حسين حقاني

جذور أزمة الإرهاب في باكستان

14 آذار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

رجال الشرطة يحرسون الشوارع في بيشاور | باكستان، في 1 شباط ٢٠٢٣

بعد مقتل 101 مُصلٍّ، معظمهم من رجال الشرطة، خلال تفجير انتحاري في أحد مساجد مدينة «بيشاور» الباكستانية، في 30 كانون الثاني، توقّع الخبراء أن يصبح قادة باكستان في أعلى درجات التأهّب. لكن عاد الوضع إلى طبيعته في إسلام أباد بعد مرور بضعة أسابيع.

بدل التعامل مع الإعتداءات الإرهابية المتزايدة وكأنها حالة طوارئ وطنية، بدأ السياسيون يستعدون للانتخابات المقبلة. تنشغل قيادة الجيش بمعالجة مشاكل رئيس الوزراء السابق عمران خان الذي حصد دعماً واسعاً بسبب انتقاده الجنرالات. كذلك، زاد الوضع سوءاً لأن باكستان تواجه أزمة اقتصادية كبرى: تراجعت احتياطياتها الأجنبية إلى أدنى المستويات منذ تسع سنوات، وبلغ مستوى التضخم معدّلاً غير مسبوق منذ 48 سنة، وخسرت العملة الروبية الباكستانية 22% من قيمتها في السنة الماضية. منعاً للتخلّف عن تسديد الديون، تأمل إسلام أباد في تلقّي قرض آخر بقيمة 1.1 مليار دولار من صندوق النقد الدولي.

تتداخل مشاكل باكستان السياسية والاقتصادية مع مقاربتها غير المتماسكة تجاه الإرهابيين. طوال عقود، سمحت باكستان لبعض الجماعات الإرهابية بتنفيذ عملياتها بكل حرية تزامناً مع تعقّب جماعات أخرى. في غضون ذلك، وجدت باكستان صعوبة متزايدة في جذب الإستثمارات بسبب النشاطات العسكرية والعقوبات الخارجية المرتبطة بتمويل الإرهاب. كذلك، تمكّنت الجماعات المسلّحة المحلية من متابعة عملياتها بلا حسيب أو رقيب نتيجة تعاطف الرأي العام ووكالات إنفاذ القانون والأوساط الاستخبارية مع الجهاديين، فضلاً عن جمود المسؤولين في الطبقة السياسية. لهذا السبب، يُفترض أن تُغيّر إسلام أباد مسارها إذا أرادت أن تمنع نشوء حركة تمرّد شاملة وتُحسّن مكانتها على الساحة العالمية.

نفّذت الجماعات الإسلاميـــة والطائفية اعتداءات عدة داخل باكستان، في بداية التسعينات، غداة انتهاء الحرب السوفياتية الأفغانية. وبعد نجاح المجاهدين الأفغان في طرد السوفيات، بدعمٍ من الولايات المتحدة، أطلقت أجهزة الأمن الباكستانية جماعات تُحرّكها الميول الإيديولوجية لمحاولة إجبار الهند على الانسحاب من منطقة كشمير المتنازع عليها منذ وقت طويل.

شارك المجاهدون الباكستانيون في الحرب الأهلية في أفغانستان غداة انهيار النظام الذي كان مدعوماً من السوفيات بين العامين 1992 و1996، ثم حاربوا إلى جانب حركة «طالبان» بدءاً من العام 2001. (كانت باكستان قد دعمت نظام «طالبان» الأفغاني في فترة التسعينات).

ردّدت الجماعات الإسلامية التي تم تجنيدها في باكستان مجموعة من الأحاديث النبويّة التي تنذر بخوض معركة عظيمة في شبه القارة الهندية. وتوقّعت الأجهزة الأمنية الباكستانية أن يسهم التطرّف عن طريق الدين في كسر الجمود في ملف كشمير وتقوية حلفاء باكستان في أفغانستان. لكنّ هذه الاستراتيجية حوّلت باكستان إلى ساحة معركة حيث تتنافس الجماعات لتفسير الأفكار الإسلامية المتطرّفة. في آخر ثلاثين سنة، دعمت باكستان بعض الجماعات الجهادية وتسامحت مع جماعات أخرى، لكنها شاركت في الوقت نفسه في الحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد الإرهاب.

