عيسى مخلوف

الذهاب إلى العُلا

11 آذار 2023

02 : 00

كانت الشمس واطئة عند الغروب حين نظرتُ من نافذة الطائرة وشعرتُ بأنّنا وصلنا إلى أحد الأمكنة النادرة في تكوُّنها الجيولوجي. مَسحات حمراء وبرتقاليّة تلفح الرمال الصفراء التي عشّشت فيها أشعّة النهار الآفل. تلال وجبال تقترب من بعضها حيناً، وتبتعد حيناً آخر، كما في حركات راقصة على مسرح شاسع يغطّي مئات الكيلومترات. كانت تلك الكُتَل والأحجام الحجريّة تزداد وضوحاً كلّما اقتربنا من أرض المطار.

لم تظهر خصوصيّة المكان إلاّ في صباح اليوم التالي حين أشرقت الشمس من جديد على تلك الأرض التي تُعَدّ من إحدى الأراضي المدهشة في العالم، على غرار مدينة البتراء التاريخيّة، ومحميّة الهقار في أقصى الجنوب الجزائري، وصخور الغرب الأميركي. ترتفع صخورها وتتوزّع في مساحات شاسعة كأنّما، وفقَ سينوغرافيا متناغمة، تُبرِز العناصر في أبهى تجلّياتها.

نحن، هنا، أمام أنصاب دهريّة عظيمة التكوين أنجزتها الطبيعة خلال ملايين السنين بأزاميل من شمس ورياح ومطر لتتّخذ أشكالها الراهنة، وهي أشكال لا تفتأ تتحوّل باستمرار وتقدّم احتمالات لانهائيّة للبصَر. أشكال وإيقاعات لا حصرَ لها، ترتبط بصورة وثيقة بالمادّة العضويّة وتتّخذ منها بُعدها الهندسيّ. كُتَلٌ متفاوتة الأحجام ومتعدّدة الهَيئات، ومسلّات ترتفع عن سطح الأرض وتنتهي بأحجام مستديرة تُذَكِّر الناظر إليها بتماثيل "جزيرة الفصح" الواقعة جنوب شرق المحيط الهادئ، أو بمنحوتات فرعونيّة هامدة من الخارج، لكن ثمّة ما ينبض في داخلها.

في أيّ حال، تصعب المقارنة بين إبداع الإنسان وإبداع الطبيعة. بل إنّ تأمُّل الطبيعة جزء من حياة الفنّان، يُلهمه ويثري معرفته. الصخور التي في العراء تكشف له طريقتها في النحت والصقل، كحصى البحار والأنهار، وكالأشجار في النحت على الخشب.

لا يمكن وصف المنحوتات الطبيعيّة في العُلا وصفاً يخضع لمعايير الجمال التقليديّة، كما عرفناها لدى الإغريق أو في عصر النهضة الأوروبيّة. فهي تنطوي على طاقة دفينة، وجمالها ليس في ما تعبّر عنه، بل في كثافة حضوره وقوّته الروحيّة، تلك القوّة التي لا تسعى إلى تملُّق الحواسّ طالما أنّها تتمتّع بحيويّة كبيرة أعمق من الحواسّ. لذلك فهي لا تزيّن الفضاء الذي توجد فيه، بل هي تعبير عن معنى هذا الفضاء نفسه.

أتساءل، أمام هذا المتحف الطبيعي المفتوح، عمّا كان سيكون عليه ردّ فعل فنانين طبعوا بأعمالهم الفنَّ الحديث منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم، من رودان إلى بيكاسو وكونستانتان برنكوزي وهنري مُور. وكيف كانت ستؤثّر رؤيتهم لهذا المدى الطبيعي على أعمالهم كما أثّرت الفنون الفرعونية والفنون ما قبل الكولومبيّة والنحت الأفريقي.

العُلا فسحة للتأمّل في الذات والعالم، وهي من المناطق النادرة التي يلتقي فيها الإنسان مع نفسه. وما يكسبها فرادتها أيضاً أشجار النخيل الباسقة (من هنا جاء اسم العُلا) وواحاته التي تنساب في الوادي كأنهار من الخُضرة.

وادي القرى- وهو الاسم القديم للعُلا- موطنُ الحبّ العذريّ أيضاً. هنا وُلد في القرن السابع الميلادي الشاعر جميل بن معمر الملقّب بجميل بثينة لحبّه الشديد لبثينة بنت حيّان التي حُرمَ منها. لقد عاش في كنف قبيلة عُذرة المعروفة بالجمال والعشق، ويختصرها قول امرأة لفتى من أبنائها: "ما بال قلوبكم كأنّها قلوب طَير تذوب كما يذوب الملح في الماء؟ أما تتجلّدون؟"، فأجاب الفتى: "إنّنا ننظر إلى محاجر أعين لا تنظرون إليها".

حين ابتعد جميل بثينة عن هذا الفضاء الشاسع الذي يمتزج فيه الواقع بالخيال، ظلّ يبحث عن هواه المتجسّد في امرأة كتب لها شوقه وحنينه: "ألا ليت شعري هل أَبيتَنَّ ليلةً/ بوادي القرى إنّي إذاً لَسعيدُ". أّما عن حُسن تلك المنطقة فهو يتغنّى به بقوله: "ولقد أجرُّ الذّيلَ في وادي القرى،/ نَشوانَ، بين مَزارعٍ ونخيل".

إضافة إلى إبداع الطبيعة، هناك إبداعات قديمة تتجلّى في مدائن صالح المسجّلة ضمن مواقع التراث العالمي، وكانت عاصمة لحضارات متعاقبة منذ ما قبل الميلاد، تشهد لها نقوشها الموجودة على الصخور ومدافنها المحفورة في الصخر الشاهق. هناك أيضاً صروح حديثة بدأت تطلّ من ذلك المكان، ومنها "قاعة مرايا" المخصّصة للنشاطات الثقافيّة والمشيّدة بأكملها من المرايا التي تعكس المشهد الصحراوي الذي حولها وحجارته المنحوتة وكثبانه الرمليّة.

ثمّة أماكن تأخذنا إلى بداية التكوين، والعُلا أحد هذه الأماكن.