جوزيف كيلر

ساحة المعركة المقبلة بين القوى العظمى تحت البحر في أفريقيا؟

18 آذار 2023

02 : 00

عمال أفريقيون يسحبون كابلاً للألياف البصرية البحرية على شاطئ مدينة مومباسا الساحلية الكينية

تحوّلت كابلات الألياف البصرية البحرية التي تعبر المحيطات وتتّصل بالقارة الأفريقية سريعاً إلى نقطة جيوسياسية ساخنة للغرب. في الفترة الأخيرة، بدأت السياسة الخارجية الأميركية ترتكز على المناورات الاستراتيجية للردّ على منطاد المراقبة الصيني، وهي تُخطط لفرض حظر وطني على أشهر تطبيق صيني في العالم، «تيك توك».

تزامناً مع تنفيذ الخطط المتوسّعة لمدّ شبكات الكابلات عبر مجموعة حليفة من المستثمرين والشركاء الدوليين، لا يستطيع الغرب أن يغفل عن مخاطر وشيكة أخرى على مستوى الأمن القومي، فقد تحوّلت الكابلات البحرية وغيرها من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في أفريقيا الآن إلى نقاط ضغط معاصرة للأنظمة الاستبدادية، وهي تهدف إلى استبدال النفوذ الغربي والتفوّق في هذه المنافسة.

تشهد هذه القارة أسرع نموّ لعرض النطاق التردّدي الدولي في العالم، ومن الواضح أن تسارع بناء الكابلات الأفريقية البحرية يمنح الصين نفوذاً كبيراً، تزامناً مع خلق نقطة ضعف أمنية بسبب مخاطر التدخّل الروسي. سيخطئ الغرب إذا أغفل تداعيات تكاثر الكابلات البحرية الأفريقية على مستوى الاستراتيجيات الجيوسياسية المعاصرة بين القوى العالمية.

كانت بكين المموّلة الأولى للثورة الرقمية في أفريقيا. تدعم الشركات والبنوك الصينية مشروعَين بارزَين للكابلات البحرية في القارة، بما في ذلك واحد من أكبر المشاريع في العالم. سيكون هذا النوع من المساعدات كفيلاً بتغيير الوضع القائم حتماً، لكنّ حجم الديون الهائلة قد يُضعِف المتلقين. تعني دبلوماسية فخ الديون أن تعجز البلدان عن تسديد القروض أو إنهاء المشاريع بالكامل. من خلال تمويل الكابلات الأفريقية، ستحصل بكين على قدرة متفاوتة للسيطرة على عملياتها وقد تعزّز ظاهرة التبعية الاقتصادية المتزايدة. هذا الوضع يطغى على نقاشات مهمة حول خصوصية البيانات ومفهوم السيادة.

تتحمّل البلدان الأفريقية أعباء الديون وتواجه مشاكل في قدراتها المالية، لذا تتعامل أيضاً مع زيادة معدلات الاقتراض أكثر من أي بلدان أخرى تواجه الظروف نفسها. لا تزال الولايات المتحدة من أشرس منتقدي هذا النوع من قروض التنمية لأن الديون المدمّرة قد تكبح مسار التقدّم في نهاية المطاف. لكن لم تتّضح بعد مدى قدرة واشنطن على التصدي لهذا الوضع عبر طرح بديل أفضل.

زار وزير الخارجية الصيني الجديد أفريقيا في شهر كانون الثاني، فطرح بكين كشريكة تجارية جديرة بالثقة. ونظراً إلى قلّة المبادرات الاقتصادية الغربية تاريخياً ومستوى الحاجات المُلحّة في القارة اليوم، لن يعيق عدد كبير من الدول الأفريقية المساعي التكنولوجية بلا مبرّر من خلال تطبيق عمليات تنظيمية مفرطة قد تكبح التقدّم الاجتماعي. تعطي البلدان بمعظمها الأولوية للبنية التحتية الخاصة بتكنولوجيا المعلومات والاتّصالات. لكنّ الرضوخ التام لشروط بكين وتلقّي الدعم المالي منها قد يضعفان قوة أفريقيا واستقلاليتها مستقبلاً.

