بهاسكار شاكرافورتي

أزمة غوتام أداني... أكثر ما تحتاج إليه الهند

2 آذار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

متظاهرون يحرقون صور رجل الأعمال الهندي غوتام أداني ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في كولكاتا | الهند، 6 شباط ٢٠٢٣

يضجر الناس عموماً حين يسمعون عبارة "بنية تحتية"، لكن تخلو فضيحة ملك البنية التحتية في الهند، غوتام أداني، من أي عناصر مملّة. نشرت شركة البيع المكشوف الأميركية "هيندنبورغ" تقريراً جنائياً يتألف من 106 صفحات ويتّهم أداني وشركاته بتنفيذ خطة واسعة للتلاعب بالأسهم والقيام بعمليات احتيال عبر استعمال نظام معقّد من الشركات الوهمية. رغم إصرار أداني على إنكار الادّعاءات، تأكّدت هذه المعلومة حين تبخّر أكثر من 110 مليارات دولار من القيمة السوقية لتلك الشركات خلال أيام معدودة، فأصبح أداني شخصياً أفقر ممّا كان عليه بمعدل 58 مليار دولار على مستوى الثروة الورقية. لكن يبدو أن هذه القصة لن تتوقّف عند هذا الحدّ، بل إنها تزداد تعقيداً مع مرور الأيام. قد تصبح قضية أداني النسخة الهندية من أزمة بنك "ليمان براذرز"، فلا تكتفي بتفكيك واحدة من أكبر الإمبراطوريات المؤسسية وأكثرها ترابطاً، بل تُدمّر أيضاً طموحات وطن كامل يريد تسخير شعبٍ سيصبح قريباً الأكبر من حيث العدد السكاني ويسعى إلى الاستفادة من قدرات الهند الاقتصادية الهائلة.



تكمن المفارقة الحقيقية في حاجة الهند اليوم إلى أزمة أداني لتسريع مسارها. يسود مستوى مفرط من تقبّل الوضع في أوساط النخبة الهندية وجميع أنحاء العالم. يُعتبر صعود الهند حتمياً نظراً إلى حجم البلد، وسوقه الناشئة، وتركيبته السكانية الشابة، وحكومته القوية سياسياً. يكفي أن تصلح الهند بنيتها التحتية إذاً كي يقرع العالم أجمع بابها ويُعبّر الجميع عن رغبتهم في ضخّ الاستثمارات فيها والتعامل معها. هذا ما يتوقّعه الكثيرون على الأقل. لكنّ سوء إدارة الشركات، والرأسمالية المبنية على المحسوبيات، وقلة كفاءة الجهات التنظيمية، وامتناع وسائل الإعلام عن توجيه الانتقادات، هي جزء من الثمن الذي ستضطرّ الهند إلى دفعه لضمان صعودها. بعد فضيحة أداني، لا مفرّ من إعادة تقييم الخطاب الهندي وتجديد التركيز على إصلاح نظام الحوكمة الاقتصادية وإدارة الشركات في الهند.

إلى حين حصول ذلك، لا يصعب أن نتخيّل حجم الأضرار الدائمة التي يمكن أن تُسبّبها أزمة أداني على مستويات عدة. كانت شركاته المتوسّعة تُعتبر أساسية لتجاوز تحديات البنية التحتية في الهند، بدءاً من نظام النقل والخدمات اللوجستية الشائب وصولاً إلى إمدادات الطاقة غير الجديرة بالثقة. تسيطر "مجموعة أداني" على أكبر شركة مطارات، وأكبر شركة لتشغيل الموانئ الخاصة، وثاني أكبر شركة لصنع الأسمنت في الهند. كذلك، تُخزّن مستودعات أداني حوالى ثلث الحبوب الهندية، وتُعتبر "أداني إنتربرايزس" أكبر شركة لتجارة الفحم في البلد، وهي تسيطر على 20% من خطوط نقل الطاقة في الهند. كذلك، يقود أداني نظاماً بيئياً للهيدروجين يتم التخطيط له بقيمة 50 مليار دولار، وهو يُصنّع خلايا ضوئية وتوربينات رياح ويوزّع طاقة الرياح. برأي الكثيرين، قد يتباطأ تقدّم الهند إذا تعثّر أداني.