أدّى هذا التقلب في المقاربات المعتمدة إلى إضعاف مكانة باكستان الدولية وسمح لبعض الفصائل الجهادية باستهداف الجيش وقوات الأمن الباكستانية، وكانت هذه العمليات تستدعي رداً معيّناً من وقتٍ لآخر. عندما عادت حركة «طالبان» إلى السلطة في أفغانستان، في العام 2021، اعتبرت إسلام أباد النظام الجديد في كابول حليفاً مقرّباً محتملاً. بعد العام 2001، تابعت باكستان تطوير «طالبان» باعتبارها قوة قادرة على التصدّي للجماعات الأكثر ليبرالية التي تدعمها الولايات المتحدة وكانت تُعتبر أقرب إلى الهند. لكن أثبتت حركة «طالبان» الأفغانية، خلال جولتها الثانية في السلطة، أنها أقلّ ودّاً ممّا توقّعت إسلام أباد، فاشتبكت مع حرس الحدود الباكستاني وانتقدت السياسات الباكستانية تجاه اللاجئين الأفغان علناً.

في الوقت نفسه، تتعامل باكستان مع أعمال العنف التي ترتكبها جماعة «طالبان باكستان» (فرع من حركة «طالبان» الأفغانية يصطفّ إيديولوجياً مع جماعة أفغانستان، لكنه يختار قادته من داخل باكستان). أعلنت «طالبان باكستان» مسؤوليتها عن عدد كبير من الاعتداءات خلال أحدث موجة إرهابية في باكستان، وذكرت مجموعة منشقّة من «طالبان باكستان» أنها نفّذت الهجوم ضد المسجد في شهر كانون الثاني. تسعى هذه الجماعة إلى إسقاط الحكومة الباكستانية وإنشاء إمارة إسلامية. هي تشنّ الحرب ضد الدولة منذ سنوات، وتعتبر هذا الصراع «غزوة الهند» التي تنبّأ بها النبي محمد باعتبارها مؤشراً على نهاية الأزمنة.

دعمت الأجهزة الأمنية الباكستانية ومجموعة من السياسيين المحليين، من بينهم خان، مقاربة مختلفة للتعامل مع «طالبان باكستان» وجماعات مسلّحة أخرى، على اعتبار أن هذه الجماعات تعكس طموحات إسلامية لا تعادي باكستان بالضرورة. لكن أثبتت الأحداث مراراً أن التنازل أمام الجماعات الإسلامية المتطرفة والمسلّحة والعنيفة أمر مستحيل. مثلما يعتبر المتشددون في حركة «طالبان» الأفغانية فشلهم جزءاً من إيمانهم أمام المعتدلين، تُبرّر جماعة «طالبان باكستان» تحركاتها باسم الإسلام والشريعة. كذلك، يتأثر تعنّت المقاتلين بطبيعة المنافسة القائمة بين الفصائل لإثبات الجماعة الأكثر التزاماً بالتفسيرات المتطرّفة للإسلام.

أدّت السياسات المتناقضة على مرّ السنين إلى إضعاف قدرة باكستان على معالجة التحدّيات التي يطرحها التشدّد الإسلامي. اعترف الرئيس السابق برويز مشرف، الذي قاد الجيش الباكستاني بين العامين 1999 و2008، بتقوية المقاتلين الكشميريين وتدريبهم ودعم العملاء المسلّحين في أفغانستان. قال مشرف أيضاً إن إرهابيين مثل أسامة بن لادن اعتُبِروا أبطالاً في باكستان. في غضون ذلك، أقدمت حكومته على قمع بعض الجماعات المسلّحة بطريقة انتقائية، لكنها عادت وتراجعت عن هذا النهج لاحقاً.

