سليل تريباثي

غوتام أداني والرأسمالية الهندية الجديدة

17 آذار 2023

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

متظاهرون ضدّ الرئيس الهندي ناريندرا مودي ورجل الأعمال غوتام أداني خلال احتجاج على سياسات الحكومة | الهند، في 6 شباط ٢٠٢٣

كان رجل الأعمال غوتام أداني في أفضل حالاته، فهو أصبح ثاني أغنى رجل في العالم لفترة قصيرة في العام 2022، واعتبرته مجلة "إنديا توداي" أبرز من يتصدّر عناوين الأخبار في بداية هذه السنة ووصفته بـ"ملك النمو". وفي شهر كانون الثاني، كان من المتوقع أن تتابع "مجموعة أداني" صفقاتها وتكسب حتى 2.4 مليار دولار. باختصار، بدا أداني لا يُقهَر. لا يزال أداني يتصدّر عناوين الأخبار لكن لأسباب مختلفة. نشرت الشركة الاستثمارية "هيندنبورغ" في نيويورك تقريراً يزعم أن "مجموعة أداني" ضخّمت أسعار أسهمها وقيمتها السوقية، فجعلت شركات غامضة مرتبطة بأداني ومسجّلة في ملاذ ضريبي تستثمر في أسهمها. يذكر التقرير أن أداني كان ينفذ "أكبر عملية احتيال في تاريخ الشركات".

أنكر أداني تلك الادعاءات واستعان بشركة محاماة مرموقة في نيويورك لتمثيل مجموعته والتصدي لمزاعم محتملة في الولايات المتحدة. مع ذلك، بدأت الشركة تخسر قيمتها في الأسواق العامة.

تصدّرت ردود أفعال السوق عناوين الأخبار، لكن كانت ردود الأفعال السياسية قوية بالقدر نفسه. اعتبر مدير تنفيذي مرموق في "مجموعة أداني" ذلك التقرير هجوماً على الهند بحد ذاتها. في غضون ذلك، طالب حزب "المؤتمر الوطني الهندي" المعارِض بأجوبة من رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وأدلى رئيس الحزب راهول غاندي بتعليقات عن علاقة مودي المزعومة مع أداني في البرلمان.

تُعتبر العلاقة التي تجمع أداني ومودي قوية وعميقة. تشمل الهند قطاعاً خاصاً مزدهراً، لكن كان صعود أداني مبهراً على نحو خاص وقد تزامن مع وصول مودي إلى السلطة. على عكس المجموعات اليابانية أو الكورية الجنوبية التي تتنافس في ما بينها، يشبه صعود أداني ازدهار أقطاب الأعمال في جنوب شرق آسيا، إذ يستفيد هؤلاء من الاحتكارات التي يصنعونها لأنفسهم بدعمٍ من قادة سياسيين أقوياء، مثل رئيس الفلبين السابق فرديناند ماركوس، أو رئيس أندونيسيا السابق سوهارتو، أو رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد، علماً أنهم حكموا جميعاً بين أواخر السبعينات ومنتصف التسعينات.

إزدهرت "مجموعة أداني" بدرجة لافتة خلال عهد مودي. كان أداني شخصياً من أبرز مناصري مودي منذ العام 2002، حين أضعفت أعمال شغب قاتلة ثقة قطاع الأعمال بولاية "غوجارات" التي حكمها مودي بين العامين 2001 و2014. هذه الولاية معروفة بمشاريعها، لكن بدأ المستثمرون يبتعدون عنها بعد أعمال العنف الطائفية التي شهدتها. هبّ أداني لإنقاذ مودي، فجمع قادة الأعمال في "غوجارات" وشجّعهم على الاستثمار في الولاية والوثوق بقوتها. لا ينسى مودي كل من ينتقده، لكنه يتذكر أيضاً من يقف إلى جانبه.

