ديفيد جيو، مارينا ميرون

بوتين...كان يُفترض أن يتوقع فشل غزوه

6 آذار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

الدمار الذي خلّفه القصف الروسي على مدينة تشيرنيهيف الأوكرانية | نيسان ٢٠٢٢

كانت «العملية العسكرية الخاصة» التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أواخر شباط 2022 أكبر سوء تقدير يقوم به الكرملين منذ غزو أفغانستان في العام 1979. لكن هل كان يمكن أن يتوقع بوتين منذ البداية تحوّل خطة الغزو الأولية إلى مستنقع وحشي؟

أخطأ بوتين في تقييم عملية أوكرانيا لسببَين أساسيَين. أولاً، أثّرت آراء بوتين المشوّهة عن قابلية استمرار أوكرانيا وشرعيتها كدولة قومية مستقلة خارج نطاق روسيا بقدرته على تقييم وجهات النظر المخالفة له. ثانياً، يدير بوتين أوساطاً استخبارية وسياسية تكتفي بإخباره بما يريد سماعه. يبدو أن أجهزة الأمن والاستخبارات الروسية مقتنعة بأن تحقيق النجاح يتطلب إبلاغ الرئيس بتقييمات تعكس توجهاته الخاصة.

كان غزو بوتين يرتكز على نظرية مفادها أن التوجه نحو كييف لإسقاط حكومة زيلينسكي سيسمح للشعب الأوكراني بتحرير نفسه من إغراءات الغرب المنحطّة والعودة إلى أحضان روسيا الإمبريالية الشقيقة.

كان بوتين ليستفيد حتماً من مراجعة المعطيات قبل التحرك، لا سيما الاستطلاعات التي أجراها باحثون في أوكرانيا، فضلاً عن استطلاع سرّي حصل بطلبٍ من أجهزته الأمنية الخاصة. لكنّ عادات بوتين المؤسسية ورؤيته الشائبة منعته من التعامل مع هذه التوجهات الأوكرانية بجدّية. اعتاد القادة الروس (وأجهزتهم الاستخباريــــــــة) تاريخياً على التمسّك بالإيديولوجيا بدل فهم المعلومات المتاحة علناً. هم لا يهتمون بأي معلومات ما لم تكن «سرّية» أو ما لم يجمعها عميل سرّي.

هذه القناعة جعلت وكالات الاستخبارات التابعة لبوتين، لا سيما جهاز الأمن الفيدرالي الروسي وجهاز الاستخبارات العسكرية، تتجاهل أو تغفل عن كمّ هائل من المعلومات العلنية المفيدة التي كانت لتساعدها على إجراء تقييم استراتيجي للآراء الأوكرانية. وفق دراسة أجراها معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع في العام 2021، بالتعاون مع مركز «ليفادا» في موسكو، تبيّن أن 41% من الأوكرانيين يحملون موقفاً «إيجابياً بشكل عام» أو «ممتازاً» تجاه روسيا بدءاً من تشرين الثاني 2021، بينما يحمل 42% منهم موقفاً «سلبياً بشكل عام» أو «سيئاً جداً» تجاه روسيا. كانت هذه المواقف السلبية تزداد سوءاً مع مرور الوقت.

كان جهاز الأمن الفيدرالي يستطيع مقارنة نتائجه مع تلك التي تعرضها المصادر المفتوحة لتقييم الوضع بدقة متزايدة، لكنّ انحياز هذه المنظمة وعدم ثقتها بالمصادر الأخرى منعا حصول ذلك. لهذا السبب، فضّل محللو الكرملين اختيار ما يعتبرونه بيانات مناسبة لإقناع الرئيس الروسي بأن معظم الأوكرانيين لا يؤيدون الوجهة السياسية التي يتخذها بلدهم. اهتم هؤلاء المسؤولون بحماية مناصبهم، فلم يلاحظوا على الأرجح أن 48% من الأوكرانيين كانوا مستعدين للقتال وأن 12% أخرى أُضيفت إلى هذه الفئة حين أصبح القتال واقعاً ملموساً. في أي ديمقراطية مثيرة للجدل، يعطي الناس أجوبة على الأسئلة الفرضية وكأنها مواقف سياسية بدل أن يعبّروا عن حقيقة ما ينوون فعله. لم تكن نزعة الأوكرانيين إلى التعبير عن مخاوف محلية جدّية تعني أنهم يتقبلون التعرّض للغزو على يد جارة استبدادية وعدائية.

