جوزيف حبيب

أميركا والصراع الثقافي والحرب الأهليّة

18 آذار 2023

02 : 01

الاحتقان المجتمعي الأميركي الداخلي بلغ معدّلات مقلقة (أ ف ب)

إنتهت الحرب الأهليّة الأميركيّة عام 1865 بعد نحو 4 سنوات مكلفة للغاية بشريّاً وماديّاً. لكنّ «الحرب الباردة» لم تنتهِ يوماً بين الأميركيين ذوي التوجّهات الفكريّة والثقافيّة المتناقضة والتي تتداخل مع الانتماء العرقي والطبقة الاجتماعية وصراع المدينة - الريف وغيرها من عوامل الشرخ والتمايز. وعلى الرغم من كلّ ذلك، استطاعت السلطات المحلّية والفدراليّة على مرّ العصور من تنظيم هذا الصراع وضبطه و»تنفيسه» وتوجيهه إلى ما هو بنّاء عوض تركه يكبر وينفجر في وجه الجميع ويهدم كلّ ما في دربه. بيد أن معطيات وظروف وعوامل مستجدّة دخلت على الخطّ خلال العقدَين الأخيرَين، وأدّت إلى تسعير الصراع ذي الأوجه المتعدّدة، الأمر الذي تستغلّه قوى خارجيّة معادية بهدف إضعاف «الأمبراطوريّة» الأميركية، كما تصبّ جماعات ضغط مختلفة الزيت على النار لتحقيق غاياتها المصلحيّة أو لنصرة إيديولوجيّة بذاتها على حساب «الآخرين».

الاحتقان المجتمعي الأميركي الداخلي بلغ معدّلات مقلقة، حيث شيّد عدد لا يُستهان به من الناشطين السياسيين والاجتماعيين «جدارات» فكريّة بين بعضهم البعض وأغلقوا أبواب الحوار، خصوصاً في أوساط الشباب الجامعي، إذ بات كلّ طرف يتمسّك بأفكاره الضيّقة و»الجاهزة» ويرفض المجالس الحواريّة وطاولات «العصف الفكري» الهادفة إلى ايجاد «أرضيّة مشتركة» مع الطرف الآخر. فمِن ملف الاجهاض، مروراً بمجتمع الميم وتفرّعاته، والحق بحمل السلاح، ودور الشرطة وصلاحيّاتها، وصولاً إلى الهجرة غير الشرعيّة، وكيفيّة مقاربة التاريخ الأميركي والعبوديّة فيه، والتعريف العلمي لماهيّة العنصريّة التي باتت بمثابة شمّاعة تُستخدم عند الحاجة، فضلاً عن تنظيم عمل شركات مواقع التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا العملاقة، وكيفيّة توزيع الأعباء الضريبيّة في المجتمع، وسواها من القضايا والملفات الشائكة، تكثر الفجوات الثقافيّة وتتّسع رقعة الانقسام العمودي العميق داخل المجتمع.

صحيح أن بذور الحرب الأهليّة موجودة في كلّ المجتمعات في أنحاء المعمورة كافة، طبعاً بنسب متفاوتة جدّاً. وصحيح أيضاً أن المؤسّسات الأميركية، لا سيّما الفدراليّة، قادرة على استيعاب الصدمات، إلّا أن تصاعُد الكلام في العالمَين الواقعي والافتراضي عن الحرب الأهليّة والدعوات إليها، يجب أن يدقّ ناقوس الخطر لدى النخب والتعاطي مع الأمر بما يستحقّ من اهتمام ومتابعة ومعالجة جذريّة. يعمل ناشطون يمينيّون متطرّفون على بثّ نظريّات مؤامرة غبيّة، مدفوعة أحياناً بجهود إلكترونيّة مضلّلة لأجهزة استخبارات أجنبيّة، والترويج لها «افتراضيّاً» بشكل ببغائي وواسع، في وقت ينحو فيه ناشطون من «اليسار الجديد» أكثر فأكثر نحو فرض أفكار وطروحات نظريّة فوضويّة، لا تمتّ إلى الواقع بصلة، على محيطهم، فضلاً عن اتّباعهم نهجاً «أنتي - أميركي» على مختلف المستويات، يُترجم ظاهريّاً بتقصّد إحراق العلم الوطني للولايات المتحدة الأميركيّة في تحرّكاتهم العنفيّة في الشارع، حيث يعمدون إلى تفجير غضبهم «الصبياني» المكبوت عبر نهب الأملاك العامة والخاصة وتحطيمها وحرقها.

