جان كلود سعادة

الدولة التي قتلت شعبها

4 آذار 2023

02 : 00

عندما نستخدم كلمة «دولة» بالإشارة إلى المنظومة التي تمسك بلبنان والسُلطات المتعاقبة التي سبقتها، فهذا تعبير مجازي لأنّه لم يكن لدينا يوماً «دولة» حقيقية ترعى شعبها وتدافع عن حقوقه الأساسية وتؤمّن له الظروف المناسبة للعيش الكريم والعمل والتطوّر الفكري والإجتماعي. وإذا تحقق شيء من هذه الأمور فهو بالتأكيد ليس من عمل «الدولة» بل نتيجة مبادرات فرديّة بقيت محدودة. حتى المحاولة الناجحة الوحيدة في تاريخنا لبناء دولة مؤسسات والتي قام بها الرئيس فؤاد شهاب، يمكن إعتبارها أيضاً «مبادرة فرديّة» عاد البلد بعدها إلى السقوط في حفرة الحروب والتخلف والتجاذبات الطائفية والفساد الشامل.

فما لدينا من أشكال الدولة هو في الحقيقة «قرطة عالم مجموعين» على الفساد والمحاصصة والسمسرة وصولاً إلى السرقة على المكشوف من المال العام والخاص أيضاً. فاكتشفنا أنّ أحلام وتضحيات أجيال من اللبنانيين في سبيل بناء جمهورية سيّدة وقوية وعادلة ومدنيّة، تكفل المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون من دون تمييز وتبني طريق المستقبل والتطوّر، كانت مجرّد وهم. فالنتيجة التي وصلنا اليها هي مسخٌ فاشل وقاتل تحكمه مافيا متجذّرة ومتجدّدة هدفها الوحيد تقاسم النهب والإفلات من العقاب.

فجميع المشاركين في السلطة وعلى اختلاف آرائهم وتوجهاتهم هم شركاء فعليون في الإستفادة من هذه التركيبة ومسؤولون أيضاً عن النتيجة الكارثيّة التي وصلنا إليها. وهنا يجب القول إنّ كلمة «منظومة» تنطبق على كامل هذه التركيبة وجميع الذين شاركوا بطريقة أو بأخرى في إسقاط فكرة دولة المؤسسات وإنشاء دولة المحاصصة، التي توزّع حصص ومكاسب شخصيّة و»حقوق طوائف»؛ فالجميع مشارك على طريقته وبما يخدم مصالحه ومشاريعه.

فإذا ذكر التاريخ هذه السلطة الفاسدة والوقحة سوف يذكرها كأول دولة تقتل شعبها بألف شكل وألف طريقة. فبعدما أكلت المؤسسات العامّة قررت سرقة الناس ومدخراتهم وماضيهم ومستقبلهم وهذا غيض من فيض مآثرها:

1 - بعد أكثر من ثلاثين عاماً على إنتهاء الحرب الأهلية؛ لم تتمكّن هذه المنظومة من تأمين أبسط الخدمات الأساسية من نقل عام وكهرباء ومياه وتعليم وتغطية صحيّة موحّدة، بل فخّخت وعطّلت جميع هذه الخدمات بهدف تنفيع شركائها في القطاع الخاص.

2 - بدل أن يأتي الجميع إلى الدولة للمساهمة في تطويرها، عمدت المنظومة إلى تقاسم الدولة نفسها وتوزيعها حصصاً وأجهزة ومنافع ومراكز للطوائف، كما تمّ إغراقها بالتوظيف الزبائني المفرط.

3 - ولكي تكتمل عناصر الجريمة كان لا بُدّ من تعطيل العدالة وإفساد النظام القضائي وتكبيله ليصبح بدوره في خدمة المنظومة ومصالحها، أو عاجزاً عن مقاومتها.

4 - أمّا الإقتصاد فلم توفّره المنظومة من لمستها المباركة. فبعدما تغلغلت في جميع مفاصله بنفس ذهنيّة المحاصصة وتوزيع التنفيعات عِبر مجموعة «الصناديق السوداء» التي أوجدتها، فقد تمّ تعطيل مبدأ الانتاجية والمنافسة والإبداع في المجالات الجديدة واستبدالها جميعاً بالربح السهل. فعدا تفشّي نشاط العصابات المختلفة كان إنتشار تبييض الأموال على نطاق واسع هو الضربة القاضية للإقتصاد. فازداد الفقر والظلم الإجتماعي من ناحية وفي المقابل دخل قسم كبير من عناصر الإنتاج في ثقافة الربح السهل والأرغيلة.

لا نُعفي أبداً اللبناني العادي من مسؤوليّة الوصول إلى هذه الأزمة غير المسبوقة، لكن الأهم والأجدى الآن هو أن نقتنع أن لا حل ولا خلاص ولا مستقبل من دون محاسبة هذه المنظومة وإزاحتها بالكامل عن صدر الوطن. فأيّ محاولة لتمديد حكمها عبر إنتخابات أو ما تسمّيه حواراً وطنياً أو إعادة تدوير لرموزها، هو عمل إجرامي بحق البلد والناس.

هذه المنظومة قتلت في الحرب ونهبت في السلم ولم يكن ينقصها سوى أن تحرق البلد بما فيه لكي تُنقذ أصنامها.

(*) خبير متقاعد في التواصل الاستراتيجي