ويدمان شميت

شركة سرّية تنشر الأكاذيب والفوضى حول العالم

8 آذار 2023

المصدر: DER SPIEGEL

02 : 00

لقطات من فيديو مصوّر تُظهر فريق «خورخــــــي» وبعض الأخبار الكاذبة التي تمّ نشرها

بعد أشهر على رصد أدلة مزيفة والوقوع ضحية الأفخاخ والألاعيب، ظهر دليل واعد أخيراً وقادنا إلى منطقة إسرائيلية قاحلة وصولاً إلى تقاطع تصميمه بشع بين تل أبيب والقدس. يقع مركز مجهول للمكاتب هناك بين طريقَين سريعَين ويمكن الوصول إليه عبر مدخل خفيّ. دخلنا إلى موقف سيارات تحت الأرض ثم صعدنا إلى الطابق الثالث. وجدنا في الداخل ثلاثة رجال، جميعهم فوق عمر الخمسين، وكانوا قد عملوا لفترة طويلة كعملاء أو عسكريين. إنها شخصيات غامضة، وهي تستعمل أسماءً مستعارة وغير موجودة رسمياً.

يقول واحد منهم: «نحن لا أحد». هو يسمّي نفسه «خورخي» ويبدو رجلاً حذراً وخطيراً في آن. لم يكن خورخي يعرف أنه يتكلم مع صحافيين ولم يعلم بوجود كاميرات خفية. تعليقاً على طبيعة عملهم، يقول خورخي: «نحن ندير نوعاً مختلفاً من أجهزة الاستخبارات». هم متخصصون بالاستحقاقات الانتخابية على وجه التحديد.

هو يعترف بأن وحدته السرية تلاعبت بـ33 انتخابات وطنية عن طريق الفضائح المزيّفة، وحملات الأكاذيب، والتأثير على الأصوات، وتكتيكات قذرة أخرى. عند التدقيق بالموضوع، يمكن رصد هذا النوع من التلاعب في أماكن كثيرة حول العالم، بما في ذلك إندونيسيا، ونيجيريا، والبوسنة. يقول خورخي إن الشركة تملك فريقاً تابعاً لها في اليونان والإمارات العربية المتحدة. داخل غرفة المؤتمرات، تظهر وثائق على شاشة كبيرة، وهي مليئة بمعلومات عن أشخاص وحملات وأماكن عمل فيها الرجال سابقاً أو يتابعون نشاطاتهم فيها حتى الآن.

يحمل أحد الملفات اسم «كينيا». إنه «مثال جيّد» على أعمال الشركة برأي خورخي. انتخبت كينيا رئيساً جديداً في الصيف الماضي. طوال سنوات، عُرِف هذا البلد كواحد من أكثر الديمقراطيات استقراراً في القارة الأفريقية، لكن يكثر الكلام اليوم عن تزوير الانتخابات، وتعرّض كبار المسؤولين الحكوميين للقرصنة، وإقدام مخبرين مزعومين على نشر أكاذيب فاضحة. لم يعد معظم سكان البلد يجيدون التمييز بين الحقائق والأكاذيب. قدّم الإسرائيليون لاحقاً عرضاً مباشراً عما فعلوه لاختراق البريد الإلكتروني الخاص بسياسي كيني قوي.

يبدو جزء من المشاهد المعروضة أشبه بأفلام التشويق الشائعة في هوليوود. تسمّي الشخصيات الرئيسية نفسها «فريق خورخي»، وهي مجموعة عديمة الأخلاق تتألف من ناشري المعلومات الكاذبة وسُمّيت تيمناً بالاسم المشفّر لقائدها. اسمه الحقيقي هو تل حنان. كان هذا الأخير عنصراً في القوات الخاصة التابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي، وهو مدرّب عسكري وخبير في مكافحة الإرهاب. كذلك، كان خورخي ضابط اتصال سابق في الأسطول السادس للبحرية الأميركية وتربطه علاقات وثيقة مع وكالات الأمن الأميركية.

يُصمّم خورخي وفريقه اعتداءات مستهدفة لضرب قلب الديمقراطية. هم يتلاعبون بالاستحقاقات التي يُفترض أن تكون انتخابات حرّة، فتزيد فرصة فوز كل من يستطيع تحمّل كلفة خدماتهم. لا مكان للأخلاقيات أو القوانين في هذه العمليات، بل يُعتبر المال المعيار المؤثر الوحيد. يقول «فريق خورخي» إن كلفة التلاعب بأي استحقاق انتخابي تصل إلى 15 مليون دولار.