حين كان مودي رئيس حكومــــــة الولاية، استثمر أداني في مشاريع كبرى هناك، بما في ذلك أكبر ميناء هندي خاص في "موندرا"، في ولاية "غوجارات". وبحلول العام 2019، كان أداني يسيطر على ربع سعة الموانئ في الهند وحصل على حق إدارة ستة مطارات حكومية. ثم اكتسب حصة نسبتها 74% في مطار تشاتراباتي شيفاجي الدولي، ثاني أكبر مطار من حيث الازدحام في الهند. وفي العام 2021، أعلنت "مجموعة أداني" عن مشروع طموح في قطاع الطاقة الخضراء. قد يعتبره مناصرو مودي مبتكر "نموذج غوجارات"، حيث تضطلع الشركات الخاصة بدور أساسي في التنمية الاقتصادية، لكن يحرك القطاع الخاص نمو الولاية منذ قرون.

الذكاء المهني مفهوم راسخ في ثقافة "غوجارات". تشمل هذه الولاية أكبر ساحل في الهند، ولطالما أبحر التجّار من سواحلها لإتمام أعمالهم في أنحاء المحيط الهندي ومناطق أخرى. لا يسعى أقطاب الأعمال النموذجيون هناك إلى إثارة استياء الحكومة، لكنهم لا يريدون أن تتدخل الدولة في شؤونهم. اتّضح دور التاجر الحكيم الذي يوجّه الولاية عبر نشاطات الدائنين والتجار والمصرفيين. حين اجتمع ثمانية رجال أعمال بارزين، منهم خمسة من ولاية "غوجارات"، لوضع "خطة بومباي" الخاصة بالاقتصاد الهندي في العام 1944، تعاملوا معها وكأنها جزء من الممارسات الرامية إلى تحقيق مصالحهم عبر حماية أعمالهم من المنافسة الخارجية والسماح للدولة بتشييد البنية التحتية.

تختلف الرأسمالية الهندية اليوم عن رأسمالية الماضي. خلال العقود التي تلت الاستقلال، حيث عمدت الهند إلى تحرير اقتصادها واحتاجت الشركات إلى إذن حكومي لجمع الرساميل أو توسيع عملياتها، كانت الشركات الهندية تخوض المنافسة تزامناً مع إدارة بيروقراطية بالغة التعقيد. ثم فُرِضت قيود صارمة على الشركات الخاصة، وتعلّق بعضها مثلاً بإمكانية تسريح الموظفين أو تحديد القطاعات التي تحتاج إلى استثمارات. لكن في العام 1991، أطلق رئيس الوزراء الهندي السابق بامولابارثي فينكاتا ناراسيمها راو ووزير المال السابق مانموهان سينغ إصلاحات اقتصادية سمحت للشركات الهندية باستعراض قوتها.

نجح نموذج "غوجارات" القديم في تحقيق الازدهار للشركات من خلال إبعادها عن مخالب الحكومة، لكن يبدو أن النسخة التي يتبناها مودي وأداني راهناً تطمس الخطوط الفاصلة بين الدولة والقطاع الخاص. يذكر مصدر مطّلع أن "مجموعة أداني" دفعت بين 1 و32 روبية مقابل كل متر مربّع لتطوير ميناء "موندرا" ومنطقة اقتصادية خاصة، وهي قيمة أقل مما تدفعه الشركات الأخرى في هذا النوع من الصفقات. بعد أربع سنوات على وصول مودي إلى رئاسة الحكومة في العام 2014، غيّرت الهند القواعد المعمول بها للسماح لشركة تفتقر إلى الخبرة بالمشاركة في مناقصات المطارات، وفاز أداني في ستة منها في نهاية المطاف. وعندما أعلنت الهند عن خططها لتطبيق إصلاحات زراعية يُوجّهها السوق (تم إلغاؤها لاحقاً)، قام أداني باستثمارات في صوامع الحبوب.

قد يبدو هذا النموذج مشابهاً للرأسمالية المبنية على المحسوبيات في شرق آسيا، حيث يقدّم سياسي خدمات لأقطاب الأعمال الذين يدعمونه بهدف تقوية شركاتهم، على غرار مجموعة "سوغو شوشا" في اليابان أو "تشايبول" في كوريا الجنوبية. لكن يبرز فرق أساسي بين هذه الحالات. كانت مجموعة "سوغو شوشا" اليابانية عبارة عن كيانات تجارية متداخلة تتوسّط لبعضها البعض للاستفادة من اقتصادات ضخمة. وكانت مجموعة "تشايبول" الكورية الجنوبية تتألف من بناة أوطان في حقبة ما بعد الحرب، وقد شملت شركات للرساميل الاستثمارية في بلد متعطش للرساميل. في هاتين الحالتين، استفادت المجموعات التجارية من حماية الدولة ورعايتها، لكنها تنافست في ما بينها في قطاعات متنوعة. في المقابل، يرتكز عمل "مجموعة أداني" على ما يشبه الاحتكار في قطاعات عدة.

