بوتاكوز كاسيمبيكوفا

الطريق إلى الديمقراطية في روسيا يمرّ بالشيشان

13 آذار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

يحملون صوراً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين (يمين) ونظيره الشيشاني رمضان قديروف (يسار) في عاصمة الشيشان غروزني | 2016

منذ ثلاثة عقود تقريباً، حين أطلقت روسيا بعد الحقبة السوفياتية أول حرب دموية ضد الشيشان، فضّلت موسكو نزعتها الإمبريالية المتجددة والانتقامية على فرص الديمقراطية. عندما قرر الرئيس بوريس يلتسين في العام 1993 أن يتحرك ضد معارضيه في البرلمان الروسي، استعمل الجيش لسحقهم. قام يلتسين، بمساعدة الجنرالات العسكريين الذين دعموه في هجومه على البرلمان، بتفكيك الديمقراطية البرلمانية الروسية وأعاد صياغة الدستور لترسيخ شكل من الاستبداد الرئاسي. هو ردّ الجميل إلى الجنرالات عبر تدمير الشيشان. شكّلت خطوة يلتسين غير الديمقراطية مقاربة غير مسبوقة حيث استعملت روسيا العنف محلياً وخارجياً لترسيخ حُكم شخص واحد.



خسرت روسيا أول حرب مع الشيشان، بين العامين 1994 و1996، بسبب ضعف الجيش الروسي ومقاومة الزعيم الشيشاني جوهر دوداييف. أدانت منظمات حقوق الإنسان الروسية والدولية ودول الاتحاد الأوروبي جرائم روسيا ضد الإنسانية، لكن نجح يلتسين في إقناع الولايات المتحدة بأن تلك الحرب هي صراع داخلي ضد "العصابات". وفي موقف يعكس أحد أكبر الإخفاقات الاستراتيجية على الإطلاق، امتنعت الولايات المتحدة عن إدانة يلتسين.

بعد مرور بضع سنوات، استعمل فلاديمير بوتين الحرب في الشيشان أيضاً لتعزيز قوته الشخصية وإعطائها طابعاً شرعياً. في آب 1999، استعمل بوتين الإرهاب الإسلامي كعذرٍ لإطلاق حرب ثانية بين روسيا والشيشان، فاعتبر الحرب رسمياً "عملية لمكافحة الإرهاب"، وتوقّع أن تكون مغامرة قصيرة وأن تزيد شعبيته وتُحوّله من سياسي مجهول يتولى رئاسة الحكومة إلى رئيس روسيا.

على غرار يلتسين، أطلق بوتين المسار الذي قاده إلى فرض هيمنته داخل روسيا بفضل القوة العسكرية. أثبت بوتين انتصاره في الشيشان، وعيّن فيها حاكماً بالوكالة اسمه أحمد قديروف (والد رمضان قديروف) في العام 2000 مقابل إعلان ولائه له، فاستعمل بذلك معادلة سياسية غير مسبوقة لفرض هيمنته الإقليمية.

قام يلتسين وبوتين بتأجيج المشــــــاعر الإمبريالية والشعبوية إذاً، أي القناعة القائلة إن روسيا هي ضحية القوى الخارجية وتحتاج إلى حماية نفسها عن طريق الغزو. منذ اندلاع الحرب الثانية ضد الشيشان، وهي حرب حظيت بشعبية واسعة عموماً، أصبحت المشاعر الإمبريالية ميزة يستطيع بوتين الوثوق بها لضمان استمرار حُكْمه. اليوم، يجمع بوتين بين مختلف المراجع الإمبريالية من عهد القياصرة عبر اعتبار نفسه بمصاف بطرس الأكبر الذي حمل قِيَماً شيوعية من خلال إعادة إحياء شخصية الدكتاتور السوفياتي جوزيف ستالين. إنها معادلة منطقية بالنسبة إلى الروس لأنها تحافظ على جوهر الإيديولوجيا الروسية الوطنية المبنية على التوسّع الدفاعي ضد الأعداء الخارجيين.

كان التركيز على التوسّع وفرض الهيمنة الإقليمية كفيلاً بمنع القيادة الروسية والروس عموماً من تطوير قيم مدنية تدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان. تمسّك يلتسين وبوتين بمعادلة السيطرة على الأراضي للمطالبة بمكانة القوى العظمى، وفشلا في ترسيخ نظام سياسي واقتصادي قادر على جذب الدول المجاورة. كانت حروب يلتسين وبوتين ضد الشيشان وعمليات الغزو اللاحقة أساسية لمنع هذه العملية الانتقالية.

