع ظن، بعد حصول الحادثة، أن المسؤولية تنحصر ضمن كل من وزارة التربية والفريق الفني المكلّف من قِبَلها للكشف على المدرسة، والهيئات المنوط بها التدقيق قبل توقيع العقد الإداري. لكن لا بدّ من الإضاءة على المسؤولية التي تقع على عاتق إدارة الأبحاث والتوجيه في مجلس الخدمة المدنية التي يُشترط موافقتها قبل التوقيع على أي عقد. فهي مخوّلة بدراسة مدى توافر الحاجة للمبنى، إجراء الكشف عليه، التأكد من ملاءمته للغاية المرجوة منه كما الموافقة على قيمة البدلات. «هذا فضلاً عن أن هذا الملف يحمل في طياته الكثير من الفساد كون الرقم المدفوع كبدل إيجار للمبنى مرتفعاً مقارنة مع حالة المبنى، إذ كان يمكن بناء مجمّع مدرسي آمن وعصري بالمبالغ التي دُفعت لمالك العقار»، كما يضيف الحركة.

والد ماغي ووالدا طالبتين جريحتين قاموا بتوكيل محامين لمتابعة الملفّ. هم ادّعوا على الأشخاص الذين كشف مسؤوليتهم بعض التحقيقات الاستقصائية من موظفين ومهندسين وكل من يظهره التحقيق فاعلاً أو شريكاً أو متدخلاً. لكن الأمر لم يتوقّف هنا. فقد اتّخذ أعضاء اللجنة القانونية في المرصد الشعبي من المحامين صفة الادعاء الشخصي وهم يتابعون التحقيق تحت هذه الصفة. ماذا يعني ذلك؟ بما أن الملف يتضمّن سوء استغلال للوظيفة العامة، من ناحية، وهدراً للمال العام، من ناحية أخرى، اعتبر محامو المرصد الشعبي أنهم يتمتعون بالصفة ليبادروا بالادّعاء. ويتابع الحركة: «اتخاذنا صفة الادعاء الشخصي هدف إلى متابعة إجراءات التحقيق والتأكد من جديّتها خاصة بعد أن قرّر الأهالي بداية العزوف عن الإدّعاء. من هنا كان حرصنا على ألا يُترك الملف للضغوط والتدخلات التي يمكن أن يلجأ إليها المتورطون لا سيما أن لدينا معلومات عن توقيف عقود مدارس أخرى». وهنا يُطرح السؤال: كيف يجري توقيع العقود أساساً ومن هي الجهات المستفيدة من عقود فيها هدر للكثير من المال العام؟



مروان حمادة



مفاجآت مقبلة؟

بالعودة إلى أجواء الجلسة الأولى، وفي سابقة من نوعها، انتقل قاضي التحقيق الأول في الشمال، سمرندا نصار، إلى المدرسة حيث أجرت معاينة ميدانية لموقع الحادثة بحضور من رغب من أطراف النزاع، ووضعت أختاماً بالشمع الأحمر على مسرح الجريمة تمهيداً للمعاينة الفنية الإضافية من مختصّين. كما انعقدت جلسة ثانية سريعة جرى فيها ضمّ الدفوع الشكلية المقدّمة من المدّعى عليهم للأساس، وتبعتها جلسة ثالثة يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي حيث ضُمّ المزيد من الدفوع الشكلية في حين عُيّنت الجلسة الرابعة في السابع من الشهر الحالي لاستجواب المدّعى عليهم. أربع جلسات عقدت حتى اليوم بين شهري كانون الثاني وشباط، فهل ينمّ ذلك عن جدّية في التعاطي مع الملف؟ «نعتقد أن مسار التحقيقات القضائية أكثر من جدّي ولن يكون هناك تهاون مع المجرمين الذين قد يثبت تقصيرهم أو تورّطهم في صفقات الفساد. اللجنة القانونية في المرصد الشعبي، جرياً على عادتها، تحاول الاستحصال على مستندات لتعزيز أي ملف قضائي تلاحقه. كما نعد بتقديم مفاجآت إضافية نترك مسألة الإفصاح عنها لجلسات التحقيق وذلك للاقتصاص من المرتكبين مهما علا شأنهم»، يجيب الحركة.

متابعون يتحدّثون عن فضيحة كبرى في هذا الملف تتمثّل بالتوقيع على عقد الإيجار مع الطلب من المالك إجراء بعض أعمال الترميم. وهذا أمر لا يحصل عادة في العقود الموقّعة مع الإدارة، إذ يُفترض توقيع العقد بعد التأكد من توافر جميع متطلبات السلامة العامة. فهل يكون هذا الملف أيضاً مدخلاً لاتّخاذ الإجراءات المناسبة وكشف الفساد الحاصل لدى توقيع العقد؟ الجواب رهن الجلسات المقبلة.

خلافات ومحسوبيات

بعد محاولات فاشلة للاتصال بوزير التربية، تواصلت «نداء الوطن» مع مستشاره، ألبير شمعون، الذي اعتبر أن الملف بات في عهدة القضاء وهو المخوّل كشف هويّة المتورطين. وفي اتصال مع وزير التربية السابق، النائب مروان حمادة، حمّل الأخير جزءاً من المسؤولية إلى قسم الأبنية والصيانة التابع للوزارة. وفي ما خص المبالغ المخصّصة لإعادة ترميم المدارس الرسمية والتي ما زالت موجودة (كما يُفترض) في أدراج الوزارة، قال: «المبالغ لم تُصرف لأن الفريق المحسوب على «التيار الوطني الحر» والذي عُيّن أيام وزير التربية السابق، الياس بو صعب، في الوزارة هو من تحكّم بلوائح التوزيع. وقد دبّ خلاف حول أحقيّة التوزيع حيث تركّز الاهتمام على مدارس جبل لبنان وبيروت لأهداف سياسية، رغم أن طرابلس التي تضمّ مدارسها مئات الطلاب لها الأولوية. وهكذا توقّف الصرف على بوابة الخلافات والمحسوبيات المناطقية».

هو بلد معلّق بقضّه وقضيضه على خشبة الخلافات والمحسوبيات. لكن هذا معلوم ولن يفيد ماغي أو عائلتها بشيء. هؤلاء اجتمعوا عشية الحادثة بانتظار يوم آخر. وفي صباح اليوم التالي، طبعت ماغي قبلة أخيرة على جبين والدتها قبل الرحلة الأخيرة... إلى المدرسة. رحلة أوّلها مريول وآخرها كفن. عسى ألا تكون رحلة تحقيق العدالة بهذا القدر من التراجيدية.