ووعُورَة هذه الجماعات اليساريّة الغوغائيّة والليبراليّة المتطرّفة تكمن برفضها القيم الأميركيّة والتعدديّة المجتمعيّة والاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة، بعكس ما تدّعي. تنظر إلى كلّ ما يُحيط بها في الحياة فقط من زاوية إيديولوجيّتها المُعلّبة والمُغلقة بإحكام. حتّى أنّ بعض هذه الجماعات تذهب إلى حدّ تنظيم احتجاجات تأخذ منحى عنفيّاً داخل حرم الجامعات وخارجها اعتراضاً على أيّ نشاط سياسي لمجموعات تختلف معهم في الرأي والتوجّهات. لا يعترف هؤلاء بالحوار وتبادل الأفكار، بل يمتهنون الصراخ الفارغ من أي قيمة في وجه الخصوم والبكاء على أبواب هياكل أوهامهم الهدّامة. وفي الخلاصة، من ليس معهم هو بالضرورة عدوّهم «الفاشي» اللدود الذي يتوجّب إعلان الحرب عليه وسحقه! وأكبر مثال على ذلك، حركتَي «أنتيفا» و»حياة السود مهمّة» وغيرها من الجماعات التي تتّخذ مسلكاً عنصريّاً وقحاً، بينما تختبئ خلف صفة «الحقوقيّة» زوراً.

على الرغم من فظاعة بعض الجماعات اليمينيّة المتطرّفة، كأولئك الذين يؤمنون بتفوّق العرق الأبيض، إلّا أنّها تبقى حركات هامشيّة في المجتمع وتحت مرصاد الأجهزة الفدراليّة ورقابتها منذ زمن بعيد بفعل خطورتها الأمنيّة. في المقابل، تتّخذ الجماعات «الأنتي - أميركيّة» زخماً متصاعداً في الأوساط الشبابيّة. فالتطرّف في الحرّيات الفرديّة وسط تصحّر فكري رهيب وفراغ قيمي هائل، والأفكار الثوريّة الفوضويّة غير المسؤولة التي تنمو عند «المراهقين» نفسيّاً ومعنويّاً الغاضبين من الحياة بحدّ ذاتها، كلّها بمثابة «أرضيّة خصبة» لازدهار مثل هذه الحركات التائهة التي لا تعرف سوى الاعتراض بالمطلق على كلّ شيء تقريباً وتريد «قولبة» المجتمع والفرد على مقاساتها العقائديّة... وإلّا الويل والثبور وعظائم الأمور!

إنّ لأي مضطهد أو «حالِم حقيقي» من ذوي النوايا الصادقة الساعي نحو حياة أفضل، الحقّ في طلب اللجوء إلى بلاد «العم سام» أو أي دولة حضاريّة أخرى. لكن المعضلة تكمن بالطريقة المعتمدة مع كيفيّة استقبال اللاجئين. وهنا يتجسّد الخلاف مع الفوضويين. فحق اللجوء لا يعني على الإطلاق تبنّي سياسة «الأبواب المفتوحة» وتحويل الحدود الجنوبيّة للولايات المتحدة الأميركيّة مع المكسيك إلى نقطة عبور فوضويّة مشرّعة لمئات آلاف المهاجرين غير الشرعيين ليتدفّقوا بشكل غير منظّم وغير مدروس وغالبيّتهم من غير المؤهّلين والمستحقّين للدخول على حساب مئات آلاف «الحالِمين الحقيقيين» من حول العالم الذين يتقدّمون بطرق قانونيّة بطلبات لجوء من بلدانهم القريبة والبعيدة، وينتظرون لسنوات أحياناً من دون أي جواب. وهذه إشكاليّة واحدة قد تُغيّر وجه أميركا جذريّاً إذا لم تُعالج سريعاً، من مروحة واسعة من القضايا الحسّاسة التي يتوجّب مقاربتها بطرق حكيمة وهادئة ومنطقيّة، بعيداً من الانسياق الأعمى وراء «الجنون الجماعي» والشعارات «الحقوقيّة» الفارغة والإيديولوجيات التي عفا عليها الزمن.

