غونول تول

الفساد وسوء الحُكم زادا خطورة الزلزال في تركيا

13 شباط 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان متفقّداً أضرار الزلزال في كهرمان مرعش| تركيا، ٨ شباط ٢٠٢٣

في مدينة أنطاكية التركية الجنوبية، وضع بهزات بطانية ومظلّة فوق والده الذي كان عالقاً تحت الأنقاض بعدما تعرّضت المنطقة لواحد من أسوأ الزلازل في التاريخ الحديث وتدمّر المنزل الذي عاش فيه بهزات طفولته. راح هذا الأخير يحفر الأرض بيديه لإخراج والده العالق تحت كتلة أسمنت وأخبره بأن فِرَق الإنقاذ في طريقها إليه.

بعد مرور 24 ساعة مريعة، طلب بهزات من زوجته، وهي شقيقتي غوكشي، أن تَطْمَئِنّ إلى والده لأنه لم يعد يستطيع النظر في عينيه، فقد أخبره بأن المساعدة قادمة لكنّ أحداً لم يحضر. توفّي والد بهزات، ووالدته، وأنسباؤه، وآلاف الأشخاص الآخرين، لأن أحداً لم يقدّم المساعدة المطلوبة.

لم يُدفَن الناس وحدهم تحت الأنقاض، بل دُفِنت معهم الوعود المرتبطة بترسيخ الحُكم الرشيد، وبناء بلد يخلو من الفساد، ودولة قادرة على تلبية حاجات شعبها.

أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تلك الوعود بعدما وصل "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة بنتيجة ساحقة غداة زلزال مدمّر هزّ شمال غرب تركيا في العام 1999. مات حينها آلاف الناس بسبب بطء الردّ الحكومي. في تلك الفترة، نَسَب أردوغان جميع مشاكل التسعينات إلى استفحال الفساد، واختلال عمل الحكومات، وعدم تجاوب مؤسسات الدولة، وتعهّد إحداث تغيير جذري في عهده.

حصل ذلك التغيير ولم يحصل. انتهى زمن المشاحنات الداخلية التي كانت تنشأ بين الشركاء في الائتلاف الحاكم وتَشِلّ صناعة القرار في الحكومة. على مرّ عقدَين في الحُكم، حصر أردوغان السلطة بيده. لكنه عمد إلى تفريغ مؤسسات الدولة لتحقيق هذا الهدف، وعيّن الموالين له في المناصب الأساسية، وقضى على منظمات المجتمع الدولي، وأغنى أعوانه لإنشاء دائرة صغيرة من المناصرين في محيطه.

مهّدت ذروة هذه التطوّرات لوقوع المأساة التي ضربت تركيا يوم الإثنين الماضي. كانت قوة الزلزال كفيلة بجعله قاتلاً، لكن تكشف الأبحاث الأكاديمية أن الزلازل تقتل المزيد من الناس في البلدان التي يستفحل فيها الفساد. ازدهر الاقتصاد التركي في عهد أردوغان بفضل فورة في قطاع البناء. هو أغنى دائرة صغيرة من أقرب الموالين إليه في هذا القطاع عبر منحهم مشاريع البنى التحتية من دون خوض مناقصات تنافسية أو الخضوع لرقابة تنظيمية مناسبة.

أطلقت هذه الشركات حملة واسعة من مشاريع البناء، فشيّدت البنى التحتية والمنازل في نقاط الزلازل الساخنة من دون الالتزام بمعايير البناء المناسبة. في ولاية "هاتاي"، التي كانت من أكثر المناطق تضرراً بعد زلزال يوم الإثنين، انهارت المباني السكنية، والمستشفيات، وحتى الفرع المحلي لرئاسة إدارة الكوارث والطوارئ في تركيا، أو تعرّضت لأضرار كبرى، علماً أن أعوان أردوغان تولوا بناء جزء كبير من تلك المباني. كذلك، انقسم مدرج المطار الوحيد في المنطقة إلى نصفَين بسبب الزلزال، فقد بَنَته شركة مقرّبة من أردوغان فوق واحد من خطوط الصدع.

أدّت النزعة إلى منح حلفاء أردوغان مشاريع البنى التحتية الحكومية (يفتقر معظمها إلى معايير السلامة) إلى وقوع مآسٍ أخرى في الماضي. في السنة الماضية، اجتاحت عاصفة ثلجية مدينة أسبرطة الغربية، فسبّبت أضراراً هائلة وحرمت السكّان من الكهرباء لأسابيع عدة وقتلت عدداً من الناس. قرّر "حزب العدالة والتنمية" خصخصة المؤسسات العامة، فباعها إلى شركات تملكها "جنكيز القابضة" و"كولين القابضة"، وهما شركتان يديرهما أقرب شركاء أردوغان. لم تتّخذ هذه الشركات الخطوات اللازمة للتأكد من قوة البنية التحتية في وجه هذا النوع من الكوارث، وعجزت عن التعامل مع العاصفة الثلجية القوية، ورفضت أي مساعدة من أحزاب المعارضة في البلدات المجاورة، فأطلقت احتجاجات واسعة من السكان والمعارضين ضد نظام المناقصات الفاسد.