تبدو الأساليب المستعملة في هذه العمليات وحشية وغير قانونية في آن، وهي تشمل القرصنة والتشهير والتزوير. كل شيء ممكن طالما تبقى الحقيقة خفية ويصبح النجاح محتملاً.

حافظت الشركة على طابعها السرّي حتى الآن، إذ لا تعرف بوجودها إلا أوساط ضيقة، بما في ذلك سياسيون متعطشون للسلطة، وطغاة، ورجال أعمال أثرياء، معظمهم في جنوب شرق آسيا، وأميركا اللاتينية، وأفريقيا. ويبدو أن جهازاً استخبارياً أوروبياً واحداً على الأقل رصد نشاطات الشركة في مرحلة معينة، لكنه لم يتخذ أي خطوة للتصدي لها.

لم تنكشف نشاطات «فريق خورخي» إلا في هذه المرحلة، بعد أشهر من الأبحاث العالمية التي قامت بها منظمة الصحافة الاستقصائية غير الربحية Forbidden Stories.

كشفت الأبحاث في هذا المشروع أن «فريق خورخي» قد يشمل أخطر مرتزقة في عالمٍ غامض لطالما كان ناشطاً بشكلٍ سرّي. لكنه ليس الفريق الوحيد الذي يقوم بهذا النوع من النشاطات. في السنوات الأخيرة، نشأ قطاع واسع وسريع النمو لنشر حملات التضليل، إذ تنشط عشرات الشركات حول العالم لتغيير الحقائق بما يصبّ في مصلحة عملائها. لا شيء يستطيع إيقاف هؤلاء المرتزقة: هم يتلاعبون بالانتخابات، ويخرّبون سمعة السياسيين، ويعزلون المخبرين من عملهم، حتى أنهم يستطيعون زعزعة أسس بلدان كاملة. كذلك، استهدفت مضايقاتهم الصحافيين والناشطين في مناسبات متكررة، وأدت حملات التشهير إلى جرائم قتل أحياناً.

يبقى معظم المسؤولين عن هذه الحملات في الظل ولا تتضح دوافعهم في أي لحظة، لكن تقود الأدلة المتاحة إلى وجهات متعددة، أبرزها مقرّات رئيسية للشركات وعواصم مثل موسكو، وبكين، ونيودلهي، والرياض، وصولاً إلى واشنطن، وبرلين، وبروكسل.

تظهر الأدلة التي تشير إلى تورط روسيا بشكلٍ متكرر. تقوم الجيوش الإلكترونية التي يسيطر عليها الكرملين ومحاربو المعلومات في «مجموعة فاغنر» بنشر الأكاذيب، وتشويه الحقائق، وفرض وقائع بديلة. يبدو تأثيرهم قوياً في ألمانيا تحديداً، إذ تَقِلّ البلدان الغربية الأخرى التي يتدفق فيها هذا الكمّ من نظريات المؤامرة التي تنشرها روسيا.

لطالما كانت حملات التضليل من الأسلحة المفضلة لدى دول استبدادية كثيرة. يستعمل مسؤولون في «المكتب الاتحادي لحماية الدستور» (وكالة استخبارية ألمانية محلية) مصطلح «الحرب الهجينة» لوصف الجهود التي تبذلها الجيوش الإلكترونية الروسية، والمقرصنون الصينيون، وعملاء كوريا الشمالية، لزعزعة البنية التحتية الرقمية أو نشر أخبار كاذبة. لكن في زمن الحروب اليوم، بدأ الخط الفاصل بين حملات التضليل التي يطلقها مرتزقة من القطاع الخاص وتلك التي تنظّمها جهات حكومية يتلاشى. إنه وضع خطير.

بدأ الخبراء يعتبرون حملات التضليل مصدر خطر كبير، لا سيما في المجتمعات غير المستقرة أو المنقسمة. حين تعجز شريحة واسعة من الناس عن التمييز بين الوقائع والأكاذيب، من الأسهل على الطغاة والشعبويين أن ينشروا وجهات نظرهم البائسة. يكفي أن ننظر إلى شخصيات مثل رئيس حكومة المجر فيكتور أوربان، أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.