كانت هذه المشاكل في النهج المعمول به تنطبق أيضاً على الأوكرانيين المقيمين في الأجزاء الشرقية من البلد، أي الفئة التي تحمل آراءً أكثر إيجابية تجاه روسيا. وكما يحصل في معظم الحالات المشابهة، يبدو أن الروس ظنوا أنهم وجدوا الأدلة التي يبحثون عنها منذ فترة طويلة، ما يعني أن أوكرانيا أصبحت جاهزة للتعرّض للغزو. أدت فرضيات جهاز الأمن الفيدرالي الشائبة إلى نشوء علاقة سببية خاطئة بين استياء الأوكرانيين من جهازهم السياسي واحتمال تقبّلهم للتوغل الروسي.

رغم الأهمية التحليلية الهائلة للمعلومات العلنية، أصر بوتين وأوساطه الاستخبارية على اعتبار المعلومات القيّمة غير متاحة للعلن. لهذا السبب، جمعت منظمة سرية البيانات المطلوبة، علماً أنها تحرص على ترسيخ الأفكار الشائبة بشأن الشعب الأوكراني.

بدا وكأن جزءاً من البيانات التي جمعها جهاز الأمن الفيدرالي يتماشى مع نتائج الدراسات مفتوحة المصدر، لكن خضعت كمية ونوعية البيانات المُجمّعة للغربلة بهدف توجيه قرار بوتين وخلق صورة تدعم قناعات الرئيس، لا سيما قدرته على دخول أوكرانيا بسهولة. أو ربما اعتمد المخبرون الأوكرانيون الذين يتعاملون سراً مع الاستخبارات الروسية نهجاً مشابهاً لما يفعله أكبر المسؤولين الاستخباريين في موسكو، ما يعني الحرص على متابعة تلقي الأموال عبر تقديم تقارير مستساغة سياسياً. لكن رغم تفضيل بوتين للأجواء السرّية، كان وضع الرئيس ليتحسن على الأرجح لو أنه أجرى بحثاً بسيطاً على محرك «غوغل» لمعرفة مواقف الأوكرانيين تجاه روسيا أو قرأ نتائج استطلاعات الرأي العلنية.

لكن فضّل بوتين الاتكال على جهاز استخباري يقدّم له ما يريد سماعه. في هذا السياق، أوضح دبلوماسي روسي منشق في الفترة الأخيرة أن السبب وراء الفشل في تقديم معلومات موضوعية إلى الكرملين يكمن في النزعة إلى دفن أي معطيات «غير مناسبة» داخل التقارير المليئة بحملة دعائية إيجابية خوفاً من إثارة استياء الكرملين. انكشفت هذه الممارسة في وثيقة صادرة عن وزارة الخارجية الروسية في العام 2021، حيث جرى تقييم مستوى القوات المسلحة الأوكرانية التي زادت قوة مقارنةً بقدراتها حين أقدم بوتين على غزو شبه جزيرة القرم في العام 2014. لكن وَرَدت هذه المعلومة ضمن «أنشودة طويلة تشيد بالقوات المسلحة الروسية العظيمة»، كما قال الدبلوماسي الروسي السابق، ما يشير إلى سهولة الإغفال عنها أو حتى تجاهلها عمداً. كان هذا الخطأ فادحاً. أصلح الأوكرانيون قواتهم المسلحة بعد أحداث شبه جزيرة القرم على أمل الانضمام إلى حلف الناتو. لهذا السبب، توسّع حجم تلك القوات في العام 2022، بدعمٍ من الولايات المتحدة ومجموعة أخرى من دول الناتو، فتحسّنت تدريباتها وتجهيزاتها مقارنةً بما عرفه الروس عنها في العام 2014.

