جاك هيوستن

مواقع التواصل الإجتماعي في أوكرانيا قاتلة

11 آذار 2023

02 : 00

جندي روسي في مسرح ماريوبول الذي تعرّض للقصف من قِبل القوات الروسية في ماريوبول | أوكرانيا، في 12 نيسان 2022

في 12 تشرين الأول 2022، دخل الجندي الروسي أليكسي ليبيديف إلى حسابه في "فكونتاكتي"، أشهر موقع روسي للتواصل الاجتماعي، وحمّل صورة له وهو يرتدي الزيّ العسكري ويقبع في خيمة بيضاء كبيرة. لقد كان ذكياً بما يكفي كي يخفي وجهه بقناع بالاكلافا. لكن من سوء حظ ليبيديف ورفاقه، لم يُخْفِ هذا الرجل الموقع الذي نشر منه الصورة: بلدة "سفوبودني" في جنوب "دونيتسك".



تعقّبت الشركة الأوكرانية للتحقيقات العسكرية "مولفار" منشور ليبيديف، ثم نُقِل هذا الدليل إلى محلّل في فرع الاستخبارات المفتوحة المصدر، وأمضى المحققون الساعات القليلة اللاحقة وهم يحدّدون مواصفات الموقع الذي تواجد فيه ليبيديف ووحدته العسكرية. كان موقع تلك الوحدة عبارة عن قاعدة تدريبية للقوات الانفصالية الروسية والموالية لروسيا. بعد اكتشاف صورتَين إضافيتَين نشرهما عسكريون موالون للروس من الموقع نفسه، نقلت شركة "مولفار" نتائجها إلى الاستخبارات الأوكرانية.

بعد مرور يومين، ذكرت شركة "مولفار" أن الموقع الذي التقط فيه ليبيديف صورته شَهِد انفجارات و"ألعاباً نارية"، على بُعد 40 ميلاً تقريباً وراء الخطوط الروسية. لم يُعرَف حجم الخسائر البشرية خلال تلك الانفجارات. حذف ليبيديف صورته الأصلية في المرحلة اللاحقة، وذكر أنه نجا من التفجير. استناداً إلى منشورات "فكونتاكتي"، ذكرت شركة "مولفار" أن ليبيديف يتابع محاربة القوات الأوكرانية على ما يبدو، مع أنه أصبح حكيماً بما يكفي الآن كي يمتنع عن ذكر موقعه الجغرافي.

يعود أول الإخفاقات الرقمية الروسية الكبرى في زمن الحرب إلى العام 2014. في تلك الفترة، كان الكرملين ينكر وجود قواته العسكرية في شبه جزيرة القرم، لكن كانت تلك القوات نفسها تنشر صوراً لها على مواقع التواصل الاجتماعي وتُحدّد مكان وجودها، فتنكشف بذلك كذبة موسكو. بسبب هذا النوع من الإخفاقات، بات القانون يمنع العسكريين الروس من استعمال الهواتف الذكية خلال الخدمة العسكرية منذ العام 2019. يقضي عمل الاستخبارات المفتوحة المصدر بجمع معلومات استخبارية من أي مواد علنية: إنها تقنيات استقصائية مفتوحة المصدر، وهي تُستعمَل لإثبات المخالفات العسكرية أو الإجرامية.

تغيّر الوضع في أوكرانيا اليوم بعد خضوع هذه التقنيات لهندسة عكسية، فهي لم تعد تُستعمَل لفضح الأعمال الوحشية والمخالفات بل لقتل قوات العدو استباقياً وتدمير معداته في ساحة المعركة.

أدى تعقّب الاستخبارات المفتوحة المصدر مقاتلي العدو ثم استهدافهم إلى إحداث تغيير جذري في طريقة تعامل الجيوش مع أمن العمليات. في أوكرانيا وأماكن أخرى، اضطربت طريقة تغطية الحرب عبر التلفزيون والمصورين الصحفيين بسبب هذه التقنية.

كانت قضية ليبيديف واحدة من أمثلة عدة تتحدث عنها "مولفار"، حيث استُعمِلت شبكة الإنترنت لتحديد مواقع الجنود الروس. تقول الشركة إنها تمرّر نتائجها في المرحلة اللاحقة إلى الاستخبارات الأوكرانية التي تستعملها للتخطيط للاعتداءات وتنفيذها.

