البروفسور أنطونيوس أبو كسم

هل للجيش دورٌ في التحوّل الديمقراطي؟

7 آذار 2023

02 : 00

إزاء الأزمة المستفحلة التي تصيب لبنان دولة وشعباً وسط تمنّع السلطة السياسية عن اتخاذ القرارات الجريئة لملء الفراغ في المؤسسات وإنقاذها، ثمة طروحات زجرية بدأت تُطرح على الطاولة، منها، استجداء التدخّل الدولي تحت الفصل السابع، أو تطبيق الفديراليّة كمشروع تقسيم في إطار البحث عن نظام جديد. طرحان يشكّلان انتهاكاً لسيادة لبنان ولاستقلاله ووحدته.

الفوضى الهدّامة

إنّ تطبيق هذه المخطّطات يستند إلى نظرية "الفوضى الهدّامة"، التي تقوم على هدم كافّة مؤسسات الدولة وصولاً إلى إفلاس الشعب، ودفعه إلى الشارع والاحتكام إلى استيفاء الحقّ بالذات. من أبرز أهداف هذه المؤامرة، جرّ الجيش إلى أتون المواجهات المذهبيّة في الشارع، لينزلق في وحول الانقسامات لجعله طرفاً في النزاع.

إنّ خطّة استهداف الجيش كطرفٍ محايدٍ ضامن لأمن المجتمع بكلّ أطيافه، بدأت تتكشّف تباعاً عبر حملات سياسية وإعلاميّة ممنهجة بواسطة عسسٍ ومرتزقة رُصِدَت لها موازنات مشبوهة ومكشوفة لتشويه صورته وحرق دوره خوفاً من دوره وانتهاء دورهم. تجلّت معالم الفوضى الهدّامة، عبر تدمير السلطة القضائية بشكلٍ كلّي، وعبر إفساد السلطة النقدية والمالية لتصاب بعجزٍ كلّي انعكس انهياراً اقتصادياً يُنبِئ بمجاعة مفترسة. وتجلّت صور الفوضى الهدّامة بتدمير البنى التحتيّة، من كهرباء ومياه وطرقات، حتى اضطرّ المواطنون للّجوء إلى وسائل بديلة، ناهيك عن الضرب المفتعل لقطاع التربية، ليصبح التعليم من الكماليات. أمّا صور الموت فتتجلّى بانهيار قطاع الاستشفاء واحتكار الدواء مقابل تشجيع تعاطي المخدرات.

حفاظ الجيش على استقلاليته ووحدته

أمعنت السلطة السياسية الفاشلة بإفلاس البلد وتجويع الشعب، مقابل مكاسب أنانيّة سلطويّة وماديّة حتّى يشعر نيرون بنشوة نار الفراغ، كي لا يتولّى أحدٌ غيره السلطة. في المقابل، نجح الجيش بإتمام الاستحقاقات الدستوريّة، آخرها الانتخابات النيابيّة، ونجح الجيش بالحفاظ على وحدته، ونجح باعتماد سياسة اقتصادية حكيمة تضمن الطبابة والتعليم لأسر الجيش، وتكلّل نجاحه بالدور الإنساني خلال الأزمات والكوارث.

الأهمّ، نجح الجيش بمواجهة سياسة تجويع العسكر عبر محاولات غاشمة لقطع الدعم عنه عبر التسويق الكيدي من قبل جاحدين أنّه مخالف لقانون المحاصصة السياسية. نجح الجيش في أن يكون سلطة ثالثة، إثر عجز القضاء عن المحافظة على موقعه مستقلاً في السلطة الثالثة، بسبب التحاقه بالسلطة السياسية. كرّس الجيش نفسه سلطة مستقلّة مانعاً التدخّل السياسي بحوكمته، بالرغم من أنّ تسييس الجيش يصبّ في المصلحة الشخصيّة لقائده إذا رغب بتبوّؤ رئاسة الدولة. هذا الحاجز الوقائي الذي بناه الجيش، جعل منه سلطة مستقلّة على مسافة واحدة من الجميع ليشكّل ضمانة للمجتمع وصوناً للقيم.

إنّ المؤسسة العسكريّة تشكّل عثرة لتنفيذ خطّة أصحاب الفوضى الهدّامة وشركائهم في الداخل. فوحدة الجيش، تشكّل العقبة الرئيسة لمشروع التقسيم؛ وجهوزيّته على كامل الأراضي اللبنانية رغم الإمكانيات المتواضعة، تجعل نظريّة التدخّل الدولي من دون جدوى، بل مشروعاً استفزازياً يؤدّي إلى حربٍ من نوع آخر. قوّة الجيش تكمن في طبيعة مكوّناته، فأصبح يشكّل الحزب الأكبر على كامل مساحة الوطن، والحزب غير الطائفي شبه الوحيد والذي يضمّ كافة الطوائف، ذا عقيدة واحدة تتخطى الانتماءات المذهبية والثقافية المتنوّعة، يجتمع حولها جمهور كبير.