يُساهم النظام الفدرالي الأميركي في تنفيس الاحتقان من خلال صلاحيّات كلّ ولاية بالتشريع بما تراه مناسباً لمصالحها ونسيجها الاجتماعي، شرط أن لا تتعارض تلك التشريعات وتتناقض مع الدستور الفدرالي أو قرارات المحكمة العليا. فهناك ولايات تتساهل قوانينها كثيراً في ما يتعلّق بحمل السلاح، بينما تُقيّد أخرى هذا الحق إلى أقصى حدود ممكنة. كما أن هناك ولايات تسمح بالاجهاض وأخرى تمنعه وغيرها تضع شروطاً صارمة حوله، فيما تبقى قرارات المحكمة العليا «الآمر الناهي» للفصل بما يجب الإلتزام به وطنيّاً وما يعود للولايات تحديده بنفسها. تجدر الإشارة هنا إلى أن المحكمة العليا ألغت العام الماضي الحكم التاريخي الذي يسمح بالإجهاض في قضية «رو ضد وايد» التي رفعت عام 1973. وهنا تبرز معضلة ينقسم حولها الأميركيّون: هل يجب توسيع صلاحيات الولايات حول ما يحق لها اعتماده من عدمه أم تقليص صلاحيّاتها على حساب السلطات الفدراليّة، خصوصاً في ما يتعلّق بالحرّيات والحقوق الفرديّة؟

المطلوب التعالي عن المصالح الضيّقة والتخلّي عن عقليّة الإلغاء وإعطاء مساحة أوسع للولايات للفصل في القضايا المثيرة للانقسام في المجتمع، لا بل حتّى الذهاب إلى توسيع دائرة صلاحيّات المقاطعات بما يسمح لها بالتمايز عن الولاية التي تقع ضمنها حول قضايا اجتماعيّة وثقافيّة حسّاسة محدّدة، الأمر الذي سيُسهّل على السكّان الانتقال من مكان إلى آخر قريب بما ينسجم مع قناعاتهم وتوجّهاتهم داخل الولاية الواحدة، بدل الاضطرار إلى مغادرة الولاية بأسرها والسفر لمسافات طويلة لتغيير مكان سكنهم أو حتّى لإجراء عمليّة إجهاض على سبيل المثال. تُقسّم الولايات اليوم بين تلك «الحمراء» أي الجمهورية المحافظة، وتلك «الزرقاء» أي الديموقراطيّة الليبراليّة. وداخل كلّ ولاية هناك مقاطعات ومناطق وبلدات تُلوّن باللون الأحمر وأخرى باللون الأزرق، بحسب الانتماء السياسي لغالبيّة سكّانها استناداً إلى نتائج آخر استحقاق انتخابي.

إنّ توسيع صلاحيات المقاطعات يلزمه تعديلات دستوريّة فدراليّة ومحلّية ذات صلة، ودونه عوائق قد تكون أبرزها اعتبارات حزبيّة جمهوريّة وديموقراطيّة متشعّبة، بيد أن هذه المقاربة تستحقّ الدراسة والتمعّن لما قد تحمله من مشروع سلام مجتمعي طويل الأمد ينزع فتيل التصادم بين مجموعات تزداد هوّة الخلافات الجوهريّة بينها مع الوقت. وعلى القوى السياسيّة والأهليّة الفاعلة استيعاب الانقسام العمودي وعدم اتخاذ خطوات تؤدّي إلى تأجيجه، انطلاقاً من صفوف المدارس وصولاً إلى مكاتب الشركات، وإلقاء خطب التحدّي القاتلة في صراعاتها على النفوذ والسلطة. عندما فاز الرئيس السابق دونالد ترامب بالمعركة الرئاسيّة أمام هيلاري كلينتون عام 2016، خرجت أصوات تُنادي بالمطالبة بإجراء استفتاء في ولاية كاليفورنيا «الزرقاء» لإعلان استقلالها عن الولايات المتحدة الأميركيّة.

كما خرجت أصوات في الآونة الأخيرة تدعو إلى «الطلاق»، وبالتالي فصل الولايات «الحمراء» عن تلك «الزرقاء»، فضلاً عن تزايد الحديث عن الحرب الأهليّة والدعوة إليها بحماسة منقطعة النظير كما لو أنّها غاية سامية بحدّ ذاتها من الواجب تحقيقها لمصلحة الأجيال القادمة. لا أحد يتمتّع بالحدّ الأدنى من الفهم والإدراك والوعي، لا سيّما في الداخل الأميركي، يُريد أن يرى الولايات المتحدة الأميركيّة تتمزّق أوصالها وتصبح ساحة مفتوحة لصراع أهلي دموي مأسوي بكلّ المقاييس، فهذا سيناريو كارثي سيحلّ جحيماً على الأميركيين بالدرجة الأولى وعلى البشريّة جمعاء عموماً. المؤسّسات الأميركيّة ما زالت صامدة وقويّة بدعم من النخب والقوى الفاعلة والغالبيّة الساحقة من المواطنين، ونأمل في أن تبقى كذلك في المستقبل القريب والبعيد، رغم تمنيات وجهود أعداء أميركا الداخليين والخارجيين على حدّ سواء.


MISS 3