ناتالي توتشي

حدود أوروبا الجديدة

22 آذار 2023

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (إلى اليسار) والأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ خلال مؤتمر صحافي في مقرّ الاتحاد الأوروبي | بروكسل، 16 كانون الأوّل 2021

في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، بدأت فكرة غير معلنة تنتشر في الغرب: ستنشأ منطقة رمادية بين بقية مناطق أوروبا وروسيا، وستتألف من بلدان أوروبا الشرقية، مثل أوكرانيا، ومولدوفا، وبيلاروسيا، ودول في جنوب القوقاز، وربما دول غرب البلقان وتركيا أيضاً. كانت هذه الدول العازلة تحمل هدفاً مزدوجاً: من خلال كبح توسّع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، تسمح تلك البلدان لهاتين المنظمتين، لا سيّما الاتحاد الأوروبي، بالتركيز على أهدافهما تزامناً مع استرضاء روسيا (نظرياً على الأقل).



منذ العام 2005، واجه الاتحاد الأوروبي أزمات متلاحقة على صلة بالدستور، والديون السيادية، والهجرة، وجائحة كورونا، فضلاً عن أزمة "بريكست" الشهيرة. غرق الاتحاد في هذه الأزمات وانشغل بالتحدّيات التي أثارت مشاكل كبرى في جواره، فخسر رغبته في توسيع نطاقه. اتّضح هذا الوضع بشكلٍ أساسي في منطقة غرب البلقان وتركيا.

كان تجميد توسّع الناتو والاتحاد الأوروبي يعني أيضاً تلبية جزء من مطالب روسيا، نظراً إلى اعتراض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هذه الخطوة انطلاقاً من مخاوف موسكو الأمنية المزعومة. اندلعت الحرب الروسية في جورجيا، في العام 2008، تزامناً مع قمة الناتو في بوخارست، حيث تم الإعلان عن ضمّ جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف قريباً. ثم بدأت سلسلة الأحداث التي بلغت ذروتها مع ضمّ شبه جزيرة القرم والحرب في إقليم "دونباس" نتيجة اعتراض روسيا على منطقة التجارة الحرّة العميقة والشاملة بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا. لكن لم تنذر قرارات الناتو والاتحاد الأوروبي باستكمال خطة التوسّع في أي من هاتين الحالتين. هما عبّرا بكل بساطة (وبشكلٍ ضعيف) عن رغبة الدول العازلة في التوجّه غرباً.

من الواضح أن استراتيجية المناطق العازلة بقيت دون المستوى المطلوب، فهي أحبطت طموحات الدول العازلة بتحقيق الازدهار، والديمقراطية، والأمن، ولم تكن كافية لتهدئة روسيا. اتّضح ذلك عند شنّ الحرب في جورجيا، في العام 2008، وبدء الحرب في أوكرانيا، في العام 2014، واحتدام الصراعات العالقة في أبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية، وترانسنيستريا. كذلك، لم تكن تلك الاستراتيجية كافية لإثبات قدرة الاتحاد الأوروبي على تعميق التكامل والإصلاحات في مؤسساته، رغم غياب أعباء خطة التوسّع، وبالكاد سمحت له بتجاوز أزماته المتلاحقة.

لكن تبدو الصيغة التي ابتكرها الاتحاد الأوروبي والناتو قابلة للتنفيذ على الأقل. غالباً ما تتظاهر الدول الطامحة للانتساب إلى المنظمات الأوروبية والأطلسية بتطبيق الإصلاحات، بينما تدّعي تلك المنظمات أنها تتّجه إلى ضمّها في نهاية المطاف. في ما يخص الناتو، انضمّ عدد من البلدان إلى الحلف فعلاً، مثل مونتينيغرو في العام 2017 ومقدونيا الشمالية في العام 2020.