الجيش واستلام السلطة



حسب هنتنغتون، إنّ تفاقم عدد الأحزاب المتصارعة على السلطة يُكثِر من احتمالات تعرّض السلطة القائمة لانقلاب عسكري، كما يمكن أن يكون التدخل العسكري خياراً عند اشتداد الصراع وظهور الفراغ السياسي، وذلك بهدف لعب دور القوى الحكوميّة الغائبة.

في العلم المقارن، يتدخل الجيش أحياناً من دون سابق إنذار ليس لتحقيق أهداف سياسية، بل للتكيّف مع ظروف استثنائية جرّاء ثورة شعبية (سانت دومينيغو) أو انقسام سياسي حادّ وانهيار النظام (الباكستان والكونغو). يملأ الجيش عفواً الفراغ السياسي لفترة محدّدة قبل العودة للثكنات بمجرّد انتظام الحياة الدستورية. وأيضاً، عندما يواجه نظام سياسي أزمة مشروعية، فإنّ تدخل الجيش، سواء بإرادته أو إرادة النخب السياسية والمجتمع المدني، يعتبر حلاً وارداً في ظلّ نظام سياسي استبدادي فاسد. فالجيش التونسي مثلاً لعب دوراً محورياً في خلع بن علي تمهيداً لمرحلة الانتقال الديمقراطي من دون استلام السلطة. إنّ تجارب بعض الجيوش الأجنبيّة والعربيّة كانت لها الأثر الإيجابي في انتظام عمل المؤسسات وتوزيع الثروات الوطنيّة وصيانة الحقوق الأساسيّة للمواطنين.



واجب التدخّل الديمقراطي للجيش



حان الوقت للتفكير بدور الجيش لإنقاذ الوطن بوجه مؤامرات تهديم الدولة. إنّ سلوكيّة الجيش في ظلّ القيادة الحاليّة، قد كوّنت صورة جديدة بعيدة كلّ البعد عن ممارسة النظام الأمني أو عسكرة النظام التي اعتاد عليها اللبنانيون.

في الواقع، إنّ الجيش اللبناني لا يبدي استعداده لاستلام السلطة السياسية خلال المرحلة الحرجة الراهنة، في الوقت نفسه لا يليق به أن يقف متفرّجاً على انهيار مؤسسات الدولة. ليس من المحظور أن يُقدِم الجيش على خطوة باتجاه التحوّل الديمقراطي في لبنان في وجه فراغ المؤسسات وتعطيلها، وأن يتدخّل لتحرير الاقتصاد عبر ضرب الاحتكار - متمايزاً عن دور الجيش الاقتصادي في مصر والجزائر والسودان. فمصداقيّة الجيش تحتّم القيام بعملية تدخلٍ إنسانيّ إنقاذية. إنّ الجيش هو القادر في ظلّ العجز السياسي على إنقاذ الدولة ومحاسبة الفاسدين. فخطوة الجيش لا يجب أن تكون بمفهوم الانقلاب العسكري، بل خطوة استباقية لانهيار الدولة وفق نهج بريتوريانيّ جديد لا يبغي الاستيلاء على السلطة.

من واجب الجيش التدخّل لحماية الدستور ومنع العبث به، ففي غياب رئيس الدولة، إنّ الجيش هو رمز وحدة الوطن. من واجب الجيش حماية الديمقراطية لتستعيد دورها عبر تنظيم انتخابات نيابية جديدة تؤسس لدولة قانون وإقرار إصلاحات تشريعيّة تحمي المؤسسات الدستورية من التعطيل. إنّ وضع الجيش يده على مرافق الدولة لفترة انتقالية من شأنه حماية ما تبقّى من ثروات وطنيّة ومكافحة الفساد وإقصاء الفاسدين، والحفاظ على حقوق المواطنين.

فلا للحرب، نعم للسّلم، فالفديرالية تأتي بالدمّ واستمرارها بقيادة الميليشيات يؤدّي إلى مشاريع حروب مستمرّة، تنتهي بقضم الأقاليم وزوال لبنان، خصوصاً وأنّ التوطين يشكّل العمود الفقري للفديراليّة.



(*) محامٍ دوليّ وأستاذ جامعي


MISS 3