أعطى التعامل مع بعض المسلحين وكأنهم أدوات لفرض النفوذ الإقليمي تزامناً مع محاربة البعض الآخر عواقب كارثية: خسر أكثر من 8 آلاف عنصر في قوات الأمن الباكستانية حياتهم خلال حوادث إرهابية منذ العام 2000. وفي العام 2014، هاجمت جماعة «طالبان باكستان» مدرسة الجيش العامة في «بيشاور» وقتلت 141 شخصاً، منهم 132 طفلاً من أبناء الضباط العسكريين والجنود، ثم استهدف هجوم 30 كانون الثاني رجال الشرطة. يبدو أن هذين الهجومَين كانا يهدفان إلى إحباط معنويات الجيش الباكستاني ووكالات إنفاذ القانون ومنع القادة الباكستانيين من محاربة «طالبان باكستان».

في غضون ذلك، أثّر الإرهاب المحلّي سلباً في اقتصاد البلد الذي أصبح الآن غارقاً في أزمة كبرى. تشير تقديرات وزارة المال الباكستانية إلى خسارة البلد 123 مليار دولار على شكل تكاليف مباشرة وغير مباشرة للإرهاب. توقف عدد كبير من الأجانب عن السفر إلى باكستان، وانعكس هذا الوضع مباشرةً على السياحة والصادرات. تأثرت ميزانية الدفاع أيضاً بسبب وجود عدد كبير من القوات العسكرية الباكستانية على طول الحدود مع أفغانستان، وتنفيذ نشاطات عسكرية متقطّعة، واستمرار العمليات الاستخبارية. كذلك، ترافق تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة والعقوبات الخارجية بسبب تمويل الإرهابيين وتبييض الأموال مع خسائر اقتصادية بارزة.

كانت المفاوضات الدورية بين الحكومة الباكستانية والجماعات المسلّحة في السنوات الأخيرة كفيلة بإقناع المتشددين بأن السلطات تفتقر إلى قوة التصميم لخوض قتال متواصل. انهار عدد من اتفاقيات السلام ووقف إطلاق النار بين إسلام أباد وجماعة «طالبان باكستان» في السابق. في شهر تشرين الثاني، ألغت «طالبان باكستان» أحدث اتفاق لوقف إطلاق النار بعد التفاوض عليه في شهر حزيران الماضي، وهدّدت بشنّ اعتداءات جديدة في أنحاء باكستان رداً على تحركات الأجهزة الأمنية.

من الأفضل أن تتخلّى باكستان عن مقاربة «خطوتين إلى الأمام، وخطوة واحدة إلى الخلف» في تعاملها مع الإرهاب المحلي. من خلال اعتبار بعض الجماعات الجهادية حليفة لباكستان في الصراعات الإقليمية (لمنع الهند مثلاً من السيطرة على جامو وكشمير)، زاد التعاطف مع المسلّحين ونجحت جماعات متطرّفة أخرى في التهرّب من الرقابة والتدقيق رغم إقدامها على إطلاق اعتداءات ضد المواطنين الباكستانيين. هذا التعاطف يساعد الجماعات المسلحة أيضاً على تجنيد العناصر، ويؤثّر في عملية جمع المعلومات الاستخبارية، ويُجبِر الحكومة على تقديم تنازلات إضافية خلال محادثات السلام مع تلك الجماعات.

حان الوقت إذاً كي يعترف قادة باكستان بأن الإسلاميين العنيفين والمتطرفين ليسوا مجرّد أفراد مستائين يمكن تهدئتهم عبر التفاوض على تسوية. بل يحمل هؤلاء معتقدات راسخة، ويؤمنون بالقَدَر، ويؤيّدون استعمال العنف لرسم معالم العالم بما يتماشى مع رؤيتهم الخاصة. قبل أن يستفيد المسلحون في باكستان من استمرار الفوضى السياسية والأزمة الاقتصادية لتنظيم حركة تمرّد شاملة، يجب أن ينهي القادة في إسلام أباد سنوات من السياسات المضطربة في ملف الإرهاب. لكن يحتاج البلد إلى إجماع وطني ودعم كامل من جنرالاته لتحقيق هذا الهدف. للأسف، لا شيء ينذر بأن البلد يسير في هذا الاتجاه حتى الآن.


MISS 3