إيمي ج. نيلسون

ثقافة فلاديمير بوتين النووية

30 آذار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

جانب من لقاء سابق بين الرئيسين الروسي بوتين والأميركي بايدن

أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في خطابه أمام الجمعية الاتحادية الروسية في الشهر الماضي، أن روسيا لن تسمح للفِرَق الأميركية بتفتيش ترسانتها النووية بعد الآن. تفرض "المعاهدة الجديدة للحد من الأسلحة الاستراتيجية" (أو معاهدة "ستارت الجديدة") هذا النوع من عمليات التفتيش، وهي عبارة عن اتفاقية ثنائية بين الولايات المتحدة وروسيا للحد من مجموع الرؤوس الحربية النووية وأجهزة التوصيل التي يملكها كل طرف. للتأكد من تطبيق البنود، تتكل المعاهدة جزئياً على تقييمات وفود تأتي من أحد البلدَين لزيارة المنشآت العسكرية في البلد الآخر واحتساب عدد الرؤوس الحربية والقنابل والصواريخ.



خلال أزمة كورونا، توقفت عمليات التفتيش هذه. ومنذ أواخر العام 2022، بدأت الولايات المتحدة تطالب باستئنافها، لكن ترددت روسيا ولم تنشر أي رد رسمي على ذلك الطلب. في شهر شباط الماضي، اتّهمت الولايات المتحدة روسيا بعدم الالتزام ببنود المعاهدة كونها امتنعت عن استئناف عمليات التفتيش ولم تُحدد موعداً آخر لاجتماع هيئة تنفيذ الاتفاقية. ردّ بوتين أخيراً على هذه المسألة خلال خطابه في الشهر الماضي، فقال إن حضور فِرَق تفتيش تمثّل الحكومة الأميركية لزيارة المنشآت الدفاعية النووية الروسية تزامناً مع استمرار الصراع في أوكرانيا هو "استعراض سخيف" (لا يزال بوتين يربط حرب أوكرانيا بالاستفزازات الغربية).

لا يجهل بوتين طبعاً المنافع الأمنية للحد من التسلح، حتى أنه أثبت مراراً وتكراراً أنه يفهم جيداً طبيعة العلاقة النووية بين الولايات المتحدة وروسيا، ويبدو أنه يدرك أيضاً أن البلدَين يستفيدان من معاهدة "ستارت الجديدة". لكنه مقتنع على ما يبدو بأن المنافع السياسية لمعاهدات الحد من الأسلحة تفوق بأشواط منافعها الاستراتيجية. برأيه، يسمح تسييس الحد من التسلح باستهداف الولايات المتحدة بأسوأ الطرق وبتسجيل النقاط داخلياً.

ألقى بوتين، منذ بداية عهده الرئاسي الأول، في آذار 2000، خطاباً أمام العلماء النوويين الروس ودعا فيه إلى تعزيز استقرار الترسانة النووية الروسية وعبّر عن دعمه لعملية الحد من الأسلحة الاستراتيجية. تذكّر بوتين المفاوضات المرتبطة بالمعاهدات السابقة للحد من الأسلحة ("ستارت 2" و"ستارت 3")، لكنه ذكر أيضاً أنه يسعى إلى ترسيخ ذلك الاستقرار "لجعل عالمنا أكثر أماناً وتقليص فائض الأسلحة". أخيراً، أوضح الرئيس الروسي رغبته في متابعة المحادثات لفرض قيود إضافية على الأسلحة الهجومية الاستراتيجية. أثبت بوتين بهذه الطريقة أنه يفهم المخاطر النووية المحتملة ويدرك أهمية الحد من الأسلحة لتقليص نطاقها.

بعد مرور شهرَين، عقد بوتين والرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون قمة للحد من الأسلحة حيث أعاقت الطموحات الأميركية بتعزيز دفاعاتها الصاروخية الشاملة مسار التقدم. خوفاً من تحوّل هذا النظام إلى واقع سياسي أو علمي لصالح الولايات المتحدة، انسحب الرئيس الروسي من أي اتفاق محتمل. وخوفاً من تلاشي فاعلية الأسلحة الهجومية الروسية وتفوّق الولايات المتحدة عبر منحها فرصة توجيه الضربة الأولى بسبب تفضيل واشنطن نظام الدفاع الصاروخي "اللامتناهي"، أثبت بوتين أنه مطّلع على المفاهيم التأسيسية للاستقرار الاستراتيجي المرتبط بالدفاعات المحدودة وأعلن التزامه بها: إذا عجز أحد الطرفَين عن تعريض الطرف الآخر لمخاطر الهجوم النووي، لن يحصل أي دمار متبادل ولن يعود الطرف الذي يملك أقوى الدفاعات قابلاً للردع بالدرجة نفسها.

