تداعيات نهاية التعاون التركي - الروسي في سوريا

11 : 32

تشهد العلاقات التركية ـ الروسية تغيّراً جذرياً. أدى توسّع الأعمال العدائية في محافظة إدلب السورية إلى مقتل 13 جندياً تركياً ومحاصرة سبعة مواقع عسكرية تركية من جانب قوات النظام السوري المدعومة من روسيا. مهّد التقارب السياسي السابق بين تركيا وروسيا لانتشار توقعات حول نشوء شراكة استراتيجية ثنائية تطغى على الهندسة الأمنية على الحدود الجنوبية لأوروبا. لكن يبدو أن أنقرة بالغت في تقدير قوتها في علاقة المصلحة التي تجمعها بموسكو. يبقى الشرخ الكامل في التعاون التركي الروسي مستبعداً، حتى لو حصل هجوم تركي مضاد. لكن بسبب تراجع نطاق التعاون بين روسيا وتركيا، ستعمد روسيا على الأرجح إلى تطوير شراكات استراتيجية أكثر قوة مع خصوم تركيا، على رأسهم الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.



بدأت تركيا وروسيا العام 2020 بإثبات مستوى مرتفع من التعاون في مجالات استراتيجية متعددة. في 8 كانون الثاني 2020، افتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين خط أنابيب "ترك ستريم" رسمياً خلال احتفال في اسطنبول. ينقل هذا المشروع الممتد على مساحة 930 كلم الغاز الروسي في أنحاء البحر الأسود إلى تركيا للاستهلاك التركي المحلي ولنقله إلى جنوب أوروبا. إنه انقلاب مدهش للسياسة التركية في مجال الطاقة بعد سنوات من محاولة بناء مسارات بديلة لخطوط الأنابيب لاستيراد غاز غير روسي. وافقت أنقرة على مرور كمية إضافية من الغاز الطبيعي الروسي عبر الحدود التركية وعلى توسيع دور موسكو في الطموحات الاستراتيجية التركية الرامية للتحول إلى معقل أساسي للطاقة.

وفي 8 كانون الثاني 2020، فاجأت تركيا وروسيا عملاءهما الليبيين والمجتمع الدولي بإطلاق دعوة مشتركة إلى وقف إطلاق النار في ليبيا بدءاً من 12 كانون الثاني. يجبر اتفاق وقف إطلاق النار حكومة الوفاق الوطني والجيش الوطني الليبي على قبول هدنة مشروطة، وتَقرّر الاحتفال بتوقيع الاتفاق بين الطرفين في موسكو برعاية تركية وروسية. لكن يبدو أن موسكو لم تستشر قائد الجيش الوطني الليبي، الجنرال خليفة حفتر، ولا داعميه في القاهرة وأبو ظبي. صحيح أن حفتر غادر موسكو من دون التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار رغم موافقة حكومة الوفاق الوطني عليه، لكن أصبحت المبادرة الديبلوماسية الروسية التركية المشتركة إطار العمل الذي مهّد لمؤتمر برلين الدولي حول السلام في ليبيا في 10 كانون الثاني.

أكدت هذه المبادرة الروسية التركية على دور تركيا كواحدة من أهم صانعي القرار السياسي في ليبيا، وشكّلت استراحة كافية من الصراع كي تنقل تركيا إمكانات دفاعيـة جوية إلى طرابلس ومصراتة لمنع انهيار قوات حكومة الوفاق الوطني أمام هجوم الجيش الوطني الليبي المتواصل.

بنظر عدد كبير من المراقبين الدوليين، بدا وكأن موسكو وأنقرة اتفقتا على تقاسم إدارة الصراع الليبي كما فعلتا في سوريا، ما أوحى بنشوء الشراكة الاستراتيجية الروسية التركية المنشودة في منطقة البحر الأبيض المتوسط. لكن على أرض الواقع، يبقى النشاط العسكري الروسي سطحياً في ليبيا. صحيح أن المرتزقة الروس يقاتلون على جبهات الجيش الوطني الليبي في هجومه على طرابلس، لكن لا يمكن اعتبار الوجود الروسي في ليبيا عميقاً جداً مقارنةً بالقواعد البحرية والجوية التي تحتفظ بها روسيا في سوريا. ساهمت الديبلوماسية الروسية المشتركة مع أنقرة في ليبيا في ترسيخ موقع روسيا وتركيا في آن.

في محاولة لتقوية حكومة الوفاق الوطني سريعاً ضد هجوم الجيش الوطني الليبي، بدأت تركيا بنقل آلاف المقاتلين السوريين المصطفين معها إلى ليبيا. وأدت النزعة الجهادية لدى عدد كبير من هؤلاء المرتزقة إلى تأجيج واحدة من أبرز نقاط الخلاف بين تركيا وروسيا، أي فشل أنقرة في التخلص من التحالف السنّي المسلّح في محافظة إدلب بقيادة "هيئة تحرير الشام" المعروفة سابقاً باسم "جبهة النصرة" في سوريا.بموجب اتفاق "سوتشي" بين أنقرة وموسكو في أيلول 2018، وافقت روسيا على إنشاء منطقة منزوعة السلاح وخاضعة لمراقبة مشتركة مع تركيا في إدلب. خضعت حلقة خارجية في محيط المنطقة لمراقبة المواقع العسكرية الروسية، بينما راقبت حلقة داخلية مؤلفة من 12 موقعاً عسكرياً تركياً النشاطات الداخلية. منع هذا الاتفاق وقوع أي اعتداءات جوية سورية وروسية ضد القوات التركية وقوات تحالف "جبهة التحرير الوطني" المدعومة من تركيا، شرط أن تطرد الجبهة "هيئة تحرير الشام" من المنطقة تحت إشراف تركي. لكن في 10 كانون الثاني 2019، سلّمت "جبهة التحرير الوطني" مواقعها لـ"هيئة تحرير الشام"، ما سمح لـ"جبهة النصرة" بإحكام قبضتها على شمال إدلب. وفي 18 كانون الثاني 2019، عبّر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن قلق الكرملين قائلاً: "نشعر بالقلق أيضاً لأن "جبهة النصرة" في إدلب، على عكس الاتفاقيات حول إنشاء منطقة منزوعة السلاح هناك، تسيطر على تلك المنطقة وتنتهكها. يحتل الإرهابيون حوالى 70% من هذه المساحة حتى الآن، وهم يحاولون مهاجمة مواقع الجيش السوري وتهديد قاعدتنا الجوية العسكرية في حميميم".