في غضون ذلك، يتابع قطاع التزييف تطوير نفسه عبر تحسين أدواته وتقنيات الذكاء الاصطناعي التي يستعملها، ولا تبدو الأوساط السياسية ولا الأجهزة الأمنية مستعدة لهذا الهجوم العالمي.

حين سُئِل تل حنان، أو خورخي، عن صعوبة تزوير الانتخابات الرئاسية، قال إن هذه العملية ليست صعبة جداً على من يكررها في مناسبات كافية. تقضي أفضل طريقة في هذا المجال بِشَلّ الخدمات اللوجستية في يوم الانتخاب. ما الذي يمكن أن يحصل في هذه الحالة؟ قد يتعطل النظام أو يتوقف تسجيل الناخبين. الأمر بهذه البساطة.

تُعبّر إيمان براينت، وهي واحدة من أفضل خبراء العالم في مجال حرب المعلومات، عن قلقها من إصرار الرأي العام على التركيز على «فيسبوك»، و»تويتر»، وشركات إعلامية مشابهة. من وجهة نظرها، يتجاهل الناس المشكلة الحقيقية المتمثّلة بهذا «القطاع الضخم القائم في الظل».

تُعتبر الشركة المشبوهة Eliminalia من الشركات العملاقة في هذا القطاع، وهي تَعِد العملاء بمحو ماضيهم. تضمن هذه الشركة اختفاء أي معلومات عن عملائها على شبكة الإنترنت. حتى أنها تستطيع إخفاء المقالات غير المناسبة في وسائل الإعلام. يبدو أنها خدمة شائعة لمجرمين مثل مبيّضي الأموال المرتبطين بكارتل «ميديلين» لتجارة المخدرات، ومرتكبي الاحتيال المالي والجرائم الجنسية المُدانين.

تشمل قاعدة بياناتها عقوداً، وأسماء العملاء، ومعلومات داخلية أخرى عن الشركة، وما مجموعه 500 ألف وثيقة تسلّط الضوء على الوسائل الوحشية المستعملة. وفق البيانات المتاحة، يقوم موظفو Eliminalia بتزوير المحتويات، وإرجاع تاريخ المنشورات، ويخترعون أكاذيب متكررة عن هويتهم. في الماضي، طرحت الشركة نفسها كمؤسسة في الاتحاد الأوروبي وزعم موظفوها أحياناً أنهم محامون.

يشمل عملاء Eliminalia عدداً من الشركات أيضاً، بما في ذلك شركة التكنولوجيا الإيطالية Area Spa التي باعت نظام مراقبة إلى سوريا ثم أرادت محو هذه المعلومات من العالم الرقمي. أكدت الشركة عند التواصل معها على أنها كانت من عملاء Eliminalia، وأضافت أنها اتكلت عليها للقيام بنشاطات قانونية ولم تعرف بحصول أي مخالفات.

عند طلب تعليق من شركة Eliminalia، قال المسؤولون فيها إنهم لا يستطيعون الإجابة على الأسئلة المطروحة عليهم خلال أسبوع. أعلنت الشركة أيضاً أن قائمة الأسئلة تحمل «طابعاً جزئياً ومعيباً» وتتطرق إلى أسرار عملها.

يقول خبير بارز في الاستخبارات الغربية: «لقد لاحظنا أن السوق الذي يشمل هذا النوع من الشركات بدأ ينمو في أنحاء العالم. لكني لم أسمع شيئاً بعد عن «فريق خورخي»». لكن يظن خبير المعلومات أيضاً أن عدد «مزوّدي الخدمات العدائية» بدأ يتوسّع. هو متخصص بمجال «التهديدات الهجينة» التي تشير إلى مجموعة متنوعة من أساليب الهجوم التي تهدف إلى تفكيك المجتمعات.

أطلقت منظمة Forbidden Stories المشروع الاستقصائي الدولي Killers في صيف العام 2022، وهو يُعنى بالمعلومات الكاذبة، والحملات الدعائية، والهجمات السيبرانية ضد الصحافيين حول العالم. باستيان أوبرماير هو عضو في مجلس إدارة المجموعة الاستقصائية غير الربحية، وهو يعمل في صحيفة «دير شبيغل» أيضاً. بدأ هذا المشروع رداً على مقتل الناشطة والصحافية الهندية غوري لانكيش على يد أصوليين أطلقوا النار عليها. خلال السنوات التي سبقت مقتلها، كان المتطرفون يستهدفونها بأسوأ الطرق، فنشروا عنها أكاذيب على الإنترنت وهددوها وشهّروا بها. ومنذ منتصف العام 2022، يكتب ما يفوق المئة مراسل في أكثر من 20 بلداً تقارير عن قطاع حملات التضليل، بما في ذلك صحف مرموقة مثل «واشنطن بوست»، و»غارديان»، و»لوموند». في ألمانيا، شاركت صحيفة «دي تسايت» ومحطة البث «زي دي إف» في المشروع إلى جانب «دير شبيغل»، فضلاً عن صحيفة «دير ستاندرد» في النمسا.

