عيسى مخلوف

سمر يزبك: كتابة الموت السوري

18 آذار 2023

02 : 00

تسع عشرة امرأة / سوريات يروين

«حتّى تلك اللحظة لم يكن يعرف ذلك، لا يعرف أنّه مدفون تحت الأوراق والتراب والأغصان. كان يعي، فقط، أنّه يتنفّس وله عينان ويدان، ثمّ يسمع ضربات قلبه، ويُطلق تنهيدة عميقة، تُحرِّك عظام صدره، ويسمع صوت الخشخشة من جديد. وهو لا يزال هنا فوق هذه الأرض، لكنّه لا يشعر بقدميه، وهناك سيخٌ من النار يقصم ظهره، أو ربّما من الثلج، لكنّه حارق، هو لا يعرف ما هو، لكنّه لزج، وكأنّه مدفون من منتصف جذعه داخل حفرة من الأسمنت، لا يستطيع أن ينهض، ليتفقّد جسده، ولا يزال يعتقد أنّه حيّ».

هكذا تصف سمر يزبك حال علي، بطل روايتها «مقام الريح» التي صدرت مؤخّراً عن دار «ستوك» الباريسيّة (ترجمة علا مهنا وخالد عثمان). علي، جندي أصيب بقنبلة سقطت خطأً على مجموعة من الجنود في جبال الساحل السوري، ووجد نفسه ملتصقاً بالتراب، يستعيد، بين الحياة والموت، بين الوعي والهذيان، محطّات أساسيّة في حياته القصيرة، وقد تجمّعت بأكملها تحت جفنيه المطبقين.

الجريح المطروح أرضاً لا يرى جرحه، لأنه أصبح أعلى من الجرح. يتحسّس الشجرة القريبة منه ويشعر بالاطمئنان. الشجرة أمومة وحماية. إنها شجرة الليل والنهار والتراب المؤدّي إلى الجذور. هذا ما شعر به علي في تلك البرهة التي لم يعد في استطاعته أن يميّز فيها بين غصن شجرة ويد مبتورة. في هذا الواقع المفتوح على الاحتمالات كلّها، لا يفهم علي كيف يمكن أن تُصاب دوريّته بنيران صديقة. تشير الكاتبة، هنا أيضاً، إلى دمويّة الواقع وعبثيّته المُطلَقة: «لِمَ ألقت الطائرة تلك القذيفة؟! كيف يُلقون عليهم قذيفة وهم يَحمونهم؟!». أمّا هذه المراوحة بين الحياة والموت فهي ليست حال علي وحسب، بل حال السوريين أيضاً، الأحياء والأموات على السواء.

الحرب حاضرة في نتاج سمر يزبك، ولا حاجة إلى تسميتها وتحديد طبيعتها طالما أنها أصبحت صيرورة دائمة وفصلاً واحداً يختصر جميع الفصول، وطالما أصبح المكان كلّه مقبرة مفتوحة تأوي الموتى والناجين الذين ظنّوا أنهم لا يزالون على قيد الحياة.

إلى أعمالها الروائيّة – و»مقام الريح» روايتها الثالثة التي تُنقَل إلى الفرنسيّة، وهي الأكثر شاعريّة في لغتها وبنْيتها الفنّيّة وتداخل الواقع والمتخيّل فيها – جمعت سمر يزبك عدداً كبيراً من الشهادات الحيّة والمعاينات الميدانيّة ونشرتها في كتب، منها «تَقاطُع نيران/ من يوميّات الانتفاضة السوريّة»، و»تسع عشرة امرأة/ سوريّات يروين». في هذا الكتاب الأخير، تعطي المؤلّفة الكلام لنساء سوريّات عشنَ الثورة والحرب. الشهادات والذكريات لا تنحصر في الماضي فقط. إنّها الحياة نفسها بماضيها وحاضرها. الكلمة، هنا، للضحيّة لا للجلاّد، وهي تكشف عن حالات الاغتصاب والقهر التي عانت منها النساء في سجون النظام وسجون الجهاديين، وفي كنف المجتمع الذكوري الذي يتمثّل أيضاً في من ادّعى، من «الرفاق»، العلمانيّة والديمقراطية والحداثة.

تكتب سمر يزبك «لمواجهة فقدان الذاكرة»، كما تقول. تتماهى شهادتها مع شهادات السوريّات اللواتي عبرنَ طريق الجلجلة. كلماتهنّ جروح وحرائق كالحريق الذي التهمَ أطراف الذين عُذِّبوا وقُتلوا. نتساءل، لدى سماعنا شهاداتهنّ، عن معنى أن يموت شخص تحت التعذيب، وكيف يموت شخص تحت التعذيب ولا تتغيّر نظرتنا كلّيّاً إلى أنفسنا وإلى العالم، ولا يتصدَّع حولنا الهواء؟ هذا التساؤل طرحناه على أنفسنا يوم شاهدنا في باريس عدداً من لوحات أسعد فرزات التي رافقت قصائد لنوري الجرّاح، ورسوم نجاح البقاعي التي عرضت في العاصمة الفرنسيّة وواكبت صدور كتاب عنوانه «كلّنا شهود» الصادر عن دار «آكت سود»، ويوم قرأنا روايات منها رواية «القوقعة» لمصطفى خليفة، ولغيره من الكتّاب السوريين الذين أرّخوا، بصورة فنّيّة إبداعيّة، مأساة بلادهم التي هي إحدى المآسي الإنسانيّة في هذا العصر.

في هذا السياق، تحكي سمر يزبك عن سوريا منذ بداية التظاهرات وقمعها بالدم، وتلتفت إلى الذين نزلوا إلى الشوارع وطالبوا بأبسط حقوقهم، وعدد كبير منهم قُتل بينما كان يتطلّع إلى ضوء آتٍ من بعيد، وإلى حياة أخرى تشبه الحياة. لا ينفصل العام 2011، وما تلاه حتّى الآن، عن تاريخ سوريا الحديث بأكمله، وهو أحد فصوله المأسويّة. هكذا وجد المجتمع السوري نفسه أسير الاستبداد من جهة، والتعصّب الديني والحرب الأهليّة من جهة أخرى.

يقول رامبو في قصيدته «فصل في الجحيم»: أدفن الموتى في بطني». وطأةُ الموت هذه نسمع صداها في كتابات سمر يزبك، لكنّنا نلمح أيضاً بارقة أمل يعبّر عنها إيمانها بفعل الكتابة، ونلمح انتصاراً للحياة يتجسّد في هذا الإصرار على فتح نافذة في جدارٍ وراءه جدران كثيرة.




مقام الريح