لكن لن تؤثر مشاكل أداني على هذه القطاعات فحسب. تحتاج الهند إلى الاستثمارات والأسواق المالية العميقة، وتنعكس الأزمة الأخيرة على هذه المجالات أيضاً. في مرحلة معينة، كانت شركات أداني تملك 6% من الأسهم المتداولة في البورصتَين الهنديتَين الرئيسيتَين، وكانت مسؤولة عن 7% من إجمالي استثمارات الرساميل في أكبر 500 شركة غير مالية في الهند. اليوم، قد يطّلع المستثمرون الأجانب على التُهَم الواردة في تقرير شركة "هيندنبورغ" ويعتبرونها مؤشراً على عمق الفساد في الشركات الهندية، فيشعرون بالقلق من الوضع ويعتبرون وضع البلد أخطر من أن يستحقّ الاستثمارات.

يظن عدد كبير من المستثمرين الأجانب أصلاً أن قيمة سوق الأسهم الهندية مبالغ فيها، لذا عمدوا إلى تخفيف تعاملهم مع أصول البلد. ومنذ نشر تقرير شركة "هيندنبورغ"، خفّضت تصنيفات "ستاندرد آند بورز" العالمية توقّعاتها حول سندَين بالدولار في شركات أداني إلى درجة سلبية، وانسحب صندوق الثروة السيادية النروجي بالكامل من شركات أداني القابضة، وهو أكبر مستثمر عالمي في الأسهم. من المتوقع أن يتزعزع المستثمرون الآخرون أيضاً.

في غضون ذلك، جاءت الأزمة هذه المرّة لتفضح مجلس الأوراق المالية والبورصة في الهند، وهي الجهة التنظيمية للأسواق المالية الهندية، فتبيّن أنها تغفل عن كل ما يحصل. كذلك، فضّلت وسائل الإعلام الإخبارية في الهند تجاهل هذه الأحداث كلّها. قبل صدور تقرير "هيندنبورغ"، واجهت وسائل الإعلام التي شكّكت بممارسات أداني دعاوى قضائية ومذكرات توقيف، وخضعت المنشورات الأخرى لرقابة ذاتية. وبعد ظهور ذلك التقرير، تجاهلت القنوات الإخبارية المتلفزة الكبرى هذه القصة في البرامج التي تُعرَض في وقت الذروة طوال يومَين كاملَين، وفق موقع "ألت نيوز" الرائد في مجال التدقيق بالحقائق. كان أداني قد اشترى شركة NDTV، وهي واحدة من آخر معاقل الصحافة المستقلة وسط وسائل الإعلام الهندية المؤثرة، في كانون الأول 2022. فضّلت الحكومة من جهتها إلتزام الصمت حول الأزمة القائمة، إذ يعرف الجميع بالعلاقة الشخصية بين أداني ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.

على صعيد آخر، تُهدّد أزمة أداني مكانة الهند الجيوسياسية على الساحة الدولية. بدأت الهند توسّع نفوذها في جوارها كخطوة محورية لتحقيق طموحاتها العالمية. على عكس "مبادرة الحزام والطريق" التي تقودها الدولة الصينية وتحمل طموحات أكثر توسّعاً، حصلت تحرّكات الهند في معظمها عبر القطاع الخاص. كان أداني في طليعة الأطراف التي زوّدت بنغلادش بالكهرباء، وبَنَت الموانئ في سريلانكا، واستخرجت الفحم في أندونيسيا وأستـــراليا. لهذا السبب، قد يشكّك البعض بالسياســـــة الاقتصادية الخارجية التي تطبّقها إدارة مودي وتتأثر مصداقية الهند في الخارج بعد تعثر أداني، نظراً إلى علاقته القوية مع الحكومة.