حصلت حادثة لافتة في العام 2017، حين استعانت شركة خاصة في الإمارات العربية المتحدة، اسمها DarkMatter، بفريق كامل من الخبراء السيبرانيين من الولايات المتحدة، وكانوا جميعاً قد عملوا سابقاً في أماكن مثل وكالة الأمن القومي الأميركية، ووكالة الاستخبارات المركزية، ووكالات أخرى. يقول العميل البارز في الاستخبارات الغربية إن عملاء سابقين قاموا بقرصنة حواسيب وهواتف خلوية تعود إلى كل من يزعج شيوخ البلد، بطلبٍ من الحكومة في أبو ظبي. يضيف العميل نفسه إن المجموعة استهدفت أيضاً أمير قطر حين كانت العلاقات بين أبو ظبي وقطر متوترة. لكن تنكر DarkMatter هذه الادعاءات.

تشمل وكالات الاستخبارات الغربية راهناً حوالى ستين شركة في فرع «العلاقات العامة السوداء». ويعتبر عدد من الخبراء هذه الفورة في شركات المرتزقة داخل القطاع الخاص مقلقة لأن الجهات الحكومية عمدت إلى الاختباء وراءها في السنوات الأخيرة. تفضّل الحكومات استعمال هذه الشركات بدل اللجوء إلى عملائها لإخفاء هجمات القرصنة أو حملات التضليل بأفضل الطرق. كذلك، تخضع الشركات أحياناً لسيطرة حكومية ضمنية وفق مصادر خبراء الأمن. إنه تطور خطير.

من المعروف أن الدول تستعمل حملات التضليل منذ وقت طويل كسلاح بحد ذاته، لا سيما خلال الحرب الباردة. حاولت الولايات المتحدة زعزعة استقرار ألمانيا الشرقية في سنواتها الأولى عبر جعل وكالة الاستخبارات المركزية تنشر صحفاً مزيفة. وكان الاتحاد السوفياتي أكثر تعصباً في طريقة تنفيذه لحملات التضليل. خلال عملية واسعة النطاق، نشرت الاستخبارات السوفياتية كذبة مفادها أن فيروس نقص المناعة البشرية انتشر عن طريق الخطأ خلال تجربة أميركية. سرعان ما تحوّلت هذه الكذبة إلى واحدة من أعظم انتصارات الحملات الدعائيــة التي تحمل توقيع الـــــوكالات السوفياتية السرّية.

لكن بدأ العصر الذهبي لحملات التضليل الحكومية مع ظهور الإنترنت. تقول سامانثا برادشو، رئيسة «مشروع بحث الحملات الدعائية المحوسبة» في جامعة «أكسفورد» ومُصمّمة «قائمة القوات السيبرانية» (أكبر قاعدة بيانات في العالم عن حملات التضليل): «مع مرور الوقت، ارتفع عدد الحكومات والأحزاب السياسية التي تستعمل الحملات الدعائية المحوسبة لتحقيق غايات سياسية متنوعة». وفق القائمة التي أعدّتها برادشو، استعمل 81 بلداً على الأقل القنوات على مواقع التواصل الاجتماعي، بحلول العام 2020، لنشر حملات دعائية مستهدفة ومعلومات كاذبة، وثمة عدد آخر لم يتم رصده على الأرجح. تضيف برادشو: «كان عدد تلك البلدان يصل إلى 30 تقريباً منذ أربع سنوات فقط، وهي زيادة بارزة». تشمل تلك القائمة عدداً من البلدان الديمقراطية أيضاً، لكن تشكّل الدول الاستبدادية الأغلبية طبعاً.

على صعيد آخر، يطرح عملاء من كوريا الشمالية وإيران أنفسهم كصحافيين جدّيين لنشر قصص كاذبة. في غضون ذلك، تستعمل الصين جميع الوسائل المتاحة أمامها للتشكيك بالفكرة القائلة إن فيروس كورونا ظهر فيها أولاً قبل أن ينتشر في أنحاء العالم.

