أنشال فوهرا

أقوى إنتقادات الحرب تصدر من المُكلّفين بخوضها

منتقدو بوتين الروس يرفعون الصوت

4 آذار 2023

02 : 00

الزعيم الشيشاني رمضان قديروف

بعد مرور سنة على بدء غزو أوكرانيا، لا يتّجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إنهاء الحرب رغم الخسائر البشرية الهائلة والانتكاسات في ساحة المعركة. في خطاب طويل ألقاه بوتين خلال الأسبوع الماضي، لم يذكر شيئاً عن السبب الكامن وراء استمرار "العملية العسكرية الخاصة" لسنة كاملة، مع أنها كانت تهدف في الأساس إلى تفكيك الدولة الأوكرانية خلال أيام، بل قال: "خطوة بخطوة، سنتعامل مع المهام المطروحة بطريقة حذرة ومتماسكة".



وقف أعضاء النخبة الروسية والمشرّعون خلال ذلك الخطاب وصفّقوا له وهزّوا رؤوسهم حين تكلّم على المناطق الأوكرانية "دونيتسك"، و"خيرسون"، و"لوهانسك"، و"زابوريزهزهيا"، وكأنها أراضٍ روسية. لكنه أغفل تفاصيل مهمة، مثل اضطرار القوات الروسية للانسحاب من "خيرسون" منذ وقتٍ طويل وتكبّد أكبر الخسائر البشرية منذ بدء الحرب، إذ يسقط أكثر من 800 جندي خلال أسبوع أو في يوم واحد أحياناً.



جزء من النخبة السياسية والعسكرية الروسية التي حضرت خطاب بوتين | روسيا، شباط ٢٠٢٢


لم يتّضح عدد من صدّقوا كلام بوتين عن اقتراب الانتصار الروسي خلال ذلك التجمّع. لكنّ الأمر المؤكّد هو تصاعد نبرة الانتقادات للحرب وسط من يخوضونها.

كان معظم الانتقادات يصدر عموماً من المقتنعين بأن بوتين وجيشه لم يخوضوا الحرب بطريقة حاسمة أو فاعلة بما يكفي. يكون هؤلاء النقّاد من حلفاء بوتين بشكل عام، وتهدف تعليقاتهم إلى زيادة نفوذهم داخل الدولة عبر طرح أنفسهم كخبراء استراتيجيين أفضل من الجنرالات الروس.

تشمل الشخصيات التي انتقدت الجيش الروسي صراحةً أشخاصاً مثل يفغيني بريغوجين، وهو محكوم سوفياتي سابق والرئيس الحالي لمجموعة المرتزقة "فاغنر"، والزعيم الشيشاني الوحشي رمضان قديروف، وإيغور غيركين الذي عُرِف باسم "إيغور الرهيب" بسبب إقدامه على ذبح مسلمي البوسنة ثم اتهامه بإسقاط الرحلة رقم 17 على متن الخطوط الجوية الماليزية فوق أوكرانيا. يتحرّك هؤلاء الرجال بدافع من طموحاتهم الشخصية، لكن تشير وجهات نظرهم إلى اعتراف الروس المكلّفين بخوض الحرب بأن غزو بوتين لم يحصل بالشكل المُخطّط له.

أعلن بريغوجين أن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ورئيس هيئة الأركان العامة فاليري غيراسيموف توقّفا عمــداً عن إرسال الذخائر إلى مرتزقة "فاغنر" الذين يقاتلون في مدينـة "بخموت"، في شرق أوكرانيـــا، واتّهمهما بالخيانة. حتى أنه اتّهم الجيش الروسي بتلقّي الإشادة على التقدّم الذي أحرزته مجموعة "فاغنر" في بلدة "سوليدار"، وهو أول نجاح روسي منذ أشهر. تعليقاً على الهجوم في "بخموت"، كتب بريغوجين: "ضمن مساحة 50 كيلومتراً تقريباً، لا وجود إلا لمقاتلي فاغنر".