لا شكّ في أن تقدّم الهند سيتعثّر على المدى القريب، فيما يتخبّط أداني للحفاظ على تركيزه، واسترجاع ثقة شركائه الأساسيين، وجمع الرساميل. لكن تتعامل شركات أداني مع منتجات ملموسة ولا تشبه هذه العملية تبادل العملات المشفّرة، بل إنها مدعومة بأصول صعبة وتنتج أموالاً نقدية. تتكل مشاريع الطاقة التي يديرها أداني على الحكومة مثلاً، باعتبارها عميلة جديرة بالثقة ومصدراً للعائدات. وبغض النظر عمّا يصيب أداني شخصياً، يرتفع الطلب على منتجاته بدرجة غير محدودة في الهند التي تشهد نموّاً سريعاً. تنتج شركاته سيلاً من الأموال النقدية القادرة على تسديد الديون أو جذب العملاء إذا حصلت تصفية معيّنة. إما أن يتابع أداني تشغيل الشركات أو يتولّى شخص آخر هذه المهمة.

لكن ماذا عن احتمال انتشار هذه العدوى في السوق المالية؟ قد تتراجع مخاطر التخلّف عن تسديد ديون أداني حين يجد خبراء الديون المتعثّرة وصناديق التحوّط فرصاً إيجابية في هذه الأزمة ويسعون إلى شراء سندات أداني عبر صفقة معينة. صدرت مواقف مُطَمئِنة من محللين مختلفين لتعزيز الثقة بالأسواق الهندية. ذكر محللون في "غولدمان ساكس" أن الأزمة "لن تعطي أثراً مُعدِياً واسعاً على الأرجح". كذلك، أعلن محافظ البنك المركزي الهندي أن "النظام المصرفي الهندي، بحجمه وقدرته على الصمود، يبقى أقوى وأكبر من أن يتأثر بقضية مماثلة". في الوقت نفسه، تبقى العلاقات محدودة بين شركات أداني وشركات القطاع المالي الأساسية والمملوكة للدولة، مثل "شركة التأمين على الحياة" و"بنك الدولة الهندي". الأهم من ذلك هو وجود بورصة ذات رساميل كافية في الهند، فهي تُدِرّ أكثر من 3 تريليونات دولار سنوياً، ويبقى مؤشر "نيفتي 50" في الهند أعلى ممّا كان عليه في هذه الفترة من السنة الماضية بنسبة 2.5%.

أخيراً، يحمل البُعد العاطفي جانباً مهماً. يحتاج العالم إلى نجاح القصة الهندية. تَميّز هذا البلد أكثر من الدول الأخرى في الاقتصاد العالمي المليء بالمشاكل بعد أزمة كورونا، فقد شهد الغرب شكلاً من التباطؤ، واندلعت حرب في أوروبا، وتلاحقت الاضطرابات في الصين، وتوسّع الشرخ بين بكين ولاعبين أساسيين في الاقتصاد العالمي. في المقابل، لا يمكن إنكار دور الهند الأساسي في رسم معالم الأجندة الرقمية والبيئية في العالم. وبما أن نيودلهي ترأس مجموعة العشرين هذه السنة، فمن المنتظر أن تبذل جهوداً كبرى لإثبات عجز العالم عن المضي قدماً إذا لم تحرز الهند التقدّم المطلوب.

رغم جميع المخاوف التي تطرحها هذه الأزمة، يوحي الوضع بأن إدارة المخاطر لا تزال ممكنة حتى الآن. لكن بغضّ النظر عن تطوّر الأحداث في المرحلة اللاحقة، ثمة أمر مؤكد واحد: أعطت أزمة أداني منفعة غير متوقّعة لأنها ذكّرت المعنيين بأن أكبر عائق أمام الهند لا يتعلّق ببنيتها التحتية المتصدّعة، بل يجب أن يصلح البلد الشوائب القائمة في أنظمة حُكمه، وشفافيته، ونظام الضوابط والتوازنات، ما يشير إلى البنية التحتية الناعمة داخل مجالس إدارة الشركات، والعلاقة القائمة بين الشركات والحكومة، وعمل منظّمات الرقابة، بما في ذلك وسائل الإعلام. قد تتعلّق أكبر منفعة من تقرير شركة "هيندنبورغ" باحتمال أن يُزعزع قطاع الأعمال والحكومة والنخبة الإعلامية الهندية بدرجة كافية لتطبيق إصلاحات طال انتظارها.


MISS 3