كجزءٍ من الجهود الصينية الدعائية المتنوعة، ذهب خبراء حملات التضليل في بكين إلى حد اختراع عالِم سويسري اسمه ويلسون إدواردز. كتب هذا الأخير على «فيسبوك» أن البحث عن أصل فيروس كورونا أصبح مسيّساً. ثم نشرت قنوات صينية رسمية نتائج ذلك الباحث المزيّف. وفي صيف العام 2020 وحده، حذف «تويتر» 170 ألف حساب كان ينشر أخباراً كاذبة ورسائل أخرى على صلة بالحملة الدعائية الموالية للصين عن مسائل مثل فيروس كورونا وتايوان.

لكن لم يستعمل أي بلد في السنوات الأخيرة حملات التضليل كسلاح بحد ذاته بقدر روسيا في عهد فلاديمير بوتين، وقد حققت هذه المقاربة نجاحاً صادماً أحياناً. اتّضح ذلك مثلاً خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016. نجح مقرصنون يقال إنهم على صلة بجهاز سرّي روسي في سرقة وثائق محرجة من حملة هيلاري كلينتون، ثم نظّموا طريقة نشر تلك الوثائق. إنه نموذج مثالي عن اعتداءات «القرصنة والتسريب» المشابهة لتلك التي استهدفت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال حملته الانتخابية في العام 2017.

في الوقت نفسه، أنشأ بوتين مصنعاً كاملاً من الجيوش الإلكترونية ووظّف حوالى ألف شخص في مبنى سرّي في «سانت بطرسبرغ» بهدف تفكيك المجتمعات الغربية بطريقة منهجية. كان الهدف الأساسي من هذه الخطوة يتعلق بإيصال دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. قبيل الانتخابات الأميركية، أنشأت الجيوش الإلكترونية الروسية ما يشبه مجموعات الفيسبوك الأميركية، على غرار «المسلمون المتحدون في أميركا»، وزعمت أنها تدعم هيلاري كلينتون. قال محقق خاص بعد مرور سنوات على تلك الحملة إن 120 مليون أميركي تلقوا حينها أخباراً كاذبة ومثيرة للانقسامات بوتيرة مكثفة.

اتّهمت السلطات الأميركية 12 عميلاً روسياً بالمشاركة في «مؤامرة إجرامية ضد الولايات المتحدة». حتى أنها عرضت مكافأة بقيمة 10 ملايين دولار مقابل معلومات عن جهود يفغيني بريغوجين للتدخل في الانتخابات. بريغوجين هو حليف مقرّب من بوتين، وهو مجرم مُدان ورئيس «مجموعة فاغنر» الشهيرة. حتى أنه موّل مصنع الأخبار الكاذبة في «سانت بطرسبرغ»، وهو أمر أكد عليه شخصياً لصحيفة «دير شبيغل» حين طُلِب منه التعليق على الموضوع.

نشأ جيش إلكتروني جديد في الفترة الأخيرة، وقد ظهر للمرة الأولى بعدما أقدمت القوات الروسية على غزو أوكرانيا منذ سنة تقريباً. تنشر شركة Cyber Front Z الحملة الدعائية الخاصة بالكرملين، وتنكر الأعمال الوحشية المرتكبة في «بوتشا»، وتحتفل بمقتل الجنود الأوكرانيين. مجدداً، يبدو أن بريغوجين تورّط في هذه الأعمال أيضاً، فهو صرّح لصحيفة «دير شبيغل» بأنه قدّم مساحة لتحويلها إلى مكتب للجيش الإلكتروني.

لن تكون مشاركة بريغوجين في هذه النشاطات مفاجئة بأي شكل، فقد أصبحت «مجموعة فاغنر» والشركات الحليفة لها أهم سلاح تستعمله موسكو في الحرب الهجينة التي تجمع بين القتل والتلاعب. تتألف «مجموعة فاغنر» بشكلٍ أساسي من مجرمين مُدانين ومتطرفين يمينيين، ويمكن استعمالهم حول العالم بكل سلاسة، حتى في الأماكن التي لا يتواجد فيها الجيش الروسي بشكلٍ رسمي، مثل أفريقيا التي اعتبرتها موسكو ساحة معركة جيوسياسية مؤثرة.

