مجيد مطر

تهافت الظلامية

4 شباط 2023

02 : 00

قبل سنتين، إستهدفت رصاصاتٌ غادرة، رأس لقمان سليم. حملت تلك الرصاصات دلالاتها الظلامية، باستهدافها المباشر لجمجمته. الرصاصات أخبرت ما يضمره القاتل من كره لحرية التفكير، القادرة على تكريس حرية المجتمع وتحريره.

الرصاص والتفكير ضدان لا يلتقيان. إنّه المحتوى الدلالي للتسلط الذي يشي بخوف وجودي من الأفكار الحرة، ومن قائلها أو كاتبها. هذا ما نجده بكلام القاضي في عهد موسوليني عندما حكم على انطونيو غرامشي بالسجن المؤبد: «كي نوقف هذا العقل عن التفكير».

لقمان المقتول غيلة، كان صاحب مفردة لغوية غزيرة، يحكي كما يكتب. شديد الاهتمام باللغة، لدرجة أنّ كلّ ما ينتجه من كتب وتقارير، ممنوع أن يصدر بلا تشكيلٍ للنصّ، كلمة بكلمة، حرف بحرف. غالباً ما كان يقوم هو نفسه بهذه المهمة الصعبة والمملة. فمدلول الكلمة عنده لا يكتسب أهميته بلا تناسق الشكل والمضمون.

لا يختلف عاقلان، على أنّ لقمان كان خصماً ديمقراطياً شريفاً لمنظومة الممانعة وفي مقدمها «حزب الله». لم يكن يملك السلاح ولا الجماهير التي سوف تغلق الطرقات، أو تشعل حرباً أهلية على اغتياله. كان سلاحه «منه وفيه» الاعتراض عبر الأفكار. أمام ناظريَّ كان يواجه كل حملات التخوين والتهديد بابتسامة الواثق، كأنّه في وجدانه يقول: إنّها ضريبة مقبولة لنقد السلطة الظاهرة أو تلك الضمنية. رده على كلّ من يحذره أن يحتاط، يتمثل بجملة واحدة: ما أقوله في السر أقوله في العلن. وهذا لعمري الخصومة الشريفة.

لقد ظُلِمَ كثيراً عندما تم تخوينه ظلماً وبهتاناً. أطنان من العنف المعنوي قد رميت أمامه وفي وجهه، فهو لم ينازعْ أحداً على سلطة تافهة، أو مناصب أو نفوذ، كل هذه الأشياء لم تكن في حسبانه، إنما عقله كان غارقاً في التغيير داخل المجتمع اللبناني.

وكان يدرك أنّ التغيير في البنى الاجتماعية دونه خرط القتاد، أما التغيير على المستوى السياسي فهذا أمر سهل جداً. التغيير في ميدان الاجتماع هو مهمة المفكرين، والمثقفين، وأصحاب الرأي، وهذا ما يؤدي إلى تغيير في بنية المجتمع نحو مزيد من الانفتاح والديمقراطية. أمّا تغيير سلطة بغيرها، فأمر آخر، حيث صنّاعه من طينة الانتهازيين، والشعبويين، بالطبع من دون تعميم مطلق.

أطلق لقمان على الطائفة الشيعية لقب «الطائفة الفتاة»، نظر إليها كقوة صاعدة، يمكن لها من خلال ما تحمله من امكانيات على مختلف الصعد أن تغير وجه لبنان نحو الأفضل، من دون أن تمس عقده الاجتماعي، أو تسعى للهيمنة عليه، فهي في نظره، صاحبة مصلحة مباشرة في أن يكون لبنان دولة سيدة مستقلة. عنده خصوصية لبنان من خصوصية طوائفه، ومن ضمنها الطائفة الشيعية.

لقمان كمفكر وقارئ متعمّق لتاريخ هذه الطائفة، كان ينظر لجبل عامل نظرة مختلفة، يرى فيه الكثير من الأحداث، التي جعلت منه جغرافية ساحرة، كان شديد الإعجاب بتجربة العامليين التاريخية، فقد أثنى مرّة على توصيف قد قيلَ: إن من خلال ما خبره جبل عامل من أحداث وتحديات أصبح لدينا «روحاً عاملية» خاصة، هي خليط من كل شيء: اللكنة، حب الأدب والشعر، المبادرة وأشياء أخرى.

لقد ربط كمدير لمركز أبحاث متخصص في التوثيق، بين ما هو مكتوب، وما هو محكي. أرشف الكثير من الأحداث والروايات على لسان من عايشها عن قرب، أو نقلاً عن آخرين خبروها وتأثروا بها.

لقمان مؤسس لكثير من المبادرات السياسية والفكرية والحقوقية، أهمها بناء «الذاكرة اللبنانية»، فقد كرّس الكثير من وقته لقضية مفقودي الحرب اللبنانية. في عرفه لا دولة بلا ذاكرة، ولا مجتمع بلا نظرية حقوق متماسكة للأموات قبل الاحياء. فحق هؤلاء أن يُكشف مصيرهم ويكشف ظالمهم، ليكون هذا عبرة للاجيال القادمة.

فلا يمكن، أن تسامح أو تنسى تحت ضغط جهل الحقائق والتعمية عليها. فالمسامح يجب أن يعرف على ماذا يسامح. يرتبط هذا في مسألة الإفلات من العقاب، التي تحولت إلى ثقافة سلطوية، مطلب الحقيقة سيواجه بالقمع والتخوين، والاغتيال المعنوي قبل المادي.

لقمان قتل على خلفية سياسية، فعدم استباق التحقيق وعمل القضاء كسلطة أخيرة في قول ما يجب قوله، لا يمنع من التأكيد أن قتله جريمة سياسية.

استهدافه جاء اولاً، من خلفية كره واحقاد شخصية. إستهدف كحالة فردية استثنائية قادرة على ان تلعب دوراً مهماً داخل الطائفة الشيعية وخارجها، فاستُهدف هذا الدور!.

ومن خلفية ظلامية تعادي النور، وترتاب من النقد والتفكير، وقول ما لا يجب ان يقال، نُفذت الجريمة السياسية بحقه، لأن كل ما كان يقوم به لقمان يبدأ من السياسة، ويعود اليها. سياسة الاحرار ضد سياسة القمع والاستبداد.

ولأن القتل لم يحدث يوماً فرقاً كثيراً، دائماً تتهافت الظلامية الحاقدة.

ومع ذلك لو عَرف القتلةُ لقمان سليم حق المعرفة لما قتلوه!...


MISS 3