حسان الزين

الرسام السوري سعد حاجو: لا كاريكاتير عربي مهاجر بل مهجّر

11 آذار 2023

02 : 01

ما زال رسّام الكاريكاتير السوري سعد حاجو يضحك، على رغم المآسي التي حلّت ببلده، ومغادرته لبنان الذي أقام وعمل فيه عشرين عاماً. يصعب، بل يستحيل، تخيّله والحوار معه من دون مرح. فهو يقلب الجدّ مزاحاً، وإذا ما اضطر أو طاب له ذلك، يقلب المزاح جدّاً، كي يعود وينقلب عليه. لكنّ ضحكه هذا ليس دليل عافية. فضحك رسام الكاريكاتير عموماً وسعد حاجو خصوصاً لا يعني أن الدنيا بخير، بل العكس هو الصحيح. ضحكه في اللقاء المباشر معه وفي المساحات البيضاء دليل خراب الدنيا ووجود مادة غنية للسخرية. وعلى رغم ذلك، استطعنا إجراء هذا الحوار معه في وطنه الجديد السويد.



يبدو سعد حاجو أكثر حرية ووضوحاً في السويد منذ اندلاع الثورة السورية، هل هذا صحيح، وهل له علاقة بالهجرة والوطن الجديد أم بالثورة؟

للوَهلة الأولى، يبدو هذا الانطباع سليماً، ولكن بعدما "صفَنْت" مليّاً في السؤال بدا لي أنّ هذا الوضوح هو من آثار ما بعد الصدمة "الإيجابيّة" التي حصلت معي في بيروت حين بدأت أنشر بحريّة في صحيفتيها "النهار" و"السفير". أنا الشاب القادِم من دمشق عاصمة الصمت والصحُف الرسمية الثلاث ذات اللون الواحد والحبر الواحد والرأي الواحد. صدمة القدرة على التعبير بحرية وبدون رقيب يشطب ويمزّق الصفحات أو يمنع الرسومات من النشر.

ثمّ الانتفاضات الشعبية العارمة التي بدأت في تونس ووصلت إلى سوريا، كان لها الأثر الطيّب والمفصلي في استعادة الشغف وفتح آفاق طرق تعبير جديدة وأكثر جرأة. يُضاف إلى هذا، السرعة الجبّارة للإنترنت التي اختبرتُها للمرّة الأولى في حياتي في السويد التي منحتني شعوراً مستقرّاً بالأمان مُقارنةً مع خبرة التعامل مع المولّدات والإنترنت "السلحفائي" في بيروت.

كيف تعيش الهجرة (شخصياً ومعنوياً وثقافياً...)؟

أعيشها كما عاشها أبي في دمشق وهو القادم من شمال سوريا من عائلة كردية معروفة ليكوّن أسرَتَهُ الصغيرة في مدينة دمشق موطن والدتي الكُردية أيضاً وعائلتها التي سكنت العاصمة منذ مئات السنين. كان منسجماً ومرتاحاً ومتآلفاً ويرطن/ يلحن بالعربية كما أرطن بالسويدية الآن. أشعر على الصعيد الشخصي أنّني استبدلت بكأس الشاي "الأكْرك عجَم" فنجان قهوتي "الدُّبل إيسبريسّو" اليومي. عدا ذلك، لا أشعر بالغربة، فحَولي أصدقاء يشكّل وجودهم عزاءً لابتعادي جُغرافيّاً عن أصدقائي المعتّقين في دمشق وبيروت.

كيف تعمل، لناحية تنظيم الوقت ومتابعة الأحداث، ومن الناحية الفنية (عملية صناعة اللوحة)؟

أقرأ كثيراً، أراقب انفعالات الناس، أمرّن ريشتي المعدنية وقلمي الرقمي كثيراً، وعندما تحين لحظة الإنجاز أتلّهى قليلاً أحاول التشاغل قبل أن أجلس وأُنجز، أحياناً كثيرة أثناء مرحلة تنفيذي عملاً فنّياً تقودني الخطوط إلى فكرة غير الفكرة التي خطرت لي. غالباً ما تكون الخطوط أكثر ذكاءً منّي فأرضخُ لها إن لم أستطع ترويض جموحها.