في السنوات الأخيرة، تسلل آلاف المرتزقة من «مجموعة فاغنر» إلى بلدان مثل مالي، وموزمبيق، ومدغشقر، على شكل مستشارين عسكريين. في الوقت نفسه، أمطر خبراء التضليل غانا، ونيجيريا، وبوركينا فاسو، بالأخبار الكاذبة. يهدف خليط العنف والتضليل إلى تسهيل الوصول إلى المواد الخام وتجنيد حلفاء جدد.

في بانغي، عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى، لا يمكن أن يغفل أحد عن القوات التابعة لمجموعة «فاغنر»: إنهم رجال بيض ومقنّعون يرتدون زيّ القتال ويحملون أسلحة معاصرة. يسمّيهم سكان بانغي «المرشدين الروس». جلبهم رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى لحمايته هو ونظامه من الثوار الذين يسيطرون على أجزاء من البلد.

كان المسلحون الروس مسرورين بالقدوم طبعاً. تُعتبر جمهورية أفريقيا الوسطى من أفقر بلدان العالم، لكنها غنية بالذهب ورواسب الماس. أمّنت الشركة الروسية Lobaye Invest (يسيطر عليها بريغوجين أيضاً وفق وسائل الإعلام الروسية) تراخيص تعدين مهمة. يقول الدبلوماسيون الأميركيون إن روسيا قد تسترجع مبلغ مليار دولار بفضل عمليات التعدين.

يُصِرّ بريغوجين من جهته على عدم ارتباطه بشركة Lobaye Invest، ويقول إن الشركة لم تنشط يوماً في مجال التنقيب عن الذهب أو الماس، بل يقتصر دورها على استكشاف المواقع كي يتمكن «أفقر بلد في أفريقيا من بيع موارده وإنقاذ نفسه من الفقر».

عند تعقب آثار «مجموعة فاغنر» في أنحاء أفريقيا (مروراً بالعواصم المحاصرة في الساحل الأفريقي، وصولاً إلى القرى البعيدة ومناطق التعدين)، لا مفر من أن تتشكل صورة مزعجة عن الوضع الحقيقي. فيما يتابع المقاتلون عمليات النهب، يقوم خبراء التضليل بدورهم عبر تنظيم مظاهرات موالية لروسيا. كذلك، يُلام قطّاع الطرق على جرائم قتل المدنيين التي ارتكبها على الأرجح عناصر من «مجموعة فاغنر»، ويتلقى الصحافيون المال لنشر قصص غير دقيقة عن قوات الأمم المتحدة المنتشرة في البلد، ويُحدد المرشدون الروس عناوين الأخبار بأنفسهم. لا تتغير الرسالة التي يوجّهونها مطلقاً: الغرب شرير وروسيا طيّبة.

أصبحت بوركينا فاسو، التي تشمل كميات كبيرة من المواد الخام، أحدث هدف لهذا النوع من حروب المعلومات. بعدما أطلق الضابط العسكري إبراهيم تراوري (34 عاماً) انقلاباً ناجحاً في شهر أيلول الماضي، كان رئيس «مجموعة فاغنر»، بريغوجين، من أوائل من سارعوا إلى تهنئته. في الوقت نفسه تقريباً، ظهر عدد متزايد من الحسابات الموالية لروسيا على شبكة الإنترنت، ونزل متظاهرون إلى العاصمة فجأةً وهم يحملون لافتات كُتِب عليها «شكراً فاغنر». أصبحت فرنسا الآن مضطرة لسحب قواتها من البلد بطلبٍ من تراوري.

في العام 2022، قامت شبكة الصحافة الأفريقية Code for Africa برصد 74 حملة تضليل في منطقة الساحل الأفريقي وفي أفريقيا الوسطى. يُركّز بعضها على نشر الأكاذيب عبر «تويتر»، ويشمل بعضها الآخر وثائق مفبركة، وتقضي حملات أخرى بتشكيل مجموعات عملاقة من المناصرين المزعومين لإغراق مستخدمي «فيسبوك» بعبارات مثل «بوتين مخلّص أرسله الله لتحرير العالم من شر الغرب». يظن الخبراء أن النيجر ستكون الوجهة المستهدفة في المرحلة المقبلة، فهي تشمل رواسب قيّمة من اليورانيوم.