يبدو أن أداني يسير على خطى الرأسمالية التي كانت طاغية في عهد ماركوس وسوهارتو ومهاتير. في هذه الحالات، كان الحاكم القوي على صلة وثيقة بشركات منتقاة. اتكل ماركوس مثلاً على أنطونيو فلورنيدو، ملك الموز، وإدواردو كوجوانغكو، ملك جوز الهند. وكان سوهارتو يتكل على ليم سو ليونغ، ومحمد "بوب" حسن، وأقطاب آخرين طوّروا علاقات عمل مع أولاده وعقدوا شراكات متبادلة المنافع. أما مهاتير، فكان يتكل على تاجوجيد رملي. ازدهرت هذه المجموعة من رجال الأعمال حين كان الوضع إيجابياً ودعمت العهود السياسية الطويلة للحكّام. كان أقطاب جنوب شرق آسيا يستفيدون من عقود تُرسّخ الاحتكارات عن طريق المحسوبيات بفضل قربهم من الحكومات في تلك الفترة.

ما من علاقات عمل مؤكدة ومباشرة بين مودي وأداني، وتنشط "مجموعة أداني" طبعاً في ولايات تقودها المعارضة. لكن يبقى الرجلان مقرّبَين من بعضهما. في العام 2014، حين رحل مودي من "غوجارات" إلى نيودلهي لاستلام رئاسة الحكومة، سافر على متن طائرة أداني الخاصة. كذلك، سافر أداني مع رئيس الوزراء خلال عدد من الرحلات الخارجية. وعندما تزوج ابن أداني في ولاية "غوا"، في العام 2013، يقال إن مودي حضر الحفل طوال يومَين كاملَين. في غضون ذلك، تزعم المعارضة السياسية أن الحكومة الهندية مارست الضغوط على دول مجاورة، بما في ذلك سريلانكا وبنغلادش، لعقد صفقات طاقة تصبّ في مصلحة "مجموعة أداني". (رفضت هذه المجموعة أيضاً إعادة التفاوض على اتفاقية لشراء الطاقة مع بنغلادش).

دافع أداني عن نفسه ضد المزاعم الواردة في تقرير شركة "هيندنبورغ" قائلاً إنه لم يرتكب أي مخالفات بموجب القانون الهندي، مع أن المدققين الحكوميين أدلوا بتعليقات ضد "مجموعة أداني" منذ عشر سنوات تقريباً. فضّل مودي التزام الصمت بشأن الادعاءات ضد المجموعة، وقال الوزراء في حكومته إن الجهات التنظيمية المناسبة تراجع القضية. كذلك، ترددت وسائل الإعلام الهندية في التدقيق بنشاطات أداني، باستثناء عدد صغير منها، ويتعلق جزء من السبب على الأقل بإقدام شركاته على رفع دعوى ضد منتقديها. لكن منذ نشر تقرير "هيندنبورغ"، بدأ منظّمو السوق الهنود يدققون بالشركات التي يقال إنها على صلة بأداني.

فيما يحاول مودي تجديد الهند، يبدو أنه يسعى في الوقت نفسه إلى تجديد الرأسمالية الهندية. من الواضح أن السنوات التي أمضاها في السلطة أدت إلى تغيّر مكانة أصحاب الشركات في المجتمع: بدل أن يكون رجل الأعمال شخصاً محترماً وجديراً بالثقة وقادراً على المشاركة في توجيه إدارة الولايات، تحوّل هذا الفرد إلى حليف مخيف لا يهتم إلا بخدمة السياسيين والفوز بالعقود. قد يؤدي هذا التحوّل إلى نشوء مجتمع بلوتوقراطي يتخلّى عن الرأسمالية العامة التي دعمها الأب المؤسس مهاتما غاندي. تبدو الهند اليوم بعيدة عن تلك المبادئ أكثر من أي وقت مضى.