بعد مرور ثمانية عقود على الحقبة التي سمحت للحكومة الأميركية بتأسيس خدمة مراقبة البث الأجنبي لتعقب وسائل الإعلام الخارجية، تغيّرت الظروف بطريقة جذرية. على عكس العام 1941 الذي كان يخلو من تقنية الأقمار الاصطناعية، قد يتحوّل نقل الأخبار الخارجية الآن إلى استخبارات فاعلة وسريعة التداول.

على غرار روسيا، تعلّمت أوكرانيا هذا الدرس بأصعب الطرق نتيجة إخفاقاتها على مستوى أمن العمليات. هذا ما حصل مثلاً حين رصد الباحثون الروس، عبر الاستخبارات المفتوحة المصدر، موقع منشأة لإصلاح الدبابات في كييف بفضل تقرير نشرته القناة التلفزيونية الأوكرانية 1+1، في 7 نيسان. ذكرت وسائل الإعلام المحلية أن صاروخاً روسياً استهدف تلك المنشأة بعد فترة قصيرة، في 15 نيسان، ما أدى إلى "نشر الدمار وسقوط القتلى" وفق التقارير المتداولة.

وفي مثال آخر على كيفية تهديد سلامة القوات الروسية، استهدفت شركة "مولفار" قاعدة لواء "بياتناشكا" الدولي في "دونيتسك" بسبب مجموعة انتهاكات في أمن العمليات، بما في ذلك مقابلة بين الموقع الإخباري الموالي لروسيا "دونيتسك تايم" والمذيعة الروسية المشهورة يوليا بارانوفسكايا عبر "تلغرام". نشر اللواء أيضاً عدداً من الفيديوات من قاعدته العسكرية على قناته في "تلغرام" (احتفالاً بذكرى تأسيسه). تشكّل هذه المواد التي تتقاسمها "مولفار" فرصة كبيرة لتحديد موقع القاعدة. تأكدت الضربة التي استهدفت لواء "بياتناشكا" عبر صور طائرة مسيّرة نشرتها وسائل الإعلام المحلية في 22 آب حيث تنفجر صوامع الذخائر في القاعدة العسكرية.

يبدو أن التقارير التي تقاسمتها "مولفار" مع "فورين بوليسي" تثبت أن الضابط الروسي سيرغي مارينكو شارك في الإفصاح عن موقع الكتيبة 185 في جمهورية دونيتسك الشعبية بعد تصوير طائرة مسيّرة فوق موقعه. نُشِرت تلك الفيديوات لاحقاً على قناة أشهر داعم للحملة الدعائية الروسية، فلاديمير سولوفيوف، على "تلغرام"، في شهر تموز. ثم أثبتت تقارير "مولفار" في أيلول أن المتطوّع الروسي ألكسندر هيريس قام بالمثل حين كشف موقع الفوج 123 بعد نشر فيديوات مشابهة على قناته في "تلغرام".

تذكر شركة "مولفار" أن عمليات الاستهداف التي تنفذها مستمرّة. هي تزعم أنها تقدّم حوالى 15 تقريراً استخبارياً فاعلاً إلى الاستخبارات الأوكرانية شهرياً.

تدرك الحكومة الأوكرانية جيداً القدرات الفتّاكة للاستخبارات المفتوحة المصدر، وقد منعت الصحفيين بشكلٍ صارم من تغطية أحداث الخطوط الأمامية ومواقع حساسة أخرى. حتى أن قانوناً أصبح ساري المفعول منذ آذار 2022 يفرض عقوبة قد تصل إلى السجن لمدة 12 سنة في حال تصوير تحركات العسكريين الأوكرانيين، ومواقع القصف، وأسماء الشوارع، ومحطات النقل، والمتاجر، والمصانع، ومنشآت مدنية وعسكرية أخرى.

لقد زادت صعوبة تغطية أحداث الحروب على وسائل الإعلام المرئية بدرجة غير مسبوقة. في خضم عملي كصحفي في قناة تلفزيونية، وجدتُ صعوبة في إقناع القادة العسكريين بالسماح لي بتصوير جبهة القتال. في إحدى الحالات، كنتُ أغادر موقع إطلاق صاروخ "غراد" في "دونيتسك" حين أمرني جندي أوكراني بوقف التصوير أثناء مغادرتنا المكان لأن مَعْلَماً صناعياً بارزاً كان واضحاً في زاوية التصوير وكان يمكن استعماله لتحديد موقع الهجوم.

في هذا السياق، يقول مراسل الحرب المخضرم في قناة "بي بي سي"، جيريمي بوين، إن الصحفيين كانوا يحاولون عدم الإفصاح عن موقع القوات العسكرية منذ عصر ما قبل الحقبة الرقمية.