كانت وزارة الخارجية الروسية تعرف مخاطر خطة بوتين، ومع ذلك ساهمت حملتها الدعائية الداخلية في إخفاء قوة أوكرانيا الحقيقية وخداع الكرملين وإقناعه بأن جميع الخطوات المتلاحقة تسير بالشكل المُخطط له. كان بوتين يحمل رأياً منحازاً وراسخاً بشأن القدرات العسكرية الأوكرانية والوضع السياسي العام في البلد. لم يتمتع جهاز الأمن الفيدرالي بالجرأة الكافية للاعتراض على هذه الأفكار، بل تكشف مصادر الصحافي الاستقصائي الروسي أندريه سولداتوف أن بوتين تبلّغ بأن «الجميع سيهربون بعد الهجوم الأول، وأن حشود المواطنين الغاضبين في كييف ستخرج من كل مكان، وأن (الرئيس الأوكراني فولوديمير) زيلينسكي سيسقط ثم تنتشر مظاهر الفوضى».

طوال عقود، شدد المنظّرون العسكريون الروس على أهمية المعلومات الاستخبارية الدقيقة وتلقّيها في الوقت المناسب قبل اتخاذ أي قرارات مرتبطة بحرب هجينة يشنّها الغرب ضد روسيا (من وجهة نظر الكرملين). أكد الجنرال الروسي المتقاعد ألكسندر بارتوش مثلاً على أهمية تقييم الخصوم وقدراتهم، على ألا تقتصر التحليلات على نقاط قوتهم أو نقاط ضعفهم العسكرية، بل تشمل أيضاً ثقافتهم الاستراتيجية لتوجيه تحركات الخصم.

لكن أغفل الخبراء الاستراتيجيون في الكرملين عن واقع أساسي: كان الغزو الروسي ضد شبه جزيرة القرم مسؤولاً عن تقوية الهوية الوطنية الأوكرانية وفصلها عن مواصفات الدولة العميلة لروسيا. أصبحت هذه المشاعر الطاغية في جميع أنحاء البلد، تزامناً مع تلاحق التطورات العسكرية البارزة، ركيزة لإصرار أوكرانيا على المقاومة.

إذا أراد بوتين أن يكبح توجّه كييف نحو محور الغرب بالقوة، سيشهد العالم في هذه الحالة على ولادة سياسية لدولة قومية أوكرانية معترف بها، حيث ترتكز قصتها التأسيسية على الصدمة المشتركة التي رافقت هذا الصراع والمشقات الجماعية. أصبح توجّه أوكرانيا نحو الغرب اليوم هدفاً تتقاسمه البلدان الغربية التي دعمت أوكرانيا باعتبارها جزءاً منها ثقافياً وأخلاقياً، حتى لو لم يصبح احتمال الانتساب إلى مؤسسات مثل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو محط تفاوض حتى الآن. بعيداً عن استطلاعات جهاز الأمن الفيدرالي التي تشير إلى حرب روسية خاطفة وسهلة، أدى غزو بوتين الأخير إلى تقوية الإرادة الأوكرانية الوطنية وترسيخها، فنشأت الظروف التي حاول الرئيس الروسي خنقها في مهدها: إنه وطن واثق بنفسه سياسياً ومنفصل ثقافياً عن روسيا، وهو يحظى بدعمٍ قوي من الغرب.

خلال المرحلة التي سبقت الحرب، تجاهل أتباع بوتين صراحةً جميع الأبحاث المتاحة واختاروا معلومات سرية مزعومة يريد رئيسهم سماعها. يصعب أن نتصوّر السيناريو الذي يجعل بوتين يغيّر رأيه بشأن الغزو، لكن لو نسّقت وكالات الاستخبارات ووزارة الخارجية الروسية جهودها بالشكل المناسب لمنح الكرملين تقييماً موضوعياً وواقعياً فيه معلومات علنية مثل بيانات استطلاعات الرأي، كانت الحرب لتتخذ شكلاً مختلفاً على الأرجح، فتصبّ في مصلحة روسيا مثلاً لو فهم المخططون العسكريون في فريق بوتين حقيقة الخصم الذي يواجهونه في أوكرانيا. لكن جعل بوتين أفضل عناصر جيشه في مرمى قضية مبنية على الفخر الوطني، فوجّه بذلك انتكاسة كبرى لبلده. كان بوتين يستطيع توقّع فشل الحرب ويُفترض أن يتوقّعها في ظروف مماثلة.

MISS 3