في المقابل، تباطأ توسّع الاتحاد الأوروبي بسبب إجراءات الانتساب الشائبة وسياسة الجوار الأوروبية الباهتة التي تهدف نظرياً إلى عرض جميع أنواع الامتيازات باستثناء المشاركة في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، لكنها تُركّز عملياً على التوصل إلى اتفاقيات تجارة حرّة شاملة مع عدد صغير من الدول. في ظل زيادة العدائية الروسية، لا في شرق أوروبا والقوقاز فحسب بل في غرب البلقان وتركيا أيضاً، أصبحت تلك الدول أشبه بمنطقة عازلة بين أوروبا وروسيا. لم تكن هذه الترتيبات مثالية لكن اعتبرها عدد كبير من الخبراء جيدة بما يكفي.

ثم جاء غزو بوتين لأوكرانيا ليدمّر هذا الوهم. اعتبرت موسكو الحرب حتميّة بسبب توسّع الناتو، لكن أقدمت روسيا على الغزو مع أن فرص أوكرانيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو الحلف المؤلف من 30 عضواً لم تكن واقعية. لن نعرف ما إذا كانت الحرب لتندلع لو انتسبت أوكرانيا إلى منظمة منهما أو المنظمتَين معاً، لكننا نعرف أن الغزو حصل رغم عدم انضمام أوكرانيا إليهما.

يثبت هذا الوضع غياب أي مناطق عازلة بين بقية دول أوروبا وروسيا. لا وجود إلا للدول الحدودية. على أحد طرفَي تلك الحدود، تبدو مظاهر الأمان، والازدهار، والديمقراطية ممكنة (مع أنها ليست مضمونة، كما في المجر وبولندا). وعلى الطرف الآخر، تُعتبر مظاهر الاستبداد، والحرب، ورأسمالية الدولة، المعيار السائد بدل أن تكون الاستثناء.

هذه الظروف تعيدنا تلقائياً إلى مسألة التوسّع. بعد أقل من أسبوع على بدء الغزو، قدّمت أوكرانيا طلباً للانتساب إلى الاتحاد الأوروبي، وقامت مولدوفا وجورجيا بالمثل خلال الأسابيع اللاحقة. وفي أيلول 2022، قدّمت كييف طلباً للانتساب إلى حلف الناتو أيضاً.

قد تبدو هذه الطلبات رمزية في ظل احتدام الحرب، لكنّ الحيوية التي ميّزت حكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في مساعيها لتحقيق هذه الأهداف كانت فائقة، بما في ذلك تطبيق الإصلاحات المرافقة لهذه المساعي. هذا الأمر ليس مفاجئاً، فقد كانت أوكرانيا أوضح مثال على غياب أي منطقة عازلة مستقرة بين بقية دول أوروبا وروسيا.

ترشّحت أوكرانيا ومولدوفا لعضوية الاتحاد الأوروبي، بينما اعتُبِرت جورجيا مرشّحة محتملة. ثم جاءت المخاوف من التخلي عن منطقة غرب البلقان لتعيد إحياء جزء من إجراءات الانتساب الخامدة تجاه تلك المنطقة، فبدأت محادثات الانضمام مع مقدونيا الشمالية وألبانيا، وترشّحت البوسنة والهرسك للانتساب إلى الاتحاد في السنة الماضية.

عَكَس ترشيح أوكرانيا شكلاً من التضامن واستُعمِل لإثبات قوة البلد. في المقابل، لطالما كانت دول شمال وشرق أوروبا، التي تدرك حقيقة التهديدات الروسية، أكثر تأييداً لأي توسّع إضافي باتجاه الشرق، لكن ما كانت دول غرب أوروبا لتتنازل لو لم تبدأ الحرب. وعندما قام المستشار الألماني أولاف شولتس، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، برحلة مشتركة إلى كييف في السنة الماضية، اتّضحت استحالة رفض مطالب زيلينسكي من الناحية السياسية. لكن بعيداً عن الضجة الإعلامية، يتابع بعض السياسيين والبيروقراطيين التشكيك بهذه المقاربة.