على صعيد آخر، يبرز تهديد أمني معيّن. بدأ القادة حول العالم يعترفون بنقاط ضعف الكابلات البحرية. قد تكون التهديدات بمعظمها بيئية أو عرضية في المقام الأول، لكن تكثر التوقعات التي تعتبر كابلات الألياف البصرية أهدافاً محتملة لعمليات التخريب، ويُعبّر قادة هذا القطاع وصانعو السياسة في آن عن قلق متزايد من تنفيذ اعتداءات متعمّدة ضد الكابلات الحيوية.

استكشف عدد كبير من الخبراء مخاطر الكابلات في الحروب. قد يبدو جزء من الظروف مبالغاً فيه، لكن يستخفّ المعنيون أيضاً بظروف مؤثرة أخرى. مع ذلك، لم يتراجع احتمال الاستغلال العسكري بالكامل، سواء أأصبحت أطراف خبيثة على أعتاب صراع كبير أم لم تصبح كذلك. يدرك رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، نقاط ضعف الكابلات في المحيط الأطلسي أمام خصوم مثل روسيا.

تكلّم سوناك، حين كان عضواً في البرلمان منذ سنوات، عن زيادة مخاطر الاعتداءات ضد الكابلات البحرية، لا سيّما من الجانب الروسي، واعتبرها تهديداً وجودياً على الأمن القومي البريطاني. ثم أطلق نداءً قوياً للتعاون، فكتب: «بالتنسيق مع شركائنا العالميين، من الضروري أن نتحرك الآن لدرء تلك المخاطر كي لا يتحوّل أكبر ابتكار في هذا القرن إلى عامل تخريبي».

تتمتّع روسيا بقدرات عسكرية وبحرية هائلة للمشاركة في عمليات القتال والتجسّس في أنحاء قاع المحيط، وتطرح هذه القدرات حتى الآن تهديداً كبيراً على الكابلات البحرية الأفريقية. أدّى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تأجيج المخاوف الأمنية وسط قادة حلف الناتو. يمكنهم أن يستعملوا المديرية الرئيسية لأبحاث أعماق البحار التي بدأت توسّع خبراتها منذ فترة وتنتج أفضل التقنيات التي تسمح لها بخوض الحروب في قاع البحر طوال سنوات. راقبت روسيا الكابلات البحرية البريطانية خلال حربها مع أوكرانيا، وهو إثبات قوي على حصول حرب سيبرانية.

قد لا تدمّر موسكو شبكة الإنترنت الغربية كلّها، لكن تبقى التحركات المتعمّدة لتعطيل عمليات مجموعة منتقاة من الخصوم ممكنة. أثارت تفجيرات خطوط أنابيب الغاز «نورد ستريم» الشكوك حول حصول عمليات تخريبية، مع أن ملابسات ما حصل لم تتّضح بعد. كذلك، زادت المشاكل الأمنية التي تطرحها البنية التحتية في قاع البحار وفي الأنظمة السيبرانية بشكل عام.

يدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قوة هذه العمليات التخريبية، وتتمتع روسيا بقوة بحرية يتجاوز نطاقها حدود شواطئها. تُعتبر الصين وروسيا أكبر مموّلتَين للعمليات السيبرانية التي تؤثر على عمل الكابلات، وهما تجيدان التلاعب بالشبكات لمراقبة حركة الإنترنت. أصبح التعاون العسكري بين الطرفَين أقرب من أي وقت مضى.

تزامناً مع تلاقي هذه القوى العالمية الثلاث في أفريقيا، قد تتحوّل الاضطرابات الراهنة إلى مواجهة مباشرة. تشعر الولايات المتحدة بقلق متزايد من خسارة روابطها القيّمة مع القارة الأفريقية، لكن تتعدّد الإخفاقات التي جاءت لتعيق مساعي إصلاح هذه العلاقة المتعثرة. مع ذلك، يتعلّق أكبر مصدر قلق باحتمال تحوّل النفوذ الاقتصادي الصيني المطوّل إلى ورقة ضغط سياسية في القارة الأفريقية.