اليوم، تسمح التكنولوجيا الرقمية، والاتصال الدائم بالشبكة في الوقت الحقيقي، والذكاء الاصطناعي، بتحديد المواقع الجغرافية عبر أصغر التفاصيل، بدءاً من خط الأشجار وصولاً إلى سلسلة الجبال وأبسط الخصائص المعمارية، لا سيما إذا كان الموقع التقريبي للهدف معروفاً أصلاً. يضيف بوين: "لم تصبح هذه التقنيات فاعلة أو شائعة إلا منذ عشر سنوات تقريباً. كانت الحياة حينها أكثر بساطة بكثير بالنسبة إلى الفِرَق الإخبارية التلفزيونية، ولم تكن التعقيدات الزائدة التي نواجهها اليوم واضحة بالدرجة نفسها". لكن نظراً إلى أهمية عامل السرّية وحجم المنافع التي تحصدها "مولفار" من انتهاكات أمن العمليات الرقمية الروسية، ما الذي يدفع الشركة إلى التباهي بالنهج الذي تعتمده؟ أشاد محلل استخباري محايد، بعد مراجعة تحليلات الاستخبارات المفتوحة المصدر التي حصلت عليها صحيفة "فورين بوليسي"، بجودة عمل "مولفار"، لكنه شكّك بدوافع الشركة في الوقت نفسه.

في المقابل، استاء الرئيس التنفيذي في "مولفار"، أرتيم ستاروسيك، من الذين يتّهمونه بتحقيق مصالحه الخاصة، فقال: "أنا لا أفكر بالأعمال في هذه المرحلة". تخسر "مولفار" الأموال المشتقة من استهداف الجنود الروس بسبب الجدل المحيط بستاروسيك ويتم دعمها بمصادر الدخل التجاري للشركة. يضيف ستاروسيك: "جني الأرباح في الوقت الراهن ليس منطقياً لأن أوكرانيا لن تعود موجودة لمتابعة الأعمال فيها إذا خسرنا الحرب".

في مطلق الأحوال، قد تُعتبَر المعلومات التي كشفتها "مولفار" لصحيفة "فورين بوليسي" إخفاقاً كبيراً على مستوى أمن المعلومات. إنه رأي إليا فيتيوك، رئيس الأمن السيبراني في جهاز الأمن الأوكراني. حين سألته "فورين بوليسي" عن علاقة جهاز الأمن الأوكراني بشركة "مولفار" وطريقة استعمال معلوماتها الاستخبارية لضرب الأهداف الروسية، رفض الاعتراف بأي علاقة محتملة بين جهاز الأمن الأوكراني وأي طرف ثالث. أضاف فيتيوك أن "مولفار" جعلت نفسها أكثر عرضة لعمليات القتلة الروس: "يملك الروس عملاء تابعين لهم هنا أيضاً، ما يعني أن الوضع بالغ الخطورة. في الأوساط العلنية، نحن نعترف بكل بساطة بوجود جيش في قطاع تكنولوجيا المعلومات في أوكرانيا، وهو يشمل عدداً كبيراً من الأشخاص، إذ يعمل 300 ألف فرد ضد روسيا ويقدّمون المساعدة دفاعياً وهجومياً. نحن نقوم بمهام كثيرة. ليس الوقت مناسباً للكشف عن هذه الروابط كلها. حتى "مولفار" قد لا تفهم أنها تحتاج إلى التزام الصمت في مناسبات إضافية".

أخيراً، يقول ستاروسيك إنه لا يشعر بقلق كبير على سلامته الشخصية وإن معظم المتسللين الروس تم اعتقالهم في الأشهر الأولى من الحرب. من وجهة نظره، كان الروس يفهمون أصلاً طريقة استعمال الاستخبارات المفتوحة المصدر، واشتقت انتهاكاتهم المتكررة لأمن العمليات من عوامل راسخة مثل غياب الانضباط وقلة الكفاءة في تنفيذ العمليات. هو برّر نزعته إلى الإفصاح عن هذه المعلومات عبر وضعها في خانة انتصار الحملة الدعائية، وقال إنه يأمل في أن ترفع هذه المعطيات معنويات الأوكرانيين، وتثبت ضعف روسيا، وتشكّل تحذيراً للجنود الأوكرانيين لمنعهم من نشر أي مواد من الخطوط الأمامية على مواقع التواصل الاجتماعي: «أظن أن أول هدف يتعلّق بإقناع الروس بأننا لسنا خائفين منهم».