من المتوقع أن تدرك أوروبا مع مرور الوقت أن تكاليف ترك أوكرانيا على الطرف الآخر من الحدود ستصبح مفرطة بالنسبة إليها، نظراً إلى الروابط الوثيقة بين مظاهر الديمقراطية، والازدهار، والأمن، في القارة الأوروبية. وحتى في أفضل الظروف، كأن تنجح أوكرانيا في تحرير معظم أراضيها وتبدي استعدادها للتفاوض مع روسيا، يبقى السلام المستقر مستبعداً طالما يستمرّ بوتين في منصبه. وقد يبدو هذا الخيار مستحيلاً أيضاً بعد عهد بوتين ولن يتحقق قبل أن تتخلّى روسيا عن طموحاتها الإمبريالية. تتطلب هذه العملية وقتاً طويلاً جداً. حتى لو انتهت الحرب بشكلها الراهن في مرحلة معينة إذاً، من المتوقع أن تليها حالة مطوّلة من انعدام السلام. سيبقى الأمن في أوروبا هشاً، وستصبح أوكرانيا على الأرجح دولة عسكرية كي تتمكّن من الدفاع عن نفسها.

هذا الوضع يشكّك بمساعي إعادة بناء أوكرانيا اقتصادياً وتطوّرها الديمقراطي. لو بقي هذا البلد على الطرف الاستبدادي من الحدود، يصعب أن تشهد كييف مستوىً عالياً من إعادة البناء الاقتصادي وجهود ترسيخ الديمقراطية. ستكلّف إعادة إعمار أوكرانيا عشرات مليارات الدولارات، وتزيد هذه الكلفة مع كل يوم جديد من الدمار المستمر.

يُفترض أن تتحمّل روسيا كلفة جرائم الحرب التي ترتكبها، لكنها لن تفعل ذلك على الأرجح طالما يصمد النظام الحالي في موسكو أو ينشأ نظام مشابه له. بدأ الغرب، لا سيما مؤسسات الاتحاد الأوروبي، يستكشف الأدوات القانونية التي تسمح باستعمال أصول روسيا المجمّدة لإعادة إعمار أوكرانيا، لكن من المستبعد أن تنجح هذه المساعي بالشكل المطلوب. قد تقدّم الولايات المتحدة وبلدان أخرى ذات عقلية مشابهة مساهماتها، لكن تقع معظم مساهمات إعادة الإعمار على عاتق الأوروبيين. لن تكون هذه المسألة ضرورية من الناحية الأخلاقية فحسب، بل إنها تصبّ أيضاً في مصلحة أوروبا الاستراتيجية. أما الخيار البديل الذي يقضي بتحوّل أوكرانيا بعد الحرب إلى دولة عسكرية وتَحَمّل 44 مليون نسمة مشاكل اقتصادية كبرى، فهو يُعرّض أوروبا لمجازفة أمنية هائلة.

لكن سبق وأنفقت الدول الأوروبية مئات مليارات الدولارات على جائحة كورونا وأزمة الطاقة، كما أنها ساعدت أوكرانيا واستضافت اللاجئين الأوكرانيين. يجب أن تتابع إنفاق مليارات الدولارات اليوم لتسريع المرحلة الانتقالية في قطاع الطاقة وتطوير سياسة صناعية لا تُضعِف الاتحاد الأوروبي في ظل المنافسة القائمة بين الولايات المتحدة والصين. يصعب توقّع كيفية تسديد كلفة إعادة إعمار أوكرانيا انطلاقاً من الميزانيات العامة وحدها، إلا إذا بلغ الدين الأوروبي مستويات قياسية.

لتدوير الزوايا، تقضي الطريقة الوحيدة بتطوير إطار عمل يُحفّز القطاع الخاص على تحمّل معظم التكاليف. في ظل تفشي مظاهر انعدام الأمن، يحتاج الوضع إلى ضمانات على مستوى الحوكمة وحُكم القانون كتلك التي تترافق مع الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي، أو ضمانات أمنية كتلك التي يقدّمها الناتو. ستصبح هذه الضمانات ضرورية من الناحية الاقتصادية بالنسبة إلى دول غرب وجنوب أوروبا، وهي تُعتبر مهمّة على المستوى الأمني أيضاً في دول شمال وشرق أوروبا.

تأجّلت خطة التوسّع لسنوات، فقد ظنّ عدد كبير من الخبراء أن أوروبا تستطيع الصمود من دونها. لكن سيدرك الأوروبيون، بما في ذلك أبعد الدول عن الحدود، أنهم لا يستطيعون المضي قدماً من دون تلك الخطة.


MISS 3