رافاييل كوهي، جيان جانتيل

هل يستخلص الجيش الأميركي الدروس من الحرب في أوكرانيا؟

17 شباط 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

دبابة أوكرانية في خيرسون | أوكرانيا، 18 تشرين الثاني 2022

تُعتبر أي استراتيجية دفاعية في جوهرها مغامرة مكلفة جداً. تنفق الولايات المتحدة سنوياً مئات مليارات الدولارات على الدفاع، على افتراض أن هذه الاستثمارات ستسمح لها بالفوز في أي حرب لاحقة. وفي ظل غياب أي صراع تتورط فيه الولايات المتحدة مباشرةً، نادراً ما يتسنى لصانعي السياسة أن يقيّموا فعالية هذا النوع من الرهانات. قد تظهر هذه الفرصة حين تخوض بلدان أخرى الحرب عبر استعمال التكتيكات والمعدات العسكرية الأميركية، كما يحصل في أوكرانيا اليوم. يتعلق مثال آخر بالحرب العربية الإسرائيلية المعروفة بـ"حرب يوم الغفران"، في العام 1973، حين أوشكت إسرائيل على الهزيمة وفرضت على واشنطن أن تعيد تقييم التكتيكات والأسلحة الأميركية. اليوم، تطرح الحرب الروسية مجدداً السؤال نفسه عن حاجة الولايات المتحدة إلى إعادة تقييم طريقة تحضيرها لأي صراع مستقبلي. لا تقتصر المسألة الأساسية على نوعية الأسلحة التي تشتريها، بل تتعلق أيضاً بنظرتها إلى الحروب بين القوى العظمى في القرن الواحد والعشرين: هل ستكون تلك الصراعات قصيرة وحاسمة أم طاحنة ومطوّلة؟

طوال عقود، حضّرت وزارة الدفاع الأميركية جيشها لخوض صراعات سريعة أو تنفيذ تدخّل قصير تحكمه معايير مثل السرعة والدقة. لكن بعد مرور سنة على بدء الحرب الروسية التي افترض البعض أنها ستقتصر على أيام معدودة في أوكرانيا، يُجدّد هذا الصراع التساؤلات عن عودة عصر الحرب الصناعية. نتيجةً لذلك، يجب أن تستعد الولايات المتحدة لخوض صراعات تختلف بشدة عن تلك التي تُخطط لها اليوم.

تطرح الحرب الراهنة أسئلة حول دور المروحيات في ساحات المعارك المعاصرة، نظراً إلى نجاح الأوكرانيين في تدمير 75 مروحية روسية تقريباً، أو إلحاق الأضرار بها، من خلال استعمال صواريخ دفاعية جوية قديمة نسبياً.

قد تكون الحرب في أوكرانيا برّية بطبيعتها، لكن يطرح هذا الصراع أسئلة مقلقة على البحرية الأميركية أيضاً. يُفترض أن يشكك المعنيون بدور السفن السطحية الكبرى في الحروب المعاصرة بعد إغراق الطراد الروسي "موسكفا"، فضلاً عن تدمير أو تخريب عشرات السفن الروسية الأصغر حجماً على يد بلد يفتقر إلى قوات بحرية خطيرة. في المقابل، يثبت نجاح أوكرانيا في استعمال سفن غير مأهولة وأصغر حجماً أن هذه المركبات قد تكون أداة بديلة عن استعمال القوة البحرية.

كذلك، برزت دروس أساسية في مجالَي الفضاء والعالم الســـيبراني. اعتُبِرت الحرب في أوكرانيا أول حرب فضائية تجارية. بغض النظر عن دقة هذا المصطلح، من الواضح أن شركات الفضاء الخاصة لعبت دوراً هائلاً في الصراع، بدءاً من إبقاء القوات الأوكرانية متّصلة بشبكة الإنترنت وصولاً إلى توفير الصور التي أثّرت على التغطية الإعلامية للصراع حول العالم. في مجال الفضاء السيبراني، تفاخرت روسيا بقدرات لم تُحقق الإنجازات المتوقعة منها في أي لحظة، فزادت التساؤلات حول صوابية اعتبار الهجمات السيبرانية النسخة المقبلة من أسلحة الدمار الشامل، كما يزعم البعض، أو الاعتراف بأن نتائجها محدودة.

