خلدون أبو عاصي، لمياء المبيض، ديبورالي ترينت

كيف يستفيد لبنان من ثروة النفط والغاز؟

16 شباط 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

باتريك بوياني الرئيس التنفيذي لشركة TotalEnergies خلال حفل توقيع مشترك للتنقيب عن الغاز في لبنان | 29 كانون الثاني ٢٠٢٣

في 27 تشرين الأول 2022، وقّعت إسرائيل ولبنان على اتفاق تاريخي لترسيم الحدود البحرية الفاصلة بينهما بشكلٍ دائم في شرق البحر الأبيض المتوسط. يُعتبر البلدان في حالة حرب منذ العام 1984، ويأتي الاتفاق الأخير بعد أكثر من 12 سنة من التفاوض. قاد الدبلوماسي الأميركي آموس هوكشتاين وفريقه من وزارة الخارجية الأميركية المفاوضات في الفترة الأخيرة.



كانت إسرائيل قد وضعت خطة تنموية للتنقيب عن الغاز في العام 2017 ووقّعت على اتفاق لتصدير الغاز مع مصر والاتحاد الأوروبي في العام 2022. أصبحت عمليات استخراج وإنتاج الغاز قبالة الساحل الإسرائيلي قيد التنفيذ، ومن المتوقع أن تبلغ المبيعات أعلى مستوياتها في الصيف المقبل. في المقابل، لا يزال لبنان متأخراً في هذا المجال، مع أنه بأمسّ الحاجة إلى المكاسب الاقتصادية والمالية التي يضمنها قطاع النفط والغاز. يتوقع بعض الخبراء ألا يتمكن لبنان من إنتاج النفط والغاز قبل مرور خمس أو ست سنوات إذا لم يؤمّن خزانات صالحة للاستعمال التجاري. كذلك، لم يُرَسّم لبنان حدوده البحرية مع قبرص وسوريا بعد، ما يمنع البلد من الوصول إلى أي احتياطيات محتملة أخرى.

وفق معطيات البنك الدولي في كانون الثاني 2022، تُعتبر الأزمة الاقتصادية المستمرة في لبنان من أخطر الأزمات التي شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. بعدما كان اقتصاد لبنان ينتمي إلى الشريحة العليا من الدخل المتوسط طوال 25 سنة، تراجعت مرتبة البلد إلى الشريحة الدنيا من الدخل المتوسط في السنة الماضية. اليوم تبلغ نسبة البطالة حوالى 30%، ويعني مستوى التضخم القياسي أن 74% من اللبنانيين على الأقل يعيشون بأقل من 14$ يومياً. ذكرت وكالة "رويترز" أن الليرة اللبنانية خسرت 97% من قيمتها منذ العام 2019. في الوقت نفسه، أصبحت الخدمات العامة والبنى التحتية على شفير الانهيار، وتلاشت المكاسب المُحققة طوال عقود في مجال التنمية البشرية، وانهــارت المؤسسات العامة.

تتزامن هــــذه التطورات كلها مع اضطرابات سياسية كبرى. فشل لبنان في تشكيل حكومة بعد الانتخابات البرلمانية في أيار 2022، فقد أنتج ذلك الاستحقاق برلماناً عقيماً لا يملك فيه أي طرف الأغلبية المطلقة. ثم تفاقم الوضع مع انتهاء عهد الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الأول من السنة الماضية. عجز البرلمان منذ ذلك الحين عن انتخاب رئيس جديد، وتتولى حكومة تصريف الأعمال راهناً حُكم البلد مع أنها تفتقر إلى الشرعية والصلاحيات.

قد تصبح احتياطيات النفط والغاز الخاصة بلبنان بمثابة حبل نجاة اقتصادي للبلد المحاصر. لكن يصعب إنشاء أي أسس فاعلة لعمليات الاستكشاف والاستخراج مستقبلاً في ظل البيئة السياسية المتصدعة في بيروت. يواجه لبنان ثلاثة تحديات مؤسسية تحول دون استفادته من موارده. لكن قد يستفيد البلد أخيراً من قدراته لتحسين وضع شعبه إذا نجح في تجاوز تلك التحديات.

في المقام الأول، يحمل لبنان تاريخاً حافلاً بالفساد المنهجي والمستفحل والمحسوبيات السياسية، ما قد يمنع البلد من تحقيق المكاسب من عائدات الغاز والنفط. تحتل بيروت المرتبة 150 من أصل 180 على مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، ويمنحه البنك الدولي تصنيفاً سيئاً على مستوى نوعية الحُكم. تنجم معظم هذه المشاكل عن النظام السياسي الطائفي الذي يحكم لبنان، حيث تتقاسم طوائف دينية متنوعة مقاليد السلطة. كذلك، تسيطر شبكات المحسوبيات الطائفية على التعيينات البيروقراطية في معظم الحالات، بما في ذلك وكالات الرقابة وهيئة إدارة قطاع البترول اللبنانية، وهي مؤسسة عامة أنشأتها الحكومة في العام 2012 لتطوير قطاع البترول البحري والإشراف عليه وإدارته.

