أوين دريا

ماكرون يثير الإنقسامات في أوروبا

9 آذار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

في العام 2017، طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المُنتخَب حديثاً رؤيته الكبرى عن دور فرنسا في بناء مستقبل أوروبا. تأسّف ماكرون أثناء كلامه في جامعة السوربون لأن الأوروبيين "يُركّزون كامل طاقتنا على انقساماتنا الداخلية"، وحذّر من "انهيار الحوار في أي حرب أهلية أوروبية"، في إشارة إلى الخلافات اللامتناهية داخل الاتحاد الأوروبي بسبب الموارد المالية والقيود المفروضة على الميزانية. لبناء "أوروبا قوية" وقادرة على أداء دور قيادي على الساحة العالمية، اقترح ماكرون حلاً يقضي بإنشاء اتحاد أوروبي مركزي وقائم على نموذج سياسي واقتصادي واجتماعي مشترك، ما يعني أن يكون على صورة فرنسا ويبقى مستقلاً عن الولايات المتحدة من الناحية الاستراتيجية.

كل من تابع المناظرات الفرنسية ولو لفترة قصيرة سيستنتج أن هذا الطرح يعكس مفهوم الدولة الفرنسية النموذجية، لكن أُضيفت إليه تحديثات بسيطة كي يتماشى مع العصر الرقمي القائم على التوعية البيئية.

من حسن حظ الاتحاد الأوروبي، منعت أحداث السنة الأخيرة اقتناع معظم الدول الأعضاء الأخرى بآراء ماكرون التي تُركّز في المقام الأول على فرنسا. لقد تراجعت الثقة بفرنسا بدرجة هائلة في جميع مؤسسات الاتحاد الأوروبي نظراً إلى سوء أحكام ماكرون على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووجهات نظره الفارغة من مفهوم السلام، وتنازله عن أي دور فرنسي بارز لمقاومة الغزو الروسي لأوكرانيا.

لكن في أوساط النخبة الفرنسية المعروفة بتجانسها، لم تكن أزمة ماكرون المرتبطة بأحداث أوكرانيا كافية لإعادة تقييم السياسة الأوروبية، بل حصل العكس على ما يبدو. لا يبدي ماكرون استعداده لتعديل موقف فرنسا في الاتحاد الأوروبي الذي غيّرته الحرب الروسية، أو ربما يعجز عن تغيير موقفه لأنه محاط بفريق يضغط عليه لتحديد دور فرنسا في أوروبا.

يتعلق أحـــدث دليل على سوء أحكام ماكرون بتجدّد محاولات فرنسا لفرض نموذجها الاقتصادي على الأعضاء الآخرين في الاتحاد الأوروبي. يرتبط السبب الظاهري بقانون خفض التضخم الأميركي، وهو عبارة عن حزمة من الإعانات الصناعية وتدابير الحماية التي أثارت قلقاً واسعاً في أوروبا بسبب المنافسة غير العادلة ومستقبل التجارة العابرة للأطلسي. بالنسبة إلى ماكرون وداعمي السياسة الحمائية الفرنسيين في المفوضية الأوروبية، إنها فرصة مناسبة لفرض توجهاتهم المعادية للمنافسة والتحالفات العابرة للأطلسي على بقية أعضاء الاتحاد.كذلك، كان إطلاق "مخطط الصفقة الخضراء الصناعية" من جانب الاتحاد الأوروبي في الفترة الأخيرة يهدف ظاهرياً إلى إثبات ما تستطيع أوروبا فعله لدعم الصناعة بطريقة تضمن تحقيق الأهداف المناخية المستقبلية. لكن سرعان ما تحوّلت هذه المبادرة إلى منصة لتوسيع نطاق الصراع السياسي والاقتصادي في أوروبا، بين سياسة التدخّل الفرنسية، وتركيز بروكسل التقليدي على التجارة العالمية، والسوق الداخلي للاتحاد الأوروبي، وسياسة التنافس، باعتبارها جزءاً من محرّكات التوسّع الاقتصادي. وبما أن هذه الأولويات تُركّز في المقام الأول على الفرص المتكافئة، قد تضمن في الوقت نفسه المساواة بين الدول الأعضاء الكبيرة والصغيرة في الاتحاد الأوروبي، وهو أمر يزعج باريس حتماً.

