بشار حلبي

تجربتي مع نبش القبور بين لبنان وإيرلندا

15 تموز 2019

11 : 48

جنبلاط والبطريرك صفير في مصالحة الجبل

لطالما شكّل حق الأفراد والأسر بكشف مصير محبيهم وأقاربهم واستعادة رفاتهم، في أي حالة كانت (حرب أهليّة أو جريمة ضدّ الإنسانيّة أو انتهاكات حقوق إنسان)، إحدى أهم ركائز المصالحات في مفهوم العدالة الانتقاليّة التي تحدث بعد حالات صراع أو اقتتال أهلي أو انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان في أيّ بقعة من الأرض، وفي محاولة لتعزيز السلم الأهلي واللحمة بين أفراد المجتمع وتحقيق العدالة للناجين، وإلّا ستبقى الجراح نازفة والذاكرة الجماعيّة للجماعات المتناحرة غير متصالحة مع ماضيها، ما يُشكّل خطراً كبيراً من ناحية الاستثمار في جراح الماضي لتحقيق مكاسب سياسيّة أو طموحات شخصيّة من قبل البعض، خصوصاً في يومنا هذا مع صعود خطاب يستثمر في سياسات الهويّة إلى أقصى الحدود. وهذا ما نعيشه اليوم في لبنان بشكل عام وفي محافظة جبل لبنان تحديداً، كما حصل مع الأحداث المؤسفة التي شهدتها منطقة الشحار الغربي الأسبوع الفائت، التي سقط خلالها شابان من الحزب الديموقراطي اللبناني في حين تعرّض مدني لإصابة خطرة لكن حالته مستقرة، وعاشت المنطقة ساعات طويلة من الخوف أعادت إلى الأذهان هواجس الحرب الأهليّة.



مقاربة خاطئة


وكالعادة عند حدوث أيّ توتر أمني - اجتماعي في منطقة جبل لبنان، غالباً ما يأخذ طابعاً مذهبياً بسبب ثقل التاريخ الذي يُلقي بظلاله على تلك البقعة، خرج علينا البعض ليتكلم ويُذكّر بمصالحة الجبل وكأنها أتت كفصل أخير يسدل الستارة على ماضٍ مجبول بالدم بين الموارنة والدروز، فيما يتهم غيره (أو المقلب الآخر) ببث الأحقاد ونكء جراح الماضي.

المشكلة في هذه المقاربة هي انها لا تزال متأثرة بمنطق المنتصر في الحرب. هذه المقاربة تريد أن تتغاضى عن واقع أن المصالحة التي أنجزت من فوق (الزعامة الجنبلاطيّة والبطريركيّة المارونيّة) لم تتمم بعد على المستوى الشعبي. فقسم لا يُستهان به من الطائفتين المارونيّة والدرزيّة ما زال يكن مشاعر العداء والكراهية للآخر.


لذلك، صحيح أن المصالحة كانت تاريخية وصحيح أيضاً أن جزءاً كبيراً من المهجّرين عاد إلى الجبل، إلّا أنّه وجبَ التعامل مع ذلك على أساس خطوة أوّلية لمرحلة استعادة الثقة بين الأطراف التي تناحرت، وإلى إعادة أوصال النسيج الاجتماعي الذي تفكّك في مرحلة الحرب الأهليّة. يعني بمعنى آخر، مصالحة الجبل كانت مقاربة "توب بوتوم" توقفت بمراحلها الأولية من دون أن تستكمل عبر عمليّة مصارحة وكشف مصير من فُقدوا في هذه الحرب وتكريم ذكراهم بما ينزع فتيل أي صراع أو اقتتال داخلي مستقبلي.

وعدم حدوث ذلك هو ما يذوّد في الوقت الحالي وزير الخارجية اللبنانية جبران باسيل بمادة دسمة للاستثمار في هذه الجراح والتذكير بالماضي على طريق تشكيل زعامة مارونيّة لنفسه، وهو ما يُنذر حدوثه في المستقبل أيضاً.

في العام 2013 انتقلت الى جمهوريّة إيرلندا لمتابعة دراستي العليا في مجال القانون الدولي وتحديداً التخصّص في قانون حقوق الإنسان الدولي. هناك تعرّفت إلى "مايكل أو فلاهرتي"، المدير العام للمركز الإيرلندي لحقوق الإنسان حينها، وهو المركز الذي يُشرف على برنامج الماجستير في القانون الدولي داخل كليّة الحقوق في جامعة إيرلندا.


لمن لا يعرف مايكل، هو الرئيس الحالي لوكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسيّة التي تُعنى بمحاربة العنصريّة ورفع درجة الوعي لدى العامة على صعيد الاتحاد. إلّا أن لمايكل تاريخاً عريضاً في مجال حقوق الإنسان ومن المناصب التي تبوأها، تمثيل بلاده في عضوية لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنيف بين العامين 2004-2012.