لكن لا ينشط المحاربون المخادعون التابعون لموسكو في المناطق غير المستقرة من العالم فحسب، إذ تُعتبر ألمانيا من أكثر البلدان التي تستهدفها حملات التضليل الروسية. تذكر قاعدة بيانات في الدائرة الأوروبية للشؤون الخارجية 700 حالة من الأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة في ألمانيا بين العامين 2015 و2021، بما يفوق الحملات التي استهدفت فرنسا وإيطاليا وإسبانيا مُجتمعةً. تشتق هذه الحملات كلها من موسكو، بما في ذلك ادعاء مفاده أن العلماء الألمان شاركوا في إنتاج أسلحة بيولوجية في أوكرانيا، ما يعني أنهم يرتكبون جرائم حرب.

تزامناً مع هذه الجهود، تنشر روسيا مقرصنين تابعين لها أيضاً. هم مسؤولون على الأرجح عن الهجوم الذي تعرّض له البرلمان الألماني، البوندستاغ، منذ بضع سنوات، حيث سُرِقت منه 16 غيغا بايت من البيانات. كذلك، يقال إن المجموعة المعروفة باسم Ghostwriter (يظن الكثيرون أن الاستخبارات السرية العسكرية التي يقودها بوتين تسيطر عليها أيضاً) قامت بتعقب بيانات عشرات المشرّعين الألمان وحققت هدفها في حالات كثيرة. يخشى «المكتب الاتحادي لحماية الدستور» أن تنتشر المواد المسروقة خلال تلك الاعتداءات علناً في نهاية المطاف. في بولندا ودول البلطيق، سبق واستعمل المقرصنون المعلومات المسروقة لإطلاق حملات تشهير ضد السياسيين.

في الفترة الأخيرة، بدأ الكرملين على ما يبدو يجرّب استراتيجيات جديدة. في السنة الماضية، ظهرت نسخ حقيقية ظاهرياً من وسائل إعلام ألمانية معروفة، وراحت تنشر مقالات مزيفة تحمل عناوين مثل «بعد العقوبات ضد روسيا، أولاف شولتس حَكَم على الاقتصاد الألماني بالموت». لا يقع الكثيرون ضحية هذه التكتيكات طبعاً لكن يصدّقها البعض أحياناً، وبدأت هذه الفئة تتوسع مع مرور الوقت.

في غضون ذلك، بدأت الشخصيات الفردية المؤثرة التي تملك عدداً كبيراً من المتابعين تزداد أهمية في الاستراتيجية الروسية. في مذكرة سرّية، يحذر «المكتب الاتحادي لحماية الدستور» من «زيادة أهمية الأفراد لنشر الحملة الدعائية الروسية والمعلومات المُضللة على مواقع التواصل الاجتماعي».

في ألمانيا، تُعتبر ألينا ليب (29 عاماً) أهم محاربة موالية للكرملين في مجال المعلومات. تنحدر هذه الشابة في الأصل من «لونبورغ»، في جنوب «هامبورغ»، وهي تستعمل قناتها على «تلغرام» لنشر الحملة الدعائية الصادرة من روسيا والأراضي التي يحتلها الروس بشكلٍ يومي أمام 180 ألف مشترك. في 24 شباط 2022، رحّبت ليب بالغزو الروسي لأوكرانيا بعبارة «اجتثاث النازية بدأ»! هي تزعم أنها ناشطة مستقلة.

يميل حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف إلى استعمال الادعاء نفسه حين يتصرف النواب التابعون له أو الأعضاء المنتسبون إليه كشخصيات مؤثرة وموالية للكرملين، وهو سلوك تكرر في الماضي. قام كبار المسؤولين في الحزب بزيارات متكررة إلى روسيا أو شبه جزيرة القرم المحتلة، حتى أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف استقبل زعيم الحزب تينو شروبالا. تابع معظم السياسيين في حزب «البديل من أجل ألمانيا» الدفاع عن الكرملين بعد بدء الغزو الروسي ضد أوكرانيا، داخل ألمانيا وعبر وسائل الإعلام الروسية الحكومية. هم يطالبون برفع جميع العقوبات، ويعارضون تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا، ويدعمون احتفاظ روسيا بجميع الأراضي التي احتلّتها. حتى أنهم ينشرون معلومات كاذبة في مناسبات متكررة، بما في ذلك الادعاء القائل إن اللاجئين الأوكرانيين لم يأتوا إلى ألمانيا إلا للاستفادة من منافع الرعاية الصحية.