باختصار، تقدّم حرب أوكرانيا، بعد مرور سنة على اندلاعها، تحليلات وافرة بقدر حرب يوم الغفران التي اندلعت منذ نصف قرن. لكن يبرز اختلاف واضح قد يطرح مشكلة حقيقية: عكست حرب يوم الغفران صورة قاتمة عن الجيش الأميركي لدرجة أن تدفعه إلى تجديد ابتكاراته. أما حرب أوكرانيا، فهي تشير إلى انتصار المعدات والتكتيكات الأميركية، حتى الآن على الأقل. نتيجةً لذلك، تغيب هذه المرة العوامل التي تدفع الأميركيين إلى استخلاص الدروس وإحداث تغيير حقيقي.

لكن تستحق الولايات المتحدة الإشادة لأنها تعمل على تقوية القدرات التي استعملها الأوكرانيون بنجاح. يعمد الجيش مثلاً إلى شراء المزيد من القذائف المدفعية، وصواريخ "جافلين" المضادة للدبابات و"ستينغر" المضادة للطائرات، وقاذفات نظام الصواريخ المدفعية عالية الحركة، للتعويض عن المعدات المستعملة في أوكرانيا. لكن تدخل هذه الاستنتاجات في خانة الدروس السهلة، فهي لا تفرض على الولايات المتحدة اتخاذ أي خطوات مختلفة، بل تدفعها بكل بساطة إلى شراء كميات إضافية من المعدات نفسها.

في غضون ذلك، قد تبدو الولايات المتحدة محقة حين تمتنع عن استخلاص الدروس من الصراع. في بعض الحالات، لا تعطي حرب أوكرانيا أي توجيهات مفيدة. احتفظت روسيا مثلاً بأكثر الطائرات تقدماً فوق المجال الجوي الروسي وخارج نطاق الدفاعات الجوية الأوكرانية. لهذا السبب، تعطي الحرب نتائج غير حاسمة حتى الآن حول تفوّق طائرات الشبح أو الدفاعات الجوية.

قد تكون الدروس التكنولوجية واضحة في حالات أخرى، على عكس التداعيات التي تؤثر بمسار العمليات. لنتكلم مثلاً عن الجدل الواسع حول الدبابات. أثبتت المعركة على كييف أن الدبابات هشة جداً. في الوقت نفسه، كشف نجاح الهجمات الأوكرانية المضادة في "خاركيف" و"خيرسون" عدم وجود بدائل كثيرة عن حرب المدرعات لفرض السيطرة، لا سيما في المناطق المفتوحة. ليس مفاجئاً إذاً أن تنقسم مهام الجيش الأميركي بالطريقة نفسها. تخلّت مشاة البحرية عن دباباتها، بينما يمضي الجيش قدماً عبر استعمال دبابات أكثر حداثة.

مع ذلك، لم تتأكد بعد نزعة الولايات المتحدة إلى تعلّم أصعب الدروس من الحرب، أي تلك التي تفرض على الجيش الأميركي أن يغيّر مساره بطريقة جذرية، لا سيما إذا اضطر لاستخلاص الدروس من إخفاقات روسيا بدل التركيز على نجاحات أوكرانيا. يتابع الجيش الأميركي تطوير "برنامجه المستقبلي للرفع العمودي" (أي تطوير خمسة أنواع جديدة من المروحيات بكلفة عالية) رغم جميع الخسائر التي تكبدتها المروحيات الروسية. كذلك، تتابع القوات البحرية استثماراتها في السفن السطحية رغم غرق طراد "موسكفا" وسفن روسية أخرى، وتتمسك القوات الجوية الأميركية بأسطول الطائرات المأهولة رغم هيمنة الطائرات المسيّرة في المجال الجوي.