كيف تختار موضوعك وكيف تعمل عليه؟

أُلاحق الراهِن وأحاول فهم السياق، المُفارقة تعنيني، الرغبة في المرَح والسخرية تتحدّاني، الطرافة والجدّة صعبتا المنال، تُشجّعانني.

هناك مواضيع آنية ومواضيع باقية وتتمدّد. كل موضوع تتباين طرق التعبير عنه عن سواه. لكن، أهم طرق العمل هي التراكم والعمل ببطء على صنع كودات/ شيفرات بيني وبين المُتابع المهتم المُنفعل والناقد، صنع لغة بصرية تُشبهني وتمنح المُتابع حيّزاً من الأمان والمتعة.

هل تفكّر في المتلقّي أثناء الرسم؟

أثناء الرسم، بالتأكيد كلّا. قبله وبعده بالتأكيد أجل.

هل ترسم لمتلقٍّ محدد، أو بحسب الموضوع؟

بحسب الموضوع، لكن لا شكّ حين يكون النشر يوميّاً في صحيفة معيّنة أتوجّه إلى قرّائها، ولكن على المدى الطويل لاحظت أن شبكة التواصل الاجتماعي غيّرت هذه القاعدة، فأصبحت الأفكار تجتذِب المُهتمّين والمتابعين وحتّى الفضوليّين والمتلصّصين الصامتين. وهذه نعمة. حتّى أصبح الرسّام يُساهم في المشاركة في صنع ذائقة المتلقّي والتأثير المُباشَر عليه. والتقاط مؤشرات موضوعية (نوعاً ما) تُساعده في فهم أعمق لصورة الرأي العام التي يُساهِم في صنعها.

إقامتك وعملك خارج وطنك، في السويد، هل جعلاك ترسم وتتوجه إلى متلقٍّ عام/ عالمي بلا تحديد جغرافي- سياسي- ثقافي، أم ماذا؟

ربّما العكس صحيح، تبلورت في شخصيتي هوية تظهر شديدة المحليّة أحياناً، ربّما لتحوّل الحدث السوري إلى مُعضلة إنسانية دولية كاشِفة.

في الأساس، كان زملائي في لبنان يُشيرون إلى أن جزءاً من أفكاري كان خارج الإطار المحلّي المأمول. فقد كنت أرسم بالإضافة إلى الكاريكاتير السياسي المحلي وبشكل مبكّر أفكاراً اجتماعية الطابع ورسومات تتوخّى المرَح. لكن ارتفاع منسوب التعصّب بشكل غير مسبوق وانحسار اللّطف والتعاطف رفَعا من مستوى المواجهة وبري قلم السخرية الحاد أصلًا. الضحك في الأساس لغة عالمية لها لكنات متنوّعة. ربّما لكنتي الشرق أوسطية تبقى طاغيةً على اللكنات الأخرى.

على رغم انشدادك إلى الحدث السوري، أراك وسّعت مروحة تناولك الأحداث، وكأن العالم بات مسرحك؟ (لا تتناول روسيا، مثلاً، بعلاقتها بالملف السوري، إنما بالداخل الروسي، وفلاديمير بوتين المحلي وليس الخارجي فحسب).

أعتقد أن الحقّ على بوتين. أو على حمدي كما تعرِف من هاشتاغي "#ياحمدي_أنت_السبب"، ولكن أعتقد أن تناولي شخصية بوتين مثلاً نابِع من دوره في احتلال وطني الأم وإشعاله حرباً في أوكرانيا على حدود السويد حيثُ أُقيم.