تُعتبر معايــــير الشفافية والثبـــات وسهولة الوصول إلى المعلومات الحكومية أساسية لجذب الاستثمارات الأجنبية وإعادة الاستقرار إلى قطاع الأعمال اللبناني. لكن استناداً إلى تجارب الماضي، قد يستولي أصحاب السلطة على الاستثمارات الخارجية وأرباح النفط والغاز في لبنان لتحقيق مكاسب سياسية أو خاصة، ما يعني تراجع المنافع التي يحصدها الشعب اللبناني. ينتج تضارب المصالح غير المعلن بين المسؤولين العموميين والمتعاقدين الحكوميين مخاوف من احتمال أن يتدخل السياسيون في عمليات الترخيص من خلال تفضيل متعاقد على آخر أو تأسيس شركات ظل.

اتخذ لبنان بعض الخطوات في السنوات الأخيرة لتحسين معايير الشفافية والمحاسبة وتقليص مظاهر الفساد وسوء الإدارة في الحكومة، بما في ذلك تمرير قانون حق الوصول إلى المعلومات في العام 2017، وهو يمنح المواطنين الحق في استرجاع السجلات الحكومية ومعلومات أخرى، وقانون الشراء العام في العام 2021، وهو يتماشى مع معايير الأمم المتحدة لمحاربة الاحتيال والفساد والاستغلال، وتخفيف الهدر، وزيادة الشفافية في القطاع العام. كذلك، شكّلت الحكومة هيئة وطنية مستقلة لمكافحة الفساد في العام 2022، وهي تُركّز على التحقيق بانتهاكات المسؤولين العموميين للقوانين المعمول بها، مثل الحق بالوصول إلى المعلومات، وحماية المخبرين، والإثراء غير المشروع. لكن لم يتّضح بعد إلى أي حد ستكون هذه التدابير فاعلة.

في العام 2018، أصدرت الحكومة قانون دعم الشفافية في قطاع البترول، وطرحت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد آليات لكشف مختلف جوانب عمليات استكشاف واستخراج النفط والغاز. على سبيل المثال، يُفترض أن يدوّن سجل البترول العلني في هيئة إدارة قطاع البترول التراخيص عند الحاجة، ويمكن تحديث قوانين هيئة إدارة قطاع البترول وتقويتها لرفع مستوى الشفافية والاستقلالية.

حتى لو تمكن لبنان من جني ثروة من موارده، يُفترض أن يُحدد كيفية الحفاظ عليها للأجيال المستقبلية. هذا الوضع يطرح تحدياً كبيراً آخر على لبنان. يفرض قانون الموارد البترولية في المياه البحرية الصادر في العام 2010 على بيروت أن تنشئ صندوقاً للثروة السيادية. في الوقت الراهن، تفكر لجنة برلمانية بأربع مخططات على الأقل لتنفيذ هذه الخطوة. لكن تختلف الاقتراحات التي تطرحها الأحزاب السياسية من حيث تركيبة الصندوق السيادي المحتمل وبنيته وطريقة السيطرة عليه.

يقول المحلل أندرو باور إن الصناديق السيادية قد تصبح "مصدراً للمحسوبيات أو الفساد"، ما يجعل هذه المبادرة محفوفة بالمخاطر في لبنان. قد تنشأ خلافات سياسية وصفقات وراء الكواليس حول طريقة إشراف السلطات الحكومية على إدارة الصندوق، وقد يؤثر التوتر الطائفي على تشكيل مجلس إداري للصندوق. ونظراً إلى عمق الأزمة الاقتصادية في لبنان، يتعلق مصدر قلق آخر باحتمال أن يعيد المسؤولون توجيه عائدات النفط والغاز لتمويل نفقات الحكومة وتخفيف الدين العام بدل استثمارها لضمان أمن وازدهار الأجيال المستقبلية. حين أقدم مصرف لبنان على هذه الخطوة في الماضي، كانت النتيجة فاشلة بامتياز، فقد استنزفت هذه المقاربة الاحتياطيات الأجنبية وخفّضت قيمة الليرة اللبنانية بدرجة إضافية.