في فصلي الدراسي الأوّل، وكأحد الأنشطة الأكاديميّة، عملت مع مايكل، الذي أصبح أستاذي والمشرف على رسالة الماجستير لاحقاً، للتحضير لمؤتمر عالج مسألة "توم موثرز أند بايبي هوم" والتي لطالما تكتم عليها المجتمع (الكاثوليكي والمحافظ جدًا بطبعه تاريخيّاً) في جمهورية إيرلندا. تعود هذه الظاهرة الى الفترة بين العامين 1925 و1961، حين نشط منزل تُديره راهبات "البون سيكور" الكاثوليكيّات في مقاطعة غالوي لإيواء النساء الحاملات غير المتزوجات بعيداً من عيون المجتمع المحافظ طيلة مدّة حملهن وحتى الولادة. وبطبيعة الحال، وتجنّباً لأسئلة المجتمع و"العار" الذي كان ممكناً أن يلحق بالنساء في ذلك الوقت، كانت الراهبات يحتفظن بالأولاد وتمنعهم من البقاء مع امهاتهم.




تمثال الأيدي الممدودة برغم الانقسام في مدينة ديري في إيرلندا الشمالية




فضيحة مدوّية

إلّا أنّه، وفي العام 2012 هزّت فضيحة البلاد بعد اكتشاف وزارة الصحة أن الراهبات كنّ قد أرسلن ما يُقارب الألف طفل للتبنّي في الولايات المتّحدة من دون أخذ موافقة أيّ طرف وبطريقة غير قانونيّة. إلّا أن الجهد البحثي للمؤرخة (ليست أكاديميّة) كاثرين كورلس، إبنة مقاطعة غالوي، استطاع تفجير فضيحة أكبر في البلاد أصابت أسهمها الاكليروس. كانت كاثرين خلال عملها قد نشرت مقالاً العام 2012 عرضت فيه لتاريخ منزل الراهبات ووثّقت فيه 796 حالة وفاة للأطفال بين العامين 1925-1961.


بالنتيجة تحرّك القضاء الإيرلندي، في تموز العام 2014 وعُيّنت القاضية ييفون مورفي على رأس لجنة تقصّي حقائق لمتابعة الموضوع، ليكتشف الإيرلنديّون بعدها وجود مقابر جماعيّة تضمّ رفات ما يُقارب 800 طفل، غالبيّتهم تتراوح أعمارهم بين الـ 35 أسبوعاً والسنتين، وحمّلت التحقيقات الراهبات مسؤوليّة موت الأطفال الرضع بسبب الأمراض وقلة الغذاء وعدم الرعاية الصحيّة.

وفي العام 2018، أقرّت الحكومة الإيرلنديّة قانوناً يُعطي لجنة تقصي الحقائق صلاحيّات كاملة للتنقيب عن الرفات والعثور على المقابر الجماعيّة، كما فصلت ميزانيّة تتراوح بين 10-13 مليون دولار للعمليّة كاملة.


وبطبيعة الحال تمّ تحليل الحمض النووي لهذه الرفات وربطها مع من بقي من عائلات النساء اللواتي أنجبن هؤلاء الأطفال على قيد الحياة وتمّ إرجاع الرفات إلى ذويها لدفنها (ما زالت العمليّة قائمة حتى اليوم). وخلال المؤتمر في جامعة إيرلندا، تحدّث ممثل الحكومة الإيرلنديّة عن امكانيّة إنشاء نصب تذكاري في وسط مقاطعة غالوي يُخلّد ذكرى هؤلاء الأطفال ويجمع أهل المدينة حوله. كما استضاف المؤتمر عدداً من الناجين (الذين أصبحوا رجالًا ونساءً كباراً) من منزل الراهبات للحديث عن تجربتهم وعن حياتهم.

حتى اليوم، أذكر جيّدًا ذاك الشعور بالفرح المجبول بوجع سنين خلت وكيف ارتسم على وجوه المشاركين حين تحدّثوا عن تجاربهم وحين علموا بفكرة النصب التذكاري. أهل الجبل بكلّ طوائفهم يستحقّون ذاك الفرح ومن حقهم أن يعرفوا حقيقة ما حصل ليتصالحوا مع ماضيهم ويبنوا مستقبلاً مشتركاً لا مكان فيه لعقب آخيل يسمح لجبران باسيل أو غيره من السياسيين بالاستثمار في ذاكرة الخوف القابعة في وجدان الناس ليبني مستقبلاً غير متحرّر من ماضٍ دموي ومن الحقد المتبادل.


والمصالحة ليست عنواناً أو يافطة سياسيّة نرفعها بشكل فولكلوري، إنما هي مسار مجتمعي حقوقي وقيمي يُحصّن بيئة الجبل الداخليّة ويزيد من مناعتها أمام كل متسلّق (من الطرفين) أراد استعمال هذا الشعور الطائفي، إمّا لبناء زعامة جديدة أو للعودة لبيوت الزعامات بعد أن خرج منها. التقصير حاصل منذ زمن بعيد، ولا ينفع الصراخ أو الندم في يومنا هذا.