في العام 2018، قتل حادث قطار في بلدة "كورلو" الشمالية الغربية 25 شخصاً، منهم عدد من الأطفال، بسبب غياب أعمال الصيانة. وفي العام 2014، بلغ عدد عمّال المناجم الذين قُتِلوا في بلدة "سوما" المُطِلّة على بحر إيجة 301، بعدما أدى انفجار إلى تناثر أول أكسيد الكربون في أنفاق أحد المناجم أثناء وجود 787 عاملاً تحت الأرض. يُعتبر رئيس شركة "سوما القابضة"، ألب غوركان، مقرّباً من أردوغان أيضاً. استفادت الشركة من عمليات الخصخصة في عهد "حزب العدالة والتنمية"، فانخرطت في قطاع البناء وتلقّت عقوداً بقيمة مليارات الدولارات. يقول عمّال المناجم وأحزاب المعارضة إن الشركة لم تتخذ التدابير الأمنية الاحتياطية اللازمة. قبل عشرين يوماً فقط على وقوع الانفجار، أعاق "حزب العدالة والتنمية" الذي يقوده أردوغان مبادرة برلمانية أطلقتها المعارضة للتحقيق بظروف ذلك المنجم.

أصبحت الكوارث أكثر شيوعاً بسبب تجاهل أردوغان وأعوانه معايير السلامة، لكنّ الرد الحكومي البطيء وغير المناسب يزيد خطورة تلك الكوارث. في العام 2021، اجتاحت الحرائق جنوب تركيا، وقتلت تسعة أشخاص على الأقل، وهجّرت الآلاف من منازلهم. تعرّض أردوغان لانتقادات لاذعة بسبب ضعف ردّ الحكومة على ما يحصل وعدم جهوزيّتها للتعامل مع حرائق الغابات الواسعة. اتّهم المعارضون وسكّان المناطق المتضرّرة الحكومة بالفشل في تأمين طائرات مكافحة الحرائق تزامناً مع نقل مليارات الدولارات إلى شركات البناء التي لا تهتم بالمعايير البيئية. اعترفت الحكومة لاحقاً بأنها لا تملك أسطولاً من الطائرات لمكافحة الحرائق وأن الطائرات الموجودة غير قابلة للاستعمال.

مجدداً، كان الردّ الحكوميّ على زلزال يوم الإثنين بطيئاً. في أنطاكية، اضطرّ أفراد عائلتي لانتشال أحبابهم العالقين تحت الأنقاض بأيديهم. حضر فريق من "رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ" بعد مرور 48 ساعة وأخبرنا بكل بساطة بأنه لا يستطيع تقديم المساعدة لأنه تلقّى أوامر بالتركيز على عمليات الإنقاذ في أماكن أخرى. كان الجيش التركي يستطيع الاضطلاع بدور مهم أيضاً، لكن لم يرسل أردوغان أي قوات عسكرية في مرحلة مبكرة بما يكفي للمشاركة في جهود البحث والإنقاذ. وحتى منظمات المجتمع المدني التركية لم تحضر إلى المناطق المتضررة، مع أنها كانت قد أدّت دوراً أساسياً بعد زلزال العام 1999. تنجم هذه الإخفاقات كلها عن سياسة أردوغان المبنية على حصر السلطة بيده، وتجريد المؤسسات من استقلاليتها، وتعيين الموالين له حتى لو كانوا يفتقرون إلى الخلفية التي تسمح لهم باستلام مناصب أساسية، والقضاء على منظمات المجتمع المدني التي لا تدعم أجندة الرئيس.

في بلد معرّض للزلازل والكوارث الطبيعية مثل تركيا، تُعتبر "رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ" وكالة حكومية بالغة الأهمية. لكن تبقى ميزانيتها أصغر من ميزانية رئاسة الشؤون الدينية التي نشأت في الأصل للإشراف على المسائل الدينية لكنها توسّعت في عهد أردوغان وتحوّلت إلى أداة لمنح الشرعية الدينية لسياسات الحكومة. الشخص المسؤول عن الاستجابة للكوارث الطبيعية الطارئة هو خرّيج معهد ديني ولا يملك أي خبرة في مجال إدارة الكوارث.

في غضون ذلك أصبح الجيش التركي، الذي حضر للمشاركة في جهود البحث والإنقاذ بعد ساعات على وقوع الزلزال في العام 1999، ضعيفاً ومسيّساً في عهد أردوغان منذ الانقلاب الفاشل في العام 2016. ألغت حكومة أردوغان بروتوكولاً يُمَكّن القوات المسلحة من التعامل مع الكوارث من دون تلقّي التعليمات من جهات أخرى. هذا العامل يفسّر تباطؤ انتشار القوات العسكرية في المناطق التي تضرّرت من الزلزال.

الزلازل القوية تقتل الناس، لكنها تصبح أكثر فتكاً في بلدان مثل تركيا، حيث يمتنع المعنيون عن تطبيق قوانين البناء، ويصل أشخاص غير مؤهلين إلى أهم المناصب لمجرّد أنهم موالون للرئيس، وتغيب مؤسسات الدولة المستقلة ومنظمات المجتمع الدولي بالكامل، وتُعطى الأولوية لمصالح قلّة فاسدة.

حين كانت شقيقتي وأفراد عائلتها يحاولون سحب جثث أحبابهم من تحت الأنقاض لدفنهم بطريقة لائقة، كان أردوغان ينتقد المعسكر الذي تذمّر من بطء الرد الحكومي على التلفزيون الوطني. هو يريد أن يتقبّل الناس المأساة الأخيرة والكوارث التي سبقتها وكأنها أحداث "مُقدّرة"، لكن بدأ عدد متزايد من الناس يقتنع بأن مشاكل البلد المتفاقمة ترتبط بمسؤول معيّن في أعلى مراتب السلطة.


MISS 3