سعد حاجو رسام كثيف، منتج بغزارة، لماذا؟ هل هذا بسبب قلق فني أو لأسباب سياسية أو هناك أسباب أخرى؟

أنا أرسم كل يوم، على رغم أنّني قرّرت أخيراً ألا أنشر يوميّاً. أعتقد أن فن الكاريكاتير مسؤولية وليس تعبيراً عن هوية فردية فحسب. بدأت منذ أعوام دراسة التحريك ثنائي وثلاثي الأبعاد. أعشق مواكبة التطوّر التقني وأنظر إلى المُستقبل أكثر من التفاتي إلى الماضي. "الخيال أكثر أهمية من المعرفة"، بحسب ألبرت أينشتاين. أوافق المرحوم أينشتاين الرأي كما أؤمن بأنّ التعلّم يُغذي الخيال. أنظّم معارِض فردية أعرض فيها رسومات وأعمالَ تجهيز وكاريكاتيراً ثلاثي الأبعاد متحرّكاً لأنني أعشق اللقاء مع الناس وسماع آرائهم ومراقبة ردود أفعالهم مباشرة.



حاجو: طالما النقد موجّه إلى أصحاب السلطة فهو مشروع



كيف تقيّم صحة الكاريكاتير العربي، المقيم والمهاجر؟

لا كاريكاتير عربي مُهاجِر بل مُهجّر في الغالِب الأعمّ. أجد فنّاني الكاريكاتير المقيمين أشد بأساً وشديدي الصبر على بلاوي الحكومات والمؤسسات والميليشيات وغيرها. المُهجَّر أكثر إفصاحاً وأقل قلقاً من الرقابة بحُكم الجغرافيا.

ما هي قراءتك لتجارب الكاريكاتير العربي؟

قبل الحديث عن الراهن أودّ العودة قليلاً إلى الماضي لأشير إلى تجربة ناجي العلي الذي حفر عميقاً في وجداننا، تهكّم كثيراً على الزعماء والفاسدين والمُحتلّين وأظهرهم بلا روتوش في أعماله الملحمية الكاريكاتيرية، واضطر أيضاً إلى صنع أفكار "متجهّمة" بسبب مأسوية المشهد. هو شجّع بنهجه من جاء بعده على صنع هوياتهم الفنية واحترامهم لأنفسهم ولفن الكاريكاتير. على رغم وقوع البعض منهم لاحقاً في فخّ محاولة تقليد تجربته الأصيلة ففشلوا.

أعود إلى الحاضر، كما تلاحِظ هناك تطوّر كبير مواكب للطفرة الرقمية وظهور جيل شاب أشدّ جرأة غير مهادن في أساليبه الفنية ولها طعم جديد. ولكنني أجد أننا ما زلنا خجولين في دعم المجموعات السكانية الإثنية أوالدينية المغلوب على أمرها في محيطنا القريب، بينما تجدنا ندافع بشراسة عن حقوق الإنسان في أماكن جغرافية أبعد.

هل تواكب الكاريكاتير السوري، ما هو توصيفك له منذ الثورة، وهل تتقاطع مع رسامين ومن هم؟

نعم أواكِب، صنعت انتفاضة أهلنا فارِقاً في هوية الكاريكاتير السوري وخلقت حسّاً جماعيّاً في صيغة صنع الفكرة كلافتات كفرنبل وعامودا والزبداني وكرتونة دير الزور. سقوط الزميل أكرم رسلان شهيداً في أقبية معتقلات النظام، وهجرة أحد المشكوك بدورهم في التسبّب بتصفيته وتغلغله في مؤسسات أوروبية معنيّة بالدفاع عن حرية التعبير. وتكسير أصابع الزميل علي فرزات بأوامر من الحاكِم بعد أن انتقده من دمشق ونجاته بأعجوبة. ظهور شابات وشباب ضخّوا روحاً وثّابة في جسم الكاريكاتير السوري. يلفت نظري ياسر أحمد وعمران فاعور وسلافة حجازي، على سبيل المثال لا الحصر. لكن هل أصبنا بصبغة اللون الواحد فأصبحنا نُقصي من لا يُعجبنا ونرمي بجزء من فشل أدائنا السياسي على غيرنا؟ هل ما زلنا نحمل متلازمة التصنيف التي تمارسها الأنظمة على طريقة من ليس معنا فهو ضدّنا؟ امتداد الصراع يحتاج إلى ابتكار أساليب جديدة في المواجهة حتّى في تقييم الذات.