خسرت روسيا دعم البلدان المجاورة التي فضّلت نظام الديمقراطية الغربي كونه يَعِدها بالازدهار والأمن في آن، فلامت الغرب ومفهوم الديمقراطية الغربية، ووضعت ما يحصل في خانة المؤامرة الرامية إلى سحق روسيا. تتكرر هذه المقاربة نفسها اليوم في أوكرانيا.

تُعتبر قصة حركة استقلال الشيشان أساسية اليوم لأنها تُعلّمنا ثلاث مسائل محورية عن الحرب الراهنة. أولاً، تلجأ روسيا إلى العنف منذ فترة طويلة لتحقيق أهدافها الإمبريالية. من الواضح أن سكان الشيشان كانوا يتوقون إلى نيل السيادة بالوسائل السلمية في البداية. أعلنت الشيشان استقلالها في تشرين الثاني 1991، أي قبل فترة طويلة من إقدام القوات الروسية على ذبح الشيشانيين. ثانياً، تبيّن أن الإمبريالية هي التي تُوجّه مسار الاستبداد الروسي. ثالثاً، قد تبدو نزعة الغرب إلى تفضيل الاستقـــرار على إدانة الإبادات الجماعية حلاً قصير الأمد، لكنـــها تؤدي على المدى الطويل إلى زيادة التهديدات المطروحــــــــة على السلام الدولي.

بدأ بوتين مسيرته بارتكاب أعمال وحشية جماعية في الشيشان، ثم استعمل أسلوب الغزو لترسيخ سلطته حين أرسل قوات عسكرية إلى جورجيا، وأوكرانيا، وسوريا. كما أنه نشر عقلية إمبريالية لا تزال تعطي شعبية واسعة لهذا النوع من الحروب وسط الرأي العام الروسي.

لهذا السبب، لن يكون انتقاد بوتين والموالون له كافياً لإصلاح الدولة والمجتمع في روسيا مستقبلاً. بل تبرز الحاجة إلى إدانة اجتماعية واسعة للإمبريالية قبل تحقيق أي تطور ديمقراطي مستقبلي في روسيا. بعبارة أخرى، يجب أن يترافق أي تغيير جذري في حقبة ما بعد بوتين مع الاعتراف بجرائم روسيا في الشيشان لأن الامتناع عن هذا الاعتراف على المستوى الاجتماعي يُسهّل تكرار الأحداث التاريخية. لن تكون إعادة تأهيل الشيشان وحدها على المحك في هذه الحالة، بل وضع روسيا ككل. لا يمكن أن تصبح روسيا ديمقراطية إلا من خلال إعطاء الأولوية لحقوق الإنسان والديمقراطية مقابل التخلي عن الإمبريالية. وبما أن آخر فرصة حصلت عليها روسيا للهرب من إرثها الإمبريالي الوحشي تلاشت بسبب حروبها في الشيشان، سيكون ضمان حقوق الشعب الشيشاني أساسياً لإعادة ترسيخ حقوق الإنسان وجعل معاداة الإمبريالية جزءاً من القيم الروسية.

يُفترض أن تسعى القيادة الروسية في حقبة ما بعد بوتين إلى إعادة تأهيل المجتمع والدولة في الشيشان. تقضي الخطوة الأولى بالاعتراف رسمياً بالإبادات الجماعية المرتكبة في القرن التاسع عشر، والعشرين، والواحد والعشرين، والاعتراف رسمياً بتاريخ الشيشان كدولة مســــتقلة. ويعني تجاوز إرث يلتسين وبوتين تقديم تعويضات شاملة إلى ضحايا الحروب بين روسيا والشيشان. في آخر حربَين، بين العامين 1994 و2009، قُتِل حتى 300 ألف شخص. ستكون أي حكومة روسية ديمقراطية جديدة مسؤولـة إذاً عن محاسبة قديروف وأعوانه.