كانت القمة الأخيرة بين قادة الولايات المتحدة وأفريقيا، في شهر كانون الأول الماضي، تهدف جزئياً إلى إعادة بناء تلك العلاقات وتقويتها بعدما ضعفت في عهد دونالد ترامب. أحدثت تلك القمة ضجة كبيرة عند إعلان مجموعة من الالتزامات والوعود، لكن لن يتّضح نجاح ذلك الالتزام إلا في المراحل اللاحقة.




أعلنت الدول الأفريقية استقلالها على الساحة العالمية، لكنها تجد نفسها حتى الآن في وضعٍ مُحبِط بسبب هذه السيناريوات. تؤكد مواقف الغرب الجديدة ومبادراته الجدّية تجاه القارة الأفريقية أهمية ثقافتها بالنسبة إلى الشتات الأفريقي، لكنها تعكس أيضاً القدرات الاقتصادية المرتبطة برواسب عالية الجودة من المعادن الأرضية النادرة وتسارع النمو السكاني، إذ تقع عشرة بلدان ذات تركيبة سكانية هي الأكثر شباباً في العالم داخل أفريقيا. ستؤثر هذه الفئة حتماً على مستقبل التكنولوجيا الناشئة. في نهاية المطاف، قد تنتشر مشاعر البغض بسبب الاستياء من التبعية المستمرة، تزامناً مع التحوّل إلى ساحة للمنافسة الجيوسياسية.

يهدف تكثيف الوجود الصيني وزيادة التهديدات السيبرانية التي تطرحها روسيا على الكابلات البحرية إلى استبدال التأثير الليبرالي للولايات المتحدة وحلفائها في أفريقيا، فضلاً عن تهديد أمن الاتصالات العالمية ومصداقيتها. إذا كان القادة الغربيون ينوون كبح القوى الاستبدادية في خضمّ سعيهم إلى تغيير مقاييس البيئة الرقمية العالمية، فيجب أن يعالجوا هذه المسائل في أسرع وقت في تلك المنطقة لأن المخاطر المطروحة بلغت مستوىً غير مسبوق.

يدرك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة طبيعة المخاطر المتزايدة على شبكة الإنترنت الأساسية ويتابعان دعم الاتصالات الآمنة والقوية مع البلدان الشريكة، علماً أن بعضها يقع راهناً في القارة الأفريقية. في الوقت نفسه، يشتكي الغرب وواشنطن من التنازلات المفرطة في أفريقيا.

سيستفيد الغرب حتماً من إعطاء الأولوية لهذه الصراعات الجيوسياسية الناشئة، ومراقبة الالتزامات الروسية والصينية بمشاريع الكابلات البحرية في أفريقيا عن كثب لحماية مصالحه الاقتصادية والسياسية، تزامناً مع الحفاظ على أمن الاتصالات العالمية.

قد تحاول أطراف استبدادية ومدعومة من الدول إعادة تشكيل الشبكة الرقمية العالمية خلسةً على حساب الأفارقة. فيما يتزامن التخطيط لبناء الكابلات البحرية مع توسّع البنية التحتية الناشئة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في القارة الأفريقية، من الضروري أن تعالج الحكومات الغربية هذه المخاطر المتزايدة. يُفترض أن يبدأ الفصل المقبل من هذه الخطط بزيادة الاستثمارات لدعم مستقبل أفريقيا في المجال الرقمي.

بالتعاون مع الأفارقة، يجب أن تثبت الحكومات الغربية التزامها بتمكين القارة وإقامة شراكات متساوية على مستوى إدارة الكابلات البحرية وبنائها، تزامناً مع توحيد الصفوف لتقديم تدريبات متطوّرة وفرص تعليمية مفيدة، فضلاً عن دعم تحالف مثمر لتحقيق الازدهار ومنح القارة الحق بتقرير مصيرها التكنولوجي.

ستكون البنية التحتية الخاصة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات محور هذه المهمّة. حتى أنها تفرض على الأميركيين وحلفائهم تزويد الشركاء الأفارقة بتدابير أمنية قوية، ومنحهم أفضل الممارسات لزيادة مرونة الكابلات البحرية، وتبادل معلومات استخبارية تفيد الطرفَين.


MISS 3