يبدو الكاريكاتير، من ناحية ما، "مجرماً"، فهو بحاجة دائمة إلى ضحيّة، كيف تفسّر هذا؟ الديكتاتوريات أو الكاريكاتير المجرم؟

مبدئياً، إن حق الرد يجب أن يكون مضموناً في الصحافة، بهذا تستطيع "الضحية" الدفاع عن نفسها. ينصح الفيلسوف الصقلي جورجياس من القرن الخامس الميلادي: "اقتل جدية خصمك بالدعابة، واقتل دعابته بالجدية"! طالما النقد موجّه نحو أصحاب القرار والسلطة فهو مشروع، بشرط ألا توجّه سهامه نحو الضعيف مسلوب الإرادة. يُخطئ بعض الزملاء حين يقومون بذلك.

تخيّل العالم العربي بلا ديكتاتوريات، من هو/ هي ضحية الكاريكاتير؟

الصراع على السلطة صفة بشرية أصيلة لدى الأفراد والمجموعات، ولذلك هناك حاجة دائمة إلى الكاريكاتير.

هل تتخيل سوريا بلا بشار الأسد (الذي يمنحك طاقة ومفردات فنية)، وبلا حزب البعث ونظامه؟

حين يستقبل/يستدعي بوتين بشّار يظهر العلم الروسي فحسب، فهذا الأخير لم يعد موجوداً عمليّاً. المشكلة في الأساس هي ما يُمثّله منذ لحظة وصوله غير الشرعية إلى كرسي الحكم وقبلها والده بانقلاب عسكري. ليس لدي ميول لاجتثاث الأحزاب، ولكن أؤمن بحقّنا في حياة سياسية طبيعية يستطيع الجميع التعبير عن نفسه بدون تمييز أو شوفينية دينية أو قومية أو أيديولوجية.


القيود والشرطي

سعد حاجو رسّام كاريكاتيري سوري مستقل مقيم منذ أكثر من عشر سنوات في السويد ويحمل جنسيّتها.

أقام في بيروت وأطل على قراء صحفها يومياً لأكثر من عشرين عاماً. وفي الأثناء، نظّم معارض منفردة عدة، وشارك في أخرى، ونشر في صحف عربية وعالمية، منها "كورييه إنترناسيونال" منذ العام 2000.

وحاليّاً، ينشر بانتظام في عدد من الصحف السويدية، مثل "فولكبلاديت" و"كوربيلومبولو".

وقد أصدر خريج الفنون الجميلة في جامعة دمشق كتابين: "بلاد العنف أوطاني" في بيروت 2009، و"حاجو بقى" بالعربية والسويدية والإنكليزية في السويد 2020.

لا يقبل سعد حاجو قيداً على الكاريكاتير إلا "القيْد المعرفي". ويقول: "لا أحبّ أن أخوض في موضوع قبل الإحاطة بكلّ أو بمعظم جوانبه. وأخشى من سلطة المال على حرية التعبير، فهي تقيّده عاجِلاً أم آجِلاً".

وإزاء هذا، هل يراقب نفسه؟ يجيب: "لا أحمل شرطيّاً في داخلي، ولكن حتماً أراجع نفسي باستمرار، وأحاول تقييم عملي بغرض تطويره وعدم وقوعي أسير إنجازات الماضي. الوضع المأسوي في منطقتنا يمنع في أحيان كثيرة ظهور المرَح الذي يتطلّبه الكاريكاتير".

وردّاً على سؤال: هل تنتظر عودتك إلى سوريا، متى وكيف؟ "يتنهّد" ثم "يصمت".


MISS 3