يتجه مفوض شؤون السوق الداخلية الأوروبية، تييري بريتون، وهو حليف مقرّب من ماكرون، إلى الاستفادة من المخاوف الأوروبية المرتبطة بقانون خفض التضخم الأميركي لفرض رؤية باريس المبنية على استراتيجية صناعية تقوم على تدخّل الدولة والإعانات الحكومية. من خلال ربط هذه المقاربة بمخاوف أوروبا من تفوّق الخصوم الأميركيين وإعاقة العملية الانتقالية نحو الطاقة الخضراء، تسعى فرنسا إلى استغلال هذه المخاوف للقضاء على أي مقاومة محتملة في الدول الأعضاء الأخرى.

يرتكز الاقتراح الفرنسي على الفكرة القائلة إن "السيادة غير موجودة من دون أبطال محليين". لكن يُفترض أن ينظر كل من هو مقتنع بهذه المقولة إلى إخفاقات باريس القديمة والمكلفة حين حاولت خوض هذه اللعبة. يُجمِع خبراء السياسة التنافسية، والمنظمات البحثية، والأكاديميون، والقادة الصناعيون الأوروبيون على اعتبار الدعم الحكومي لزيادة القدرة التنافسية على الطريقة الفرنسية مجرّد وهم يخلو من أي منافسة حقيقية وتغيير بنيوي مؤثر. إنه رد شائب وغير منطقي على قانون خفض التضخم الأميركي، وهو لا يعالج المشاكل الكبرى التي تواجهها الصناعة الأوروبية في عدد كبير من قطاعات التكنولوجيا المتطورة.

لن يكون الاقتراح الفرنسي محكوماً بالفشل في اقتصاد الابتكار المعاصر خلال القرن الواحد والعشرين فحسب، بل إنه دفع الدول الأعضاء الأخرى إلى التشكيك بدوافع ماكرون أيضاً. في المقام الأول، تعكس مقاربة باريس انعدام الأمان الاقتصادي في فرنسا. مع اقتراب الدين العام الفرنسي من 120% من الناتج المحلي الإجمالي (حوالى ضعف الدين الألماني) وبلوغ الضرائب 47.3% من الناتج الاقتصادي (ثاني أكبر الأعباء في الاتحاد الأوروبي)، بدأت فرنسا تفتقر إلى الأموال اللازمة لمتابعة تمويل نموذجها الاقتصادي القائم على المركزية. يشير هوس باريس بالإعانات الصناعية إلى قطاع صناعي متعثر بات يشكّل اليوم 11% فقط من الإنتاج الصناعي في الاتحاد الأوروبي (مقارنةً بـ27% في ألمانيا و16% في إيطاليا).

وحتى تفوّق فرنسا في القطاع النووي (إنه واحد من قصص النجاح الاقتصادية القليلة في البلد) يتوقف بكل بساطة على إعادة تأميم شركة كهرباء فرنسا بكلفة عالية في الفترة الأخيرة، وهي مُشَغِّلة نووية فرنسية خاسرة ومثقلة بالديون.

كذلك، تنوي باريس الانقلاب على قرار المفوضية الأوروبية بمنع دمج الشركة الصناعية الفرنسية العملاقة "ألتسوم" مع مجموعة "سيمنز" الألمانية في العام 2019 لأسباب مرتبطة بمكافحة الاحتكار. يُفترض أن يدرك الجميع الآن أن هذا التوجه لا يتماشى مع الخطة الكبرى التي تعكسها خطابات ماكرون القوية لضمان وحدة أوروبا، بل إنها محاولة فاضحة للحصول على أموال الاتحاد الأوروبي وتقوية القدرة التنافسية المتصدعة للصناعات الفرنسيـــــة على الساحة العالمية.

نظراً إلى شفافية الخطة الفرنسية ورغبة باريس القوية في فرضها على المستوى الأوروبي، لم يحصل ماكرون على أي حلفاء سياسيين حقيقيين داخل الاتحاد الأوروبي، علماً أن ثقة الآخرين بماكرون تبلغ أدنى مستوياتها أصلاً بسبب مواقفه المتقلبة من أوكرانيا ورفضه الاضطلاع بدور مؤثر لترسيخ الأمن والدفاع في شرق أوروبا.


لهذه الأسباب، كشفت الاقتراحات المرتبطة بالإعانات الحكومية عزلة فرنسا المتزايدة في الاتحاد الأوروبي. عارض سبعة أعضاء صراحةً أي اقتراض إضافي للإعانات الصناعية من الاتحاد. وخلال القمة الخاصة للمجلس الأوروبي في بروكسل، في 9 شباط، قوبل الإصرار الفرنسي الألماني المتجدد لتلقي المساعدات الصناعية بمعارضة واسعة من الدول الأعضاء الأخرى. تشير استنتاجات القمة البسيطة وغير المُلزِمة إلى رفضٍ واضح لنزعات باريس المركزية في معظم أنحاء الاتحاد الأوروبي.