تدور هذه المعركة المنهجية أيضاً بين البلدان الاستبدادية والديمقراطية. يحذر «المكتب الاتحادي لحماية الدستور» من «توسّع دور المعركة الرامية إلى كسب قلوب وعقول الناس والتأثير عليها عبر المعلومات الكاذبة والحملات الدعائية». وفق مصادره، يحاول عدد من البلدان إضعاف الثقة باستقرار حُكم القانون واستقامته.

إتّضح مستوى الغضب الذي يمكن أن يصل إليه مئات آلاف الناس في أسرع وقت خلال أقوى مرحلة من أزمة اللاجئين. على سبيل المثال، ادّعت مراهِقة من برلين اسمها ليزا، وهي من عائلة ألمانية لها جذور روسية، أن «الجنوبيين» خطفوها واغتصبوها. قد يشير مصطلح «الجنوبيين» إلى أشخاص من جنوب أوروبا أو من أصل عربي أو مهاجرين آخرين. استغلت وسائل الإعلام الروسية الحكومية هذه القصة وذكرت أن العرب احتجزوا تلك الفتاة و»استعبدوها جنسياً». مرّت بضعة أيام قبل أن تعلن الشرطة أن هذه القصة مفبركة.




لقطات من فيديو مصوّر تُظهر فريق «خورخــــــي» وبعض الأخبار الكاذبة التي تمّ نشرها

صورة من حاسوب «خورخي» تُظهر بشكل واضح تدخّله في سياسة كينيا




يحذر «المكتب الاتحادي لحماية الدستور» من تعرّض الديمقراطيات بالذات لهذا النوع من التهديدات، لكن لم يتخذ السياسيون مقاربة ناشطة لمعالجة هذه المشكلة. مع ذلك، شكّلت الحكومة الألمانية منذ العام 2018 فريق عمل يُعنى باستكشاف الجهود السرية التي تبذلها روسيا وبلدان أخرى لتوسيع نفوذها. تحمل هذه المجموعة اسم AG Hybrid، وهي تشمل ممثلين عن وزارة الداخلية، ووزارة الخارجية، ودار المستشارية، إلى جانب «المكتب الاتحادي لحماية الدستور» ووكالة الاستخبارات الخارجية الألمانية. كذلك، نشأت وحدة إضافية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وهي تجتمع أسبوعياً وتُكلَّف بالتصدي للأكاذيب الروسية بشأن الحرب.

لكنّ صائدي المعلومات الكاذبة في الحكومة يعملون وراء الكواليس. لم تضطلع برلين حتى الآن بدور كبير لفضح الأخبار الكاذبة علناً. لا أحد يريد التحوّل إلى «وزارة للحقيقة» وفق مصادر سياسية مطّلعة في برلين.




تل حنان

يفغيني بريغوجين



ينتقد فيليكس كارتي من مبادرة Reset التي تدعم الديمقراطية الرقمية هذا الوضع قائلاً: «تعالج الحكومة الألمانية المشكلة في مجموعات النقاش بدل تطوير استراتيجية شاملة وطويلة الأمد».

اتخذت دول أخرى في الاتحاد الأوروبي مقاربة استباقية، لا سيما دول البلطيق مثل لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، فأعاقت الجهات التي تبث الحملة الدعائية الروسية منذ أربع سنوات. في العام 2015، شكّل الاتحاد الأوروبي فرقة عمل لفضح أكاذيب روسيا بشكلٍ يومي، حتى أن السويد أنشأت هيئتها الحكومية الخاصة المعروفة باسم «وكالة الدفاع النفسي» لتحقيق هذه الغاية. وفي فنلندا، أصبح التعامل مع حملات التضليل جزءاً من المناهج الدراسية.

وفق مصادر مطّلعة في برلين، تسعى الحكومة الألمانية الراهنة، برئاسة المستشار أولاف شولتس، إلى تطوير استراتيجية شاملة ضد حملات التضليل. لكن لا تزال تفاصيل هذه الخطوة غير واضحة، وستمرّ أشهر عدة قبل أن توضع اللمسات الأخيرة على خطط الحكومة.

من المستبعد أن تسمح هذه المقاربة بكبح مرتزقة مخادعين على غرار أعضاء «فريق خورخي». حتى أن التقنيات الجديدة، مثل الذكاء الاصطناعي، تُسهّل تكثيف الاعتداءات المستهدفة. لا تزال هذه المرحلة في بدايتها برأي الباحثة سامانثا برادشو. بعبارة أخرى، بدأت حقبة حروب التضليل للتو!


MISS 3