الأهم من ذلك هو أن تعيد الولايات المتحدة النظر بالتوازن القائم بين القدرات والكفاءة. قد يتعلق أهم درس في الحرب الأوكرانية باحتمال تفوّق المعدات الرخيصة والوافرة على المعدات المتقنة والمكلفة. يبدو أن لجوء روسيا إلى عدد صغير نسبياً من الأسلحة الخارقة، مثل الصواريخ الأسرع من الصوت، لم يُحقق لها النجاح المنشود. في الوقت نفسه، تثبت حرب أوكرانيا، على غرار حرب يوم الغفران، أهمية الأرقام. بعبارة أخرى، تترافق الحروب المعاصرة مع خسائر كبرى.

رغم احتدام الجدل حول صوابية منح أوكرانيا معدات مثل أنظمة "باتريوت" للدفاع الجوي، أو دبابات "أبرامز" و"ليوبارد"، أو الطائرات المقاتلة "أف-16"، يبدو أن الأسلحة الجماعية، لا نظام تسلّح محدد، هي التي ستُحدد نتيجة الحرب. تبقى القدرات الفردية مفيدة طبعاً، كما يذكر عدد من المحللين، لكن من المستبعد أن تغيّر أنظمة تسلّح معيّنة التوازن القائم إلا إذا استُعمِلت كميات كافية منها. في أي حرب مطوّلة، لا تتعلق المسألة الأساسية بإيجاد حل سحري بقدر ما ترتبط بالجهة التي تملك أكبر عدد من الأسلحة والمعدات. وبالتالي، يجب أن تحرص الولايات المتحدة على جمع كميات إضافية من الأسلحة.

من باب الإنصاف، يجب أن نعترف بأن حرب أوكرانيا تبقى جزءاً بسيطاً من البيانات الإجمالية وأن الجيش الأميركي لا يشبه نظيره الروسي. قد تكون المعدات الأميركية أكثر قدرة على الصمود وقد تُستعمَل استناداً إلى تكتيكات أكثر فاعلية من المنصات الروسية. كذلك، قد تكون القيادة الأميركية أكثر حذراً ولا تقع ضحية الإخفاقات التي واجهها الروس في أوكرانيا. حتى أن الاستراتيجية الأميركية قد تكون أفضل من غيرها، ما يزيد احتمال أن تُحقق الولايات المتحدة انتصاراً سريعاً ولا تضطر لخوض صراع مطوّل في نهاية المطاف (مع أن تجاربها في العراق وأفغانستان تثبت العكس).

لفهم جميع تداعيات الحرب في أوكرانيا، يجب أن يتقبّل المعنيون أهمية استخلاص دروس أخرى من إخفاقات روسيا. في الحد الأدنى، يُفترض أن تتغير الأعباء المرتبطة بالاستراتيجية الدفاعية الأميركية المستقبلية. ما الذي يمنع المروحيات أو السفن أو الطائرات الأميركية من مواجهة مصير المعدات الروسية؟ وما الذي يمنع الحرب المقبلة من التحول إلى صراع مطوّل أو اتخاذها مساراً مشابهاً لحرب أوكرانيا؟

لحسن الحظ، تبقى الحروب الكبرى نادرة بشكل عام. حتى أن الحروب المشابهة لتلك التي أطلقتها روسيا في أوكرانيا تُعتبر نادرة أكثر من غيرها، علماً أنها تشكّل اختباراً كبيراً للمعدات الأميركية والفرضيات الاستراتيجية من دون تكبّد أي خسائر بشرية أميركية. لكن هل ستدفع هذه الحرب الولايات المتحدة إلى القيام برهانات مستقبلية أكثر اتزاناً فيما تستعد للصراع المقبل؟ يتوقف الجواب جزئياً على قدرة الجيش الأميركي على تحليل تحركاته الخاصة. تتأثر هذه القدرة أيضاً بنزعة الولايات المتحدة إلى الاكتفاء بنجاحات أوكرانيا في ساحة المعركة وانتصارها المحتمل.

إذا استخلصت الولايات المتحدة الدروس من هذه الحرب، كما فعلت بعد حرب يوم الغفران منذ خمسين سنة، قد تضمن تفوّقاً نوعياً للجيش الأميركي خلال العقود المقبلة، وإلا قد لا تحصل على فرصة أخرى من هذا النوع.

MISS 3