د. سيلفا بلوط

الشباب اللبناني في قبضة "الاستلاب" الرياضي!

22 آذار 2023

16 : 00

تتبدّى حاجة المجتمع البشري إلى الرياضة ملحّةً باعتبارها تطال أداء الحياة النفسية وليس فقط الجسدية. وبما أن العلاقة بين الجسدي والنفسي تبدو وثيقة، تمّ دراستها من أجل إظهار مدى التأثير المتبادل للعاملين على بعضهما البعض، ومن ثم انعكاس توازنهما على تكيف الفرد مع محيطه، وخصوصاً من قبل علم النفس الرياضي الذي يهتم بدراسة تأثير العوامل النفسية في الأداء الرياضي، وباتت موضوعاته تشغل مساحة مهمة في المقاربات النفسية.


لقد فرضت الرياضة أهميتها كعامل ضروري ورئيسي لتماسك المجتمع نظراً لما تسهم في استدخاله من قيم إيجابية تتمثّل في العمل الجماعي واحترام الآخر وتقدير أدائه إضافة إلى تقبّل الخسارة والنقد وأيضاً احترام اللعبة والتقيّد بقواعدها .... وهذا ما نقصده بالروح الرياضية التي يجب أن تنسحب على مستويات الحياة كافة، الخاص والعام والسياسي...وليس فقط على الرياضي.


ومن هذا المنطلق، يمكن القول أن الرياضة تتخّذ بعدها الاجتماعي وليس فقط الجسدي والنفسي، لأنها تحتل مكانة بين الوسائط الاجتماعية التي تدخل في عملية التنشئة.


وبما أن الرياضة تشكّل إحدى ركائز ممارسات التنشئة، فإنه تمّ توظيفها من قبل سلطات الدول النامية، ومنها بالطبع السلطة اللبنانية التي عمدت إلى "تسليعها" طائفياً للتمكّن من الحياة الديمقراطية وإضعافها.


تعمّد أرباب السلطة السياسية في لبنان إنهاك الروح الرياضية لأنها تشكل إحدى دعائم المواطنية، فعمدوا إلى سلخها عن روحيتها الديمقراطية وقدّموها "قرباناً"، إن جاز التعبير، لنزعة فاشية بامتياز. بمعنى آخر، أُسقِطت طائفية النظام السياسي على الحياة الرياضية، ودمغت نواديها بهويات مذهبية . فكانت النتيجة أن أصبح لكلّ نادٍ "حشده" المذهبي والسياسي الخاص به الذي يؤدي دوره كمتراس يدافع عنه بشراسة، ويرهِب الحشود المختلفة الأخرى. وبدلاً من أن تكون الرياضة اللبنانية مجمعاً للمواطنين من كل المذاهب، فإنها تحولت إلى أداة فرز تلقائي بحيث تنعكس سياسة المواطن أو مذهبه،تلقائياً، عبر تشجيعه لهذا النادي أو ذاك.


كذلك الأمر، بتنا نشاهد في الملاعب اللبنانية عنفاً من نوع آخر، ويتجلّى في العنف الرياضي الذي يعدّ نتيجة حتمية وطبيعية لعملية استلاب رياضي. ويعني الاستلاب، بشكل عام وبحسب كارل ماركس، العمل على جعل الفرد مغرَّباً وعدوانياً وأيضاً عبداً باسم ظروف أومتطلبات دينية واقتصادية وسياسية.


لقد رأت مافيا السلطة الطائفية في الرياضة وسيلة سهلة للنيل من المواطنية، فحوّلت الملاعب أرضاً خصبة لتأجيج الصراعات في البلاد. وما مكّنها من كل ذلك هوتحويل الجماهير الرياضية بفضل التعبئة المذهب - سياسية إلى حشود "مبرمَجة" لإرهاب الآخرين، بحيث يتم تحريكها عندما تشعر الطائفة بالإرباك والتهديد في مصالحها السياسية.


وإذا ما نظرنا أكثر إلى تأثير خطورة الحشد لوجدنا أنها تتمثل في إضعاف التفكير العقلاني تدريجياً وصولاً إلى إذابته في لاوعي جماعي "مدمَغ" بهويته المذهبية الخاصة به. ولا يخفى من أن السلطة السياسية في لبنان تقصّدت فرز الرياضة مذهبياً لتستطيع القبض على وعي الشباب، واقصاءهم عن قضاياهم الأساسية المتمثلة في التعليم والعمل والضمان.


في كل مرة تجتمع الحشود الرياضية في الملاعب، يكون تفريغ الانفعالات العدوانية الغرائزية سيد الموقف. فيعمد كل حشد إلى إفراغ كل ما "هضمه" من أساليب الترهيب الفكري والاتهام وليس فقط الاعتداءات الجسدية والتكسير ورميه على الجمهور المقابل.


بتعبير آخر، لقد تحولت الملاعب الرياضية إلى "حلبات" تقاتل، بحيث يتم تبادل الاتهامات والتحقير والعمالة، والنتيجة هي تبرئة المسؤول عن سحقها اجتماعياً!


وإذا ما قاربنا هذا التفريغ الذي يجري في الملاعب لوجدنا أنه يحاكي النقلة حيث يعمد الشخص الذي يتلقى جلسات التحليل النفسي من نقل مشاعر معينة يحملها إلى الآخر وإسقاطها على المحلل. بمعنى آخر، ما يحصل هوأن الجمهور يخشى اتهام زعيمه بالمسؤولية، فيعمد إلى نقل مشاعره العدوانية الموجّهة إلى زعيمه تجاه الجمهور المقابل له. في النهاية يظهر زعيمه بطلاً ومنقذاً!.


خلقت التعبئة المذهبية نزعة تدمير الآخر وأيضاً الذات، فتمثلت النتيجة في استبدال ثقافة الحياة بثقافة الموت. وما المشهد الرياضي الذي شاهدناه في الآونة الأخيرة سوى نموذجاً واضحاً عن هذا الاستلاب الرياضي التي تبنّته السلطة السياسية، وطبّقته من منظور طائفيتها لتتمكّن من ذلك إلى تشكيل "قطعان" بشرية!.


وما يجري في الملاعب الرياضية أثناء المباريات ما هوإلا صورة "طبق الأصل" عمّا يحصل في ملاعب السياسة.

خلاصة القول، لجأت السلطة السياسية في لبنان إلى كل الوسائل التي مكّنتها من الإطباق على وعي الشباب اللبناني، فحتى الرياضة لم تسلم من مؤامرتها، فاستنزفت روحها عبرالتعبئة المذهبية، قبل أن تستخدمها أداة لضرب المواطنية والوطنية على حدّ سواء. 

MISS 3