بعد مرور أربعة أشهر، في أيلول 2000، اجتمع بوتين وكلينتون مجدداً لمناقشة مسائل متنوعة، بما في ذلك الحد من التسلح. كان ذلك اللقاء أكثر نجاحاً، فشَهِد على توقيع وثيقة تُلزِم البلدَين "بتحسين الأمن الاستراتيجي للأسلحة النووية" عبر تقاسم المعلومات. كان يُفترض أن يتشارك الطرفان المعلومات التحذيرية الأولية حول الصواريخ وعمليات الإطلاق الفضائية في مركز جديد ومشترك لتبادل البيانات الأميركية الروسية في موسكو. كذلك، ناقش الرئيسان احتمال عقد مفاوضات حول معاهدة "ستارت 3"، وأوضح كلينتون أن الترتيبات الخاصة بالدفاعات الصاروخية الأميركية ستكون شرطاً مسبقاً لتلك المحادثات، وذكر أن الخطط المتعلقة بالدفاعات الأقل نطاقاً أصبحت قيد التطوير، وهو ردّ على طلب بوتين.

مثلما اعترض الرئيس الروسي السابق ميخائيل غورباتشوف على خطط إدارة ريغان لبناء دفاعات صاروخية شاملة في الفضاء، اعترض بوتين سابقاً على خطط إدارة جورج بوش الأب لبناء دفاعات صاروخية أميركية شاملة، على اعتبار أن هذه الدفاعات قد تجعل نظام الردع الروسي بالياً، علماً أنه نظام محوري للحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي. ثم أعلن بوتين في خطاب ألقاه أمام الأمم المتحدة خلال الأسبوع الذي اجتمع فيه مع كلينتون، أن الوقت حان كي يوقف العالم النقاشات عن أنظمة الدفاع الفضائية واقترح عقد قمة حول هذا الموضوع في السنة اللاحقة.

سرعان ما تغيّرت طبيعة التبادلات الأميركية الروسية بدرجة كبيرة في عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن، مع أن التزام بوتين ببنود الحد من التسلح لم يتوقف. قبل انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للأنظمة البالستية في العام 2001، وبعد عقد اجتماع اتفقت فيه الولايات المتحدة وروسيا على ربط المفاوضات بالأسلحة الهجومية والدفاعية، قال بوتين: "لقد فهمنا من مواقفنا المتبادلة اليوم أننا مستعدون للنظر إلى مسألة الأنظمة الهجومية والدفاعية كحزمة متكاملة".

هدّد بوتين بإضافة رؤوس حربية أخرى إلى صواريخ ذات رأس حربي أحادي إذا تخلّت الولايات المتحدة عن معاهدة الصواريخ المضادة للأنظمة البالستية، وهي خطوة قادرة على إعاقة الدفاعات الأميركية. أثبت بوتين بهذه الطريقة مجدداً التزامه بالاستقرار الاستراتيجي وإدراكه لأهمية الحفاظ على قدرة متساوية لتعريض الولايات المتحدة للمخاطر. لكنه لم ينفذ تهديداته في نهاية المطاف وتلاشت الأزمة المرتقبة.

في العام 2021، أثبت بوتين التزامه بالحد من الأسلحة كوسيلة لضمان الاستقرار الاستراتيجي حين اتفق مع الرئيس الأميركي جو بايدن على تمديد معاهدة "ستارت الجديدة" لمدة خمس سنوات بعد انتهاء مدتها الأصلية التي تبلغ 10 سنوات. ذكر البيان المشترك بين الزعيمَين أن "الولايات المتحدة وروسيا أثبتتا، في زمن الاضطرابات، قدرتهما على إحراز التقدم لتحقيق أهدافنا المشتركة وضمان استقرار المجال الاستراتيجي من خلال تخفيض خطر اندلاع الصراعات المسلّحة وتهديدات الحرب النووية". وعلى هامش مؤتمر المراجعة العاشر لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، في أيلول 2022، التزم بوتين وبايدن بالتفاوض حول معاهدة تَخْلِف "ستارت الجديدة".

نظراً إلى الجهود التي بذلها بوتين للالتزام بهذا المفهوم حين كانت علاقته أفضل حالاً مع الولايات المتحدة، قد يظن الرئيس الروسي أن معاهدات الحد من الأسلحة تحمل قيمة استراتيجية دائمة. لكنه يدرك في هذه المرحلة على الأرجح أن القيمة السياسية لاستعمال معاهدة "ستارت الجديدة" لتحقيق غايات أخرى تفوق منافعها الاستراتيجية.

فيما تمسّكت الولايات المتحدة بالفكرة القائلة إن المعاهدات الثنائية للحد من الأسلحة تقع في نطاق آمن ومُحصّن ضد التقلبات السياسية، يبدو أن بوتين لا يشاركها هذا الرأي. هو يستعمل اليوم معاهدة "ستارت الجديدة" بطريقة سياسية لمضايقة الولايات المتحدة، أو إزعاجها، أو إثارة استيائها، ولتحقيق مصالحه محلياً. لقد حوّل بوتين تلك المعاهدة إلى أداة في حملته الدعائية. هو يفهم بالكامل أهمية الاستقرار الاستراتيجي ومخاطر الانسحاب الكامل من معاهدة "ستارت الجديدة"، لكنه سيتابع المشاركة في لعبة الحد من الأسلحة بقواعده الخاصة، وستضطر الولايات المتحدة للتكيّف مع الوضع في نهاية المطاف.


MISS 3