ثانياً، سيكون التعامل مع بوتين وإرثه مرادفاً لتجاوز إرث قديروف، بما أن عهد عائلته في الحُكم هو نتاج لنظام بوتين. بعد حملات القمع الوحشية في الشيشان، سمح بوتين لنظام قديروف هناك بالتحول إلى أداة استعمارية لقمع مطالبات الشعب الشيشاني بالسيادة. لا يزال قمع الأصوات المنادية بالاستقلال عن طريق الاختفاء القسري والعنف مستمراً حتى اليوم، وقد تدخل هذه الممارسات في خانة الجرائم ضد الإنسانية.

نظراً إلى استمرار الخلافات الراسخة بين السكان المحليين وعائلة قديروف، من المتوقع أن تتراجع فرص رمضان قديروف في الحفاظ على مكانته السياسية في ظل غياب أي دعم مالي وعسكري من بوتين. لكن ستكون أي حكومة روسية ديمقراطية جديدة مسؤولة عن محاسبة قديروف وأعوانه.

كذلك، سيكون أي برنامج سياسي هدفه إنشاء روسيا جديدة مصدر خطر على الدول المجاورة وجمهوريات متنوعة أخرى مثل تتارستان، وباشكورتوستان، وداغستان داخل روسيا، إذا كان ذلك البرنامج لا يضمن سيادة دولية للشيشان.

قد تملك الجمهوريات الوطنية الأخرى الحق بالمطالبة بسيادتها والتفاوض حولها، لكن يُفترض أن يُعتبر استقلال الشيشان مسألة منفصلة ويصبح قيد النقاش انطلاقاً من موضوع حقوق الإنسان بدل الاستناد إلى المعطيات الجيوسياسية. تحمّل الشعب الشيشاني وحشية لا يمكن تصوّرها، وسبق واختار الاستقلال مرتَين في التاريخ الحديث. من خلال استرجاع كرامة ذلك الشعب واستقلاله، ستُجدّد روسيا والمجتمع الدولي التزامهما بحقوق الإنسان والديمقراطية.

ومن خلال الاعتراف رسمياً بالإبادة الجماعية المرتكبة ضد الشيشان وضمان سيادتها، سيتحمّل المجتمع الروسي مسؤولية أعماله الوحشية السابقة ويُجدد احترامه للحقوق المدنية ومفهوم السيادة.

ليست صدفة أن تكون أوكرانيا أول دولة تتخذ خطوات جدّية لإعادة تأهيل الشيشان. في شهر تشرين الأول، اعترف البرلمان الأوكراني باستقلال جمهورية إشكيريا الشيشانية والإبادات الجماعية التي ارتكبتها الحكومة الروسية بحق الشعب الشيشاني. يجب أن يجري المجتمع الدولي تحقيقاً حول تلك الارتكابات ويشكّل لجاناً لاستقصاء الحقائق بشأن روسيا والشيشان تمهيداً لإطلاق مسيرة طويلة نحو تحقيق العدالة. تبيّن أن الحُكم الذاتي الشامل الذي تكلم عنه يلتسين يوماً هو مجرّد وعد وهمي. يجب أن تخضع روسيا للقانون الدولي الآن، وتَمْثُل أمام محكمة العدل الدولية لمحاسبتها على جرائم ضد الإنسانية، وتتقبّل خسارة جزء من أراضيها كما فعلت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.

لن يكون تفكيك عقلية روسيا الإمبريالية هدفاً مستحيلاً أو خطيراً. كان تحوّل ألمانيا من دكتاتورية استعمارية مدمِّرة إلى ديمقراطية حقيقية ممكناً بعد تحمّل الحكومة مسؤولية الأعمال الوحشية المرتكبة في زمن الحرب. طلب قادة ألمانيا السماح، ودفعوا التعويضات لضحايا محرقة اليهود وعمّال السخرة في الحقبة النازية، وبنوا نُصباً تذكارية للإبادة الجماعية في وسط برلين، وجعلوا الأعمال الوحشية النازية جزءاً من المنهج الدراسي، ومنعوا الحملات الدعائية النازية أو إنكار محرقة اليهود.

في نهاية المطاف، يُفترض أن تعترف روسيا والمجتمع الروسي ككل بالأعمال الوحشية المرتكبة في أوكرانيا، والشيشان، وأماكن أخرى، تمهيداً لإطلاق مسار الديمقراطية في البلد. ستصبّ هذه الخطوة في مصلحة ضحايا الاستعمار والروس بحد ذاتهم.


MISS 3