في 19 كانون الأول 2019، أي يوم أبرمت حكومة الوفاق الوطني ميثاقها الدفاعي مع تركيا، أطلق الجيش العربي السوري عمليات هجومية متزامنة في محافظة إدلب والمناطق النائية الغربية في محيط حلب. استعملت قوات نظام الأسد مدفعيات ثقيلة واستفادت من تغطية جوية روسية انطلاقاً من حميميم، فحققت بذلك مكاسب كبرى. في محافظة إدلب، استرجع الجيش العربي السوري نقاطاً محورية من نظام الطرق السريعة في سوريا، على غرار معرة النعمان وسراقب، ما سمح لقوات الأسد بمحاصرة سبعة مواقع عسكرية تركية من أصل 12. في خضم هذه الأحداث، قتلت عمليات الجيش العربي السوري 13 جندياً تركياً.

إستعاد نظام الأسد الآن حوالى 20% من الأراضي الإضافية في إدلب واسترجع السيطرة على منطقة غرب حلب. كذلك، استعاد السيطرة الكاملة على الطريق الدولي "إم 5" للمرة الأولى منذ العام 2012، ما يعني استرجاع حبل النجاة الاقتصادي السوري الذي يربط العاصمة دمشق بالمركز التجاري في حلب.حصلت العملية الهجومية بقيادة "شعبة المهام الخاصة الخامسة والعشرين" و"الفيلق الخامس – اقتحام" التابع للجيش العربي السوري. يقود الجنرال سهيل الحسن، الذي تربطه علاقات ودّية جداً مع موسكو، "شعبة المهام الخاصة"، بينما طوّر مستشارون عسكريون روس "الفيلق الخامس" في العام 2016. يؤكد الدور الرائد لهاتين الفرقتَين على موافقة الكرملين طوعاً على محاولة نظام الأسد استرجاع إدلب من السيطرة التركية.

طالبت تركيا القوات السورية بالانسحاب وهددت روسيا بأن تجبر القوات التركية الجيش العربي السوري على الانسحاب ما لم تضغط موسكو على نظام الأسد لسحب قواته فوراً. تأكيداً على هذا التهديد، أرسلت تركيا أكثر من مئة قافلة عسكرية إلى إدلب بحلول نهاية الأسبوع الثاني من شباط. إنه أكبر حشد عسكري تركي هناك منذ العام 2011، فقد بلغ عدد الجنود الأتراك حوالى 9 آلاف عنصر، إلى جانب مدفعيات ثقيلة وقاذفات صواريخ ودبابات قتالية وناقلات جنود مدرّعة.بنظر أنقرة، تُعتبر إدلب جزءاً من مخاوفها الأساسية على أمنها القومي لأن إلغاء الوجود التركي في إدلب يهدد سيطرة تركيا على أجزاء من شمال سوريا على طول حدودها. يرتبط الوجود التركي في شمال سوريا بثلاث عمليات عسكرية منفصلة (تحظى كل واحدة منها بموافقة موسكو ولو على مضض)، ويهدف إلى كبح سيطرة القوات الكردية السورية في "وحدات حماية الشعب" التابعة لـ"حزب العمال الكردستاني".في ظل المواجهة الراهنة، ترغب تركيا في زيادة التكاليف التي تتكبدها روسيا بدرجة كافية لإقناعها بدعم نسخة معدّلة من اتفاق "سوتشي"، أو على الأقل ضمان شكل معيّن من الإشراف التركي في مناطق شمال سوريا التي تسيطر عليها أنقرة راهناً. لكن يبقى احتمال أن تغيّر تركيا طريقة تعاملها مع الوضع المتفاقم لتحقيق هذه النتيجة ضئيلاً جداً على الأرجح.

في 18 شباط 2020، فشلت جولة ثانية من المحادثات بين المفاوضين الأتراك ونظرائهم الروس. تكلم الرئيس أردوغان خلال اجتماع لكتلته البرلمانية من "حزب العدالة والتنمية" الحاكم، فأعاد التأكيد على نيّته إطلاق عملية هجومية مضادة في إدلب ما لم تنفذ روسيا شروطه بحلول 20 شباط. أعلن أردوغان أن "عملية إدلب هي مسألة وقت"، وتعهد بألا "تترك تركيا إدلب بيد نظام الأسد وداعميه".

ما لم يقع حدث كفيل بتفجير الوضع بين تركيا وروسيا، قد تخفف أنقرة من حدة الخسائر التي تتكبدها في سوريا حفاظاً على تعاونها الآخر مع روسيا، كونه يسمح لها بالحفاظ على مستوى معيّن من الاستقلالية في علاقاتها مع حلفائها في الناتو. في غضون ذلك، يسمح تقليص التعاون الروسي التركي في سوريا لروسيا بِضَمّ المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة كشريكتَين في إعادة إعمار سوريا، فضلاً عن تقوية الشراكات مع الرياض وأبو ظبي في مناطق أخرى من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.


MISS 3