شيريل ل. ريد

هل تدفن كازاخستان ماضيها النووي؟

8 شباط 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

من ضحايا التجارب النووية في كازاخستان

في السهوب العشبية البعيدة في كازاخستان، حيث فجّر العلماء العسكريون السوفيات 456 قنبلة نووية منذ عقود، يستطيع السياح من جميع أنحاء العالم أن يرتدوا بدلات واقية بيضاء، ويضعوا أقنعة، وينتعلوا جزمات مطاطية، ويدفعوا للدليل السياحي مبلغ ألف دولار مقابل جولة ليوم واحد في مجمع الاختبار، حيث رسّخ الاتحاد السوفياتي السابق مكانته كقوة نووية عظمى بدءاً من أواخر الأربعينات.



ساهم موقع "سيميبالاتينسك" للتجارب النووية، المعروف باسم "بوليغون" أو "المضلع النووي"، في إطلاق العصر النووي وعرّض بين نصف مليون شخص ومليون ونصف نسمة لجرعات مرتفعة من الأشعة. لكن يقوم السكان المحليون اليوم بصيد الأسماك والسباحة في بحيرة مجاورة، ويرعون مواشيهم وخيولهم في تلك الأرض، ويقطفون الفراولة البرية، ويصطادون الأرانب. عند التجول في ذلك الموقع، يسهل أن نشاهد أكواماً من النفايات، وزجاجات الخمور الفارغة، وآثار الفحم المشتقة من نيران المخيمات. لا وجود لأي نقاط تفتيش، أو أسوار، أو لافتات تحذيرية للدلالة على وجود الإشعاعات حتى الآن في تلك الأرض الممتدة على 7065 ميلاً مربّعاً.

إنه وضع خطير وينسبه بعض النقاد إلى إهمال كازاخستان أو حتى جشعها: قد تنجم هذه الحالة عن خليط من قلة كفاءة الحكومة، وغياب التمويل لتشديد تدابير السلامة في تلك المساحة الشاسعة، ورغبة في تشغيل الموقع عبر تأجير الأرض لشركات التعدين.

حتى أن البعض يربط هذا الإهمال برغبة الحكومة في طمس ذكريات مزعجة عن المرحلة التي كانت فيها كازاخستان تحت رحمة نزوات موسكو الذرية. في السنوات الأخيرة، تدهور الوضع لدرجة أن يبدأ اللصوص بنهب بقايا حقول التفجير للحصول على حديد التسليح، والأنابيب، والكابلات، وإعادة بيعها، فتزول بذلك جميع الآثار المتبقية في ذلك الموقع التاريخي وتتلاشى المخاطر التي لا تزال تطرحها حتى اليوم.

تقول ماغدالينا ستاوكوفسكي، أستاذة مساعِدة في الأنثروبولوجيا الثقافية والطبية في جامعة "ساوث كارولينا": "أظن أن المشكلة تتعلق بالمال والإرادة ومحاولة نسيان الماضي. من الأسهل أن يتجاهل المعنيون الوضع ويغيروا استعمالات الأرض بدل جعلها آمنة".

لكن بغض النظر عن حقيقة ما يحصل، جاءت تهديدات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا على مر السنة الماضية لتسلّط الضوء على مخاطر نسيان تاريخ الأراضي التي تشبه البوليغون.

اليوم، أصبح موقع البوليغون جزءاً من "قوائم السياحة المظلمة"، إلى جانب مواقع تاريخية بارزة تُعرَف بمظاهر الموت والمأساة والمعاناة، مثل "ألكتراز" بالقرب من سان فرانسيسكو، و"سراديب الموتى" في باريس، ومحطة تشيرنوبيل للطاقة النووية ومدينة "بريبيات" المهجورة.

لكنّ البوليغون ليس مجرّد وجهة سياحية. تم إغلاق الموقع لاختبار القنابل في العام 1991، لكن لا تزال هذه المنطقة أشبه بمختبر عملاق للعلماء من جميع أنحاء العالم، حيث يحللون آثار التعرض للأشعة في جميع المجالات، بدءاً من النباتات والحيوانات وصولاً إلى الممرات المائية الجوفية والسطحية، فضلاً عن الجماعات السكانية المجاورة والمنحدرين منها. يدير "معهد كازاخستان للسلامة الإشعاعية والبيئة" هذا المجمع، وهو يتعاون مع منظمات أجنبية مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ويستضيف مؤتمرات علمية وينشر مقالات بحثية متنوعة.