تعكس مقاربة ماكرون أهم جانب من الدور الفرنسي المتخبّط في عالم ما بعد الحرب الباردة. كانت اقتراحات ماكرون الحماسية لبوتين، وهي مبادرات استمرت رغم بدء الحرب في أوكرانيا، ترتكز على اقتناعه شخصياً بأن السياسة الخارجية الفرنسية تمثّل حَكَماً لا غنى عنه في العلاقات الدولية. كان هذا المفهوم المتفاخر يتماشى مع فكرة سامة أخرى عن مستقبل الأمن الأوروبي: إنه هوس ماكرون بأهمية التوافق الفرنسي الروسي للحفاظ على تأثير فرنسا في أوروبا.



حين كانت بريطانيا تضمن أمن فنلندا والسويد رغم عدم انتسابهما إلى حلف الناتو، كانت فرنسا منشغلة بمهاجمة بولندا بسبب "ميولها الأطلسية" وتفضيلها الشركات الأميركية والكورية الجنوبية على شركة كهرباء فرنسا لبناء محطات جديدة للطاقة النووية. إنها استراتيجية مُصمّمة لخسارة الأصدقاء وإبعاد الآخرين، لا سيما في أوروبا الوسطى والشرقية.



بالنسبة إلى السياسيين المتمسّكين بالتقاليد الفرنسية، من أمثال ماكرون، سيكون تواجد فرنسا على الطاولة نفسها مع قوى عظمى تقليدية أخرى (حتى لو عنى ذلك عقد اتفاقيات مع روسيا الاستبدادية والمتراجعة) أهم من الاعتراف بتراجع فرنسا على مر القرن الماضي. كذلك، تعتبر باريس إبقاء فرنسا بمصاف القوى العظمى أهم بكثير من بناء شراكات فاعلة مع أعضاء أصغر حجماً في الاتحاد الأوروبي. هذه العقلية تسبق تأسيس الاتحاد بفترة طويلة، وكانت جزءاً أساسياً من السياسة الفرنسية طوال قرون. شكّل المنطق الذي يحمله ماكرون ركيزة لعلاقة باريس مع موسكو منذ تسعينات القرن التاسع عشر على الأقل.



على عكس بريطانيا التي تكيّفت مع دورها الجديد بعد الحقبة الإمبريالية بطريقة أو بأخرى، لم تتمكن فرنسا يوماً من تقبّل الصعود الأميركي وتحوّل الولايات المتحدة إلى قوة مُهيمِنة اقتصادياً وسياسياً. ولم تكن فرنسا مستعدة أو قادرة على طرح نفسها كقوة مستدامة بدل الدعم السياسي والأمني الذي تقدّمه الولايات المتحدة (وبريطانيا اليوم) إلى الدول الشيوعية السابقة في أوروبا الوسطى والشرقية.



لهذا السبب، بدأ التباعد بين فرنسا (بدعمٍ من عدد صغير من المؤيدين الذين يزدادون ضعفاً) وبقية دول الاتحاد الأوروبي يتعمّق. حتى أن تساقط الصواريخ الروسية على المدن الأوكرانية طوال سنة كاملة لم يكن كافياً على ما يبدو لتغيير رأي ماكرون حول ضرورة أن "تعالج أوروبا حاجة روسيا إلى ضمانات أمنية" بطريقة استباقية. وفي مثال واضح على تمسّك ماكرون بموقفه، دعا الرئيس الفرنسي إلى "عدم إهانة" روسيا رغم حربها الإلغائية بعد أسابيع قليلة على ظهور أدلة تثبت ارتكاب جرائم حرب روسية في مدينة "بوتشا"، في ضواحي كييف.



اليوم، أصبح واضحاً للجميع أن رؤية ماكرون للاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية المزعومة (لم يتم تدعيمها يوماً بأي استراتيجية جدّية أو قدرات عسكرية كبرى) انهارت واحترقت في أوكرانيا. وبدل قيادة أوروبا إلى عصر التكامل المجيد، يبدو أن ماكرون يزيد الانقسامات الأوروبية التي حذّر منها بنفسه في العام 2017. بعبارة أخرى، أكّد الصدام بين فرط الطموحات وقسوة الواقع على تراجع فرنسا، وتوسّع قوة أوروبا الوسطى والشرقية، وزيادة عزلة ماكرون عن محيطه.