في خضم الخلاف الحاصل بين وزير الدفاع وبريغوجين، بدا بوتين في البداية أكثر ميلاً إلى سماع المحترفين (كانت مجموعة "فاغنر" تُجنّد السجناء حتى الفترة الأخيرة لتدعيم قواتها)، لكن تبيّن في نهاية المطاف أن بريغوجين هو الفائز. بعد يوم على انتقاده العلني، تلقّت مجموعة "فاغنر" الذخائر التي طالب بها بريغوجين، وفق بعض التقارير، واضطرت وزارة الدفاع لابتلاع كبريائها والإشادة بـ"شجاعة" المجموعة شبه العسكرية علناً. ثم شكر بريغوجين أصحاب "المراتب العليا" على ذلك القرار في تصريح عبر قناته الصحفية على "تلغرام"، فتكلم عن إنقاذ "مئات، أو حتى آلاف"، الرجال الذين يدافعون عن أرضهم، ما يعني أن "أمهاتهم وأولادهم لن يتلقوا نعوشاً فيها جثثهم".

طوال سنوات، كان بريغوجين يجنّد المرتزقة ويرسلهم للقتال في سوريا، وليبيا، وبلدان أخرى، بطلبٍ من بوتين. لكن يقول الخبراء إنه يبحث منذ فترة عن دور مختلف كشخصية عامة، حتى أن كلامه يوحي بأنه سياسي أكثر ممّا هو رجل أعمال في القطاع الخاص. لكن رغم علاقة مجموعة "فاغنر" الواضحة مع الكرملين، لم تعترف الدولة الروسية بمرتزقة بريغوجين رسمياً في أي لحظة. وفي أوكرانيا أيضاً، كان يُفترض أن تبقى "فاغنر" في الظل وتنفّذ عمليات قد تنكرها الدولة تزامناً مع استعمال السجناء ككبش محرقة في الحرب.

لكن بدأ بريغوجين الآن يستهدف كبار المسؤولين في وزارة الدفاع بانتقاداته، تزامناً مع طرح نفسه كرجل قومي صريح يحاول حماية كرامة روسيا ورجاله. خلال الأشهر القليلة الماضية، اعترف بريغوجين بارتباطه بمجموعة "فاغنر" (بعدما أنكر هذا الرابط سابقاً)، حتى أنه أقرّ بعلاقته مع "وكالة أبحاث الإنترنت" المسؤولة عن حملة التضليل التي حاولت التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016.

يذكر بريغوجين في أحد منشوراته: "لم أكن يوماً مجرّد مُموّل لوكالة أبحاث الإنترنت. بل كنتُ وراء ابتكارها وإنشائها وقمتُ بإدارتها لوقتٍ طويل".

صرّح عدد من الخبراء بالشؤون الروسية لصحيفة "فورين بوليسي" بأن بريغوجين شعر بأهميته بالنسبة إلى بوتين في الفترة الأخيرة، لا سيّما منذ فشل القوات الروسية في إحراز التقدّم في أوكرانيا وانسحابها من مناطق كانت محتلّة سابقاً. هو طرح نفسه كبطل للحرب لأنه يعرف أن بوتين يحتاج إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى.

تعليقاً على مقاربة بريغوجين الفريدة من نوعها، تقول جوانا دي ديوس بيريرا، باحثة مرموقة في المعهد الملكي للخدمات المتحدة: "بريغوجين يقوم بما لم يفعله أي شخص آخر في أعلى المراتب بعد. هو يتفقّد الموتى، ويزور الجرحى، ويتصرّف وكأنه رجل سياسي. لا يقوم بريغوجين بالأعمال القذرة في ساحة المعركة فحسب، بل إنه يطرح نفسه أيضاً كوجه وطني خلال الحرب. إنها حيلة سياسية ولا أظن أن الكرملين فكّر بها. هو يريد أن يزيد نفوذه السياسي ويدخل إلى الكرملين. لن تتقبّل النخبة الحاكمة هذا الوضع مطلقاً".

تقول غولناز شرفوتدينوفا، أستاذة في السياسة الروسية في "معهد روسيا" التابع لجامعة "كينغز كوليدج"، إن ظهور قادة يسيطرون على الرجال المسلّحين خارج هياكل الدولة يُهدّد مؤسسات النخبة. هذا الوضع يزعزع الاستقرار برأيها لأنه يعكس فشل الدولة.