في أعلى البوليغون، تقع مدينة "كورتشاتوف" الصغيرة التي كانت المقر الإداري والبحثي لحقول تجارب التفجير السابقة. يعمل جزء كبير من سكانها في "معهد السلامة الإشعاعية والبيئة" أو "المركز النووي الوطني" الذي يشرف على الأبحاث في البولغيون، بما في ذلك مفاعلان نوويان يُستعمَلان للأبحاث العلمية.

سُمّيت المدينة تيمناً بعالِم الفيزياء السوفياتي إيغور كورتشاتوف الذي كان يدير التجارب النووية هناك ويُعتبر عرّاب القنبلة الذرية السوفياتية. تشمل البلدة تمثالاً كبيراً له، وثمة تماثيل مماثلة في المقر الرئيسي: إنه تكريم غريب لأنه يستذكر ضحايا الإشعاعات في مدينة "سيمي" المجاورة.

يتركّز قطاع الأبحاث المرتبط بالإشعاعات في "كورتشاتوف" داخل مجمع واسع من المختبرات والمباني الإدارية التي تغطي أكثر من 20 هكتاراً في المدينة. ويقع أقرب موقع تفجير على بُعد 31 ميلاً من "كورتشاتوف"، لكن لا تزال تداعيات الإشعاعات تؤثر بالمقيمين هناك وسكان قرى أخرى محيطة بالبوليغون. بين العامين 1949 و1989، فجّر السوفيات أكثر من 50 ميغا طن من الأسلحة النووية في "سيميبالاتينسك"، أي ما يساوي 3333 قنبلة بحجم تلك التي سقطت على هيروشيما، وفق وثائق وزّعها "المركز النووي الوطني".

رغم استمرار الأبحاث حول الإشعاعات في المنطقة، يجب الالتزام ببعض التدابير الوقائية لزيارة البوليغون مقارنةً بمواقع مماثلة حول العالم. قبل بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، حين زرتُ منطقة تشيرنوبل المحظورة والممتدة على أكثر من ألف ميل مربع، اضطررتُ لتقديم جواز سفري مسبقاً والمرور بعدد من نقاط التفتيش وبآلتَين لرصد آثار الإشعاعات على الملابس والأحذية. كذلك كانت المنطقة تشمل الأسوار، واللافتات التحذيرية، وعدداً من الحراس والدوريات العسكرية.

لكن عندما زرتُ "سيميبالاتينسك" في أواخر شهر أيلول، قدّم دليل سياحي طلباً لمنحي إذناً بزيارة الموقع. لكننا لم نشاهد أي حراس. حين كنا نسير على طول الضفاف المنحدرة للبحيرة الذرية (بحيرة بركانية المنشأ بعمق 328 قدماً انبثقت من انفجار نووي)، لم يكف عدّاد "غايغر" عن الصفير بنطاق إشعاعي يفوق المعدل الطبيعي بثلاث عشرة مرة. وبما أن أكبر مصدر خطر في البحيرة يتعلق بتنشيط الغبار الإشعاعي على الملابس أو تشنّق الغبار، اضطررنا لارتداء بدلات كاملة ووضع الأقنعة على وجوهنا.

تجوّلنا في الأراضي الإشعاعية والملوثة من الحقول التجريبية، فاستكشفنا صوامع الصواريخ، والبحيرات بركانية المنشأ، والمخابئ تحت الأرض، ومراكز القيادة. لكننا شاهدنا أيضاً أنقاض المباني وجرافات ورافعات اللصوص الذين كانوا يجهلون وجود الإشعاعات أو لا يمانعون التعرض لها.

يقول أسان عيدرخانوف، مدير "معهد السلامة الإشعاعية والبيئة": "حراسة الأرض تفوق قدراتنا. نحن نتكلم مع الناس ونخبرهم بأن هذه النشاطات قد لا تكون آمنة. لكنّ هذه المهمة ليست من مسؤوليتنا".

تقع مسؤولية تشديد معايير السلامة في البوليغون على عاتق ثلاث حكومات إقليمية تعتبر منطقة التفجير "أراضيَ محمية". تؤجّر الحكومة "أراضيَ نظيفة" في البوليغون إلى شركات متنوعة تستخرج الفحم، والذهب، ومعادن أخرى. لكن ينشط جزء من تلك الصناعات داخل مناطق تعتبرها الحكومة "أراضيَ قذرة" أو بالقرب منها، على غرار مصنع الفحم في جوار "البحيرة الذرية".