تطرح "مبادئ سانتياغو" التي وضعتها "مجموعة العمل الدولية لصناديق الثروة السيادية" توصيات مفصّلة لإدارة الصناديق السيادية بالشكل المناسب، بما في ذلك الشفافية، والمساءلة، والممارسات الاستثمارية الحذرة، والحوار المفتوح. لم يوقّع لبنان على هذه المبادئ في العام 2008 لكن يُفترض أن يفكر بتطبيقها في المرحلة المقبلة. يستطيع البلد أن يفكر أيضاً بمقاربة جذرية تشبه ما طبّقته ألاسكا، حيث حصل كل مواطن على رأسمال مباشر من عائدات الغاز على شكل استرداد للضريبة. أو تستطيع بيروت أن تحذو حذو بنك نورجيس لإدارة الاستثمار، فهو يستثمر عائدات النفط والغاز في سندات وأسهم آمنة تسمح بتجنب الفساد وتضارب المصالح، مع أنها تخضع لقوى السوق.

أخيراً، يكشف أحدث البيانات المتاحة أن لبنان سيواجه أعباءً متزايدة بسبب ضعف قدراته الحكومية، حتى لو توفرت جميع الهياكل المناسبة لإدارة ثروات النفط. أدى تخفيض الميزانية وتآكل الأجور بسبب التضخم المفرط إلى استنزاف الإدارات العامة الضعيفة أصلاً، وسرعان ما حصلت موجة جماعية من الاستقالات والتغيّب عن العمل في الخدمة المدنية، فتسارعت هجرة الأدمغة نتيجةً لذلك.

تبلغ نسبة الشغور في القطاع العام 72% في لبنان. وبحسب أحدث التقييمات الحكومية حول أثر الأزمات المالية على القدرات المؤسسية، تَعَطّل واحد من خطوط الخدمة على الأقل في 52.6% من الوكالات العامة بدءاً من كانون الأول 2021. وأعلن 40% فقط من تلك الوكالات عن قدرته على متابعة توفير الخدمات بعد العام 2022. يشدد تقرير البنك الدولي في العام 2021 على احتمال أن تؤدي هذه الظروف إلى "كارثة كبرى على مستوى الرأسمال البشري لدرجة أن يصبح التعافي منها بالغ الصعوبة".

منذ العام 2019، خسر قطاع النفط موظفي القطاع العام الذين درّبتهم هيئة إدارة قطاع البترول على تنظيم عمليات استخراج الغاز وإنتاجه. الأسوأ من ذلك هو انتهاء ولاية اللجنة الإدارية في هيئة إدارة قطاع البترول في العام 2018، وقد خسرت الوكالة منذ ذلك الحين معظم موظفيها، بما في ذلك عضوان من أصل ستة في اللجنة الإدارية. كذلك، فشلت الحكومة في تعيين لجنة إدارية جديدة بسبب الخلافات السياسية المستمرة، ويتولى الأعضاء الأربعة المتبقون تصريف الأعمال بكل بساطة. على وقع هذا الشغور الجماعي، لم يبقَ إلا عدد ضئيل من الموظفين في القطاع العام لمراقبة عمليات التنقيب والسيطرة عليها بطريقة مسؤولة وقانونية.

من الناحية الإيجابية، لا يسعى لبنان وحده إلى جمع ثروات نفطية جديدة. يُفترض أن يكون الاتفاق البحري الذي أشرف عليه هوكشتاين مقدمة لجهود دبلوماسية مكثفة تهدف إلى تزويد المؤسسات اللبنانية العامة بأدوات جديدة وتُخرِج البلد من حالة الفقر. تستطيع إدارة جو بايدن وحكومات أجنبية أخرى أن تقدم المساعدة عبر الضغط على لبنان لتحسين معايير الشفافية والاستقرار والمساءلة وتطوير قطاع النفط والغاز وتسخير عائداته بأفضل الطرق. كذلك، تستطيع واشنطن أن تشجّع بيروت على تطبيق الأجندة الإصلاحية المتّفق عليها مع صندوق النقد الدولي، فضلاً عن جمع رساميل بشرية ومالية عن طريق المساعدات التنموية الرسمية، والعلاقات مع الشتات، والشراكات المموّلة من الدبلوماسية العامة بين الجامعات الأميركية واللبنانية، والوكالات الحكومية، والمنظمات غير الربحية، وشركات القطاع الخاص.

باختصار، أصبح لبنان على مفترق طرق. تحمل القرارات المرتبطة بطريقة تعامل البلد مع قطاع النفط والغاز الناشئ طابعاً مسيّساً بامتياز، لكن لا يمكن أن تتحول مجدداً إلى شكلٍ من الصفقات السياسية الفاسدة بين سماسرة السلطة في البلد. من خلال تطبيق الشكل المناسب من معايير الشفافية والشمولية والرقابة، تملك بيروت فرصة حقيقية لبناء دولة قابلة للحياة مستقبلاً.