في السياق نفسه، يقول ميخائيل خودوركوفسكي، رجل أعمال روسي منفيّ وناشط في المعارضة، عن طريق سكرتيره الصحفي مكسيم دبار: "لا يُعقَل ألا يزعج هذا الوضع الشخصيات المؤثرة الأخرى في محيط بوتين والرئيس شخصياً".

تضيف شرفوتدينوفا: "قد لا يكون بريغوجين مصدر تهديد على بوتين في الوقت الراهن، لكن أدّى توسّع نفوذه إلى زيادة المخاوف في موسكو. إنه زمن الشكوك الحادة. قد يخسر أصحاب أعلى المراتب الحرب، ثم يُطرَح السؤال التالي: من هو الزعيم الأكثر شعبية والشخص الذي بذل أكبر الجهود لتحقيق الانتصار في هذه الحرب؟ هذه المنافسة قد تجعل بعض الشخصيات الرائدة خيارات محتملة لاستلام القيادة في المرحلة اللاحقة".

في الوقت الراهن، لا يسعى الزعيم الشيشاني رمضان قديروف إلى أخذ مكان بوتين، لكنه شكك بذكاء الرئيس على اعتبار أنه لا يملك صورة دقيقة عن الواقع في أوكرانيا. قال قديروف في رسالة صوتية نُشِرت على "تلغرام"، في شهر أيلول الماضي: "إذا لم يتغير شيء في الاستراتيجية المعتمدة اليوم أو غداً، فسأضطر للتكلم مع قيادة وزارة الدفاع وقادة البلد لتفسير الوضع الميداني الحقيقي لهم".

يقول الخبراء إن قديروف، وهو متمرّد سابق تحوّل إلى حليف لروسيا وحاكم للشيشان، إن أي جمهورية روسية في القوقاز ستكون ميزة مفيدة لروسيا. وصلت وفود شيشانية إلى المناطق المحتلة في أوكرانيا للمساعدة ظاهرياً بتحويل هياكل الدولة الأوكرانية إلى هياكل روسية، لكن تهدف هذه الخطوة أيضاً إلى الاستفادة من خبرة قديروف لقمع الحشود الفوضوية عن طريق العنف.

صرّحت كاترينا ستيبانينكو، محللة للشؤون الروسية في "معهد دراسة الحرب"، لصحيفة "فورين بوليسي" بأن قديروف يتحرّك لتحقيق مصالحه المهنية: "هو يريد نهب الأراضي المحتلة. نعرف من التقارير المتداولة أن بعض الأفراد التابعين له ذهبوا إلى حد الاستيلاء على المصانع في ماريوبول". توافقها ديوس بيريرا الرأي وتقول إن قديروف يريد توسيع نفوذه واستلام شؤون المناطق المحتلة بنفسه.

لكنّ هذا الوضع لن يناسب أشخاصاً آخرين مثل غيركين، المحارب القديم في الجيش الروسي ووزير الدفاع السابق في جمهورية دونيتسك الشعبية (يُعرَف أيضاً بالاسم المستعار "إيغور إيفانوفيتش ستريلكوف"). زعم هذا الأخير أنه يستحقّ الإشادة على غزو روسيا لشبه جزيرة القرم، فقال إن تلك العملية تنجم عن هجومه ضد مدينة "سلوفيتنسك" الأوكرانية في العام 2014. حتى أنه انتقد تصريح بوتين المرتبط بثبات التقدم الذي تحرزه العملية العسكرية الخاصة، في 9 كانون الأول 2022. يقول الخبراء إن غيركين مقتنع بتوقّف مسار بوتين وضرورة الدعوة إلى تعبئة شاملة.

قد يختفي أيٌّ من هؤلاء الرجال بطريقة غامضة، كما حصل مع منتقدين آخرين من قبلهم. لكن لا تُعتبر مهاجمة وزير الدفاع وقائد الجيش جُرماً كبيراً حتى الآن إذا كان بوتين يتابع الإصغاء إليهم. مع ذلك، تعكس مواقفهم اللاذعة توسّع الاقتتال الداخلي وسط النخبة الروسية، تزامناً مع استمرار إخفاقات القوات الروسية في ساحة المعركة.