توضح ستاوكوفسكي: "يُفترض ألا يُسمَح للناس بحفر هذه المناطق. الأمر أشبه بحفر الغابة الحمراء (في إشارة إلى أرض شديدة الإشعاع بالقرب من مفاعل تشيرنوبيل النووي). إنه منجم من الملوثات. في الحد الأدنى، يجب أن يبني "المركز النووي الوطني" الأسوار في محيط المناطق الأكثر إشعاعاً وينشر اللافتات التحذيرية. كذلــك، يُفترض أن يوزع المركز خرائط على المزارعين كي يعرفوا المناطق الآمنة ويرعوا المواشي والخيول فيها. في نهاية المطاف، يتعلق هدف "المركز النووي الوطني" بجعل البوليغون مناسباً للمشاريع. لكن لا يمكن التخلص من الإشعاعات. يبلغ عمر النصف للبلوتونيوم [أحد العناصر المستعملة في الأسلحة النووية] 24 ألف سنة". إنها المدة اللازمة لتحلّل نصف النوى الذرية للإشعاعات.

لوّثت الأشعة المشتقة من التفجيرات المحاصيل، والأراضي، والمواشي منذ وقتٍ طويل، حتى أنها سببت مشاكل صحية خطيرة. رصدت ستاوكوفسكي وباحثون آخرون حالات متزايدة من أمراض سرطانية نادرة لدى المقيمين بالقرب من البوليغون.

هذه المشكلة ليست معزولة. تُعتبر كازاخستان أول مُنتِجة لليورانيوم في العالم، فهي تقدّم حوالى نصف المجموع العالمي. كذلك، بُنِيت قرى وبلدات كثيرة فوق مخلفات مناجم اليورانيوم، وتشير تقديرات الخبراء إلى وجود 230 مليون طن من المخلفات الإشعاعية في 529 موقعاً داخل كازاخستان.

بالنسبة إلى البعض، تطرح خسارة ماضي البوليغون خطراً هائلاً. برأي ديمتري كالميكوف، مدير التنمية في المتحف البيئي المجاور "إيكو موزيم" المعني بمخاطر التلوث والإشعاعات، ثمة حاجة إلى الحفاظ على هذا الإرث السوفياتي. كان كالميكوف يحلم بإنشاء متحف في البوليغون حيث يستطيع الزوار تعلّم مخاطر الأسلحة النووية. لكنه يخشى أن يكون الأوان قد فات لأن أكبر المواد أصبحت مفككة الآن، ولا أحد يهتم بتغيير الوضع الراهن.

يشمل مقر "معهد السلامة الإشعاعية والبيئة" متحفاً صغيراً، لكنه يقتصر على عدد محدود من الآثار التي تركها الروس وراءهم. حين انهار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، جمع الروس معظم معداتهم وبياناتهم البحثية وأعادوها معهم إلى موسكو، فخاب أمل العلماء في "كورتشاتوف".

يُلمِح المتحف إلى تأثير الإشعاعات على السكان المحليين بشكلٍ عابر، فيعرض أوعية من الحيوانات المحفوظة في السائل بعد تعرّضها لتحولات بارزة، فضلاً عن صورة صغيرة لرجل مصاب بتشوهات في الوجه بسبب الإشعاعات.

تعطي الآثار والصور المعروضة لمحة عن السبب الذي يدفع بعض الكازاخستانيين في المنطقة إلى اعتبار البوليغون ذكرى مؤلمة عن الماضي السوفياتي، حين كان الروس يحكمونهم ولم يفكروا بتأثير الإشعاعات على حياة آلاف السكان.

تقول كايشا أتاخانوفا، عالِمة أحياء متخصصة بالآثار الوراثية للإشعاعات النووية في "قرغندة" المجاورة: "كل ما يعرفه معظم سكان البلدة هو أنهم شاهدوا سحابة فطر، ثم جاء أشخاص لسحب الدم منهم".

نشأت أتاخانوفا بالقرب من البوليغون ومات عدد من أفراد عائلتها بسبب السرطان، وهي لا تهتم بتدمير موقع التفجير فتقول: "السوفيات أخذوا جميع أسرارهم معهم. تكثر المعلومات الخفية حتى الآن. لن نعرف يوماً حجم المساحة الملوّثة في هذه الأرض".

لكن فيما يناقش الكازاخستانيون أهمية الحفاظ على هذا الموقع، لم تنسَ موسكو إرثها النووي في ذلك البلد. في 2 كانون الأول 2022، اختبرت روسيا صاروخاً جديداً من نظام الدفاع الصاروخي وأطلقته على بُعد 300 ميل فقط من جنوب البوليغون.


MISS 3