تأسست جمعية «مؤسسة القرض الحسن» عام 1982، عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وتمّ ترخيصها من وزارة الداخلية اللبنانية عام 1987 بموجب علم وخبر 217/أ.د. ومما لا شك فيه أنّ «حزب الله» عمل ومنذ الثمانينيات على إنشاء مؤسسات مكّنته من بناء اقتصاد خاص به موازٍ للاقتصاد اللبناني، حتى بات يُعرف بـ»الاقتصاد الرديف»، منها «جهاد البناء» و»شركة وعد» و»القرض الحسن» و»النية الحسنة الخيرية» وغيرها. إنّ مؤسسة «القرض الحسن» هي جمعية وليست مؤسسة مصرفية ولا تخضع لرقابة القطاع المصرفي أو الهيئات الناظمة أو مصرف لبنان، بالتالي لا تخضع لقانون النقد والتسليف.
في تشرين الأول 2020، وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية التي كان لبنان وما زال يعاني منها، بادرت مؤسسة «القرض الحسن» إلى تقديم قائمة من الخدمات لزبائنها، فركّبت أجهزة صراف آلي في فروعها، وبدأت ببيع وشراء الذهب مقابل الدولار، إضافةً إلى تخزينها الذهب الخاص بالزبائن مقابل رسوم منخفضة. وعلى الرغم من ارتفاع سعر الدولار، بقيت تدفع كامل حسابات الزبائن مهما كان حجم المبلغ، بعكس المصارف اللبنانية. كما أنّ الجمعية التي تعتبر المؤشر الأبرز للاقتصاد الموازي لـ»حزب الله»، بدأت تنفيذ خطة انتشار في مناطق جديدة، وآخرها في منطقة سوق الغرب في جبل لبنان، وبذلك يكون الفرع الجديد لمؤسسة «القرض الحسن» أوّل فرع ضمن منطقة تختلف بطابعها الديني عن مناطق أخرى يوجد فيها فروع المؤسسة.
في كانون الأول 2020، أقدمت مجموعة من القراصنة الإلكترونيين على اختراق حسابات كل فروع مؤسسة «القرض الحسن»، إضافة إلى حصولها على تسجيلات للكاميرات المثبتة في تلك الفروع. المجموعة التي أطلقت على نفسها اسم «سبايدرز» نشرت لوائح بأسماء المقترضين والمودعين في كل فروع الجمعية، التي تُعتبر مصرف «الحزب» في لبنان ومصدراً رئيساً من مصادر تمويله، إضافة إلى كل التفاصيل المتعلقة بقيمة القروض ونسبة السداد ومعلومات شخصية عن المقترضين وموازنة الفروع والمؤسسة لعامَي 2019 و2020.
وكشفت عملية الاختراق أيضاً عن حسابات المؤسسة في كل المصارف اللبنانية، من بينها مصرف «جمّال ترست بنك» الذي سبق أن طالته عقوبات أميركية عام 2019 بسبب تعاونه المالي مع «حزب الله» ومؤسسة «القرض الحسن» التي تُعتبر أحد أبرز ركائزه الاقتصادية، وتديره من خارج المنظومة المصرفية اللبنانية. وتضمّنت المعلومات المسربة بيانات ما يقرب من 400,000 فرد وكيان، بالإضافة إلى مواطنين لبنانيين عاديين، حيث كشفت الوثائق عن مغتربين وكوادر «حزب الله» ومؤسساته، ومن يسمون «كبار المودعين»، وكيانات إيرانية، والأهم من ذلك البنوك اللبنانية التي خدمت «الحزب».
حظّرت وزارة الخزانة الأميركية أعمال تلك المؤسسة منذ عام 2007، واعتبرت أنها ليست إلا واجهة لـ»حزب الله»، وفي 11 أيار 2021، فُرضت عقوبات جديدة على أفراد مرتبطين بـ»الحزب» و»المؤسسة»، لتُضاف إلى عقوبات أخرى فُرضت سابقاً عليها في 11 نيسان 2016. واعتبرت الخزانة الأميركية أنّ «القرض الحسن تزعم خدمة الشعب اللبناني، لكنها عملياً تنقل الأموال بشكل غير مشروع من خلال حسابات وهمية، وتعرّض المؤسسات المالية اللبنانية لعقوبات محتملة، بالتالي تسهم بتقويض استقرار الدولة اللبنانية».
وأشارت إلى أنّ «مؤسسة القرض الحسن تتنكّر بصفة منظمة غير حكومية بموجب ترخيص ممنوح من وزارة الداخلية وتقدم خدمات مصرفية لدعم «حزب الله»، بينما تتهرب من الترخيص المناسب والإشراف التنظيمي». فمن خلال ادخار العملة الصعبة التي يحتاج إليها الاقتصاد اللبناني بشدة، تسمح المؤسسة لـ»حزب الله» ببناء قاعدة دعم خاصة به وتدمير ثبات الدولة.
تعاظم دور المؤسسة
طرحت خطوات مؤسسة «القرض الحسن» علامات استفهام عدة، لا سيما أنه بالتزامن مع تعاظم دور ونشاط مؤسسة «القرض الحسن» في الآونة الأخيرة، شهدت المؤسسات المالية والعملة الوطنية تدميراً ممنهجاً ومضاربات كبيرة إما عن طريق التلاعب بسعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية في السوق السوداء، أو عن طريق تحركات في الشارع تصوّب سهامها على المؤسسات المالية الشرعية وتجيّش الرأي العام ضدها بهدف إفقاد ثقة الداخل والخارج بهذه المؤسسات، وبالتالي ضرب الإستقرار المالي والإقتصادي أي ضرب إستقرار الدولة اللبنانية... من صرافين غير شرعيين تم توقيفهم في الضاحية الجنوبية لبيروت إلى تكسير عدد من المصارف، وصولاً إلى الإدعاءات القضائية على حاكمية مصرف لبنان والمصارف، وتحميلهم كامل المسؤولية عن الإنهيار المالي الحاصل. واللافت أنّ وراء كل هذه الحركية المعادية للمؤسسات المالية الشرعية فريق واحد هو فريق «الممانعة» أي «حزب الله» وحلفاؤه، رغم أنّ القاصي والداني بات يعلم أن الأزمة سببها السلطة السياسية الحاكمة منذ سنوات، التي إقترضت أموال المودعين وأهدرتها على خطط فاشلة وكهرباء غير موجودة ومعابر غير شرعية ودعم عشوائي وغيرها.
جمعية «القرض الحسن» ليست مجرد مؤسسة منفصلة في الزمان والمكان، وكل ما وضع في سبيل تطوير وتفعيل هذه المؤسسة من تخطيط وتنظيم وجهد مقابل إضعاف وتدمير المؤسسات المالية الشرعية أيضاً ليس مجرد صدفة أو عمل عشوائي. فكما صنع «حزب الله» في لبنان سلاحاً بديلاً وسياسة خارجية بديلة وجسماً سياسياً اجتماعياً كاملاً بديلاً، ها هو يعزز نظامه المالي البديل حتى باتت «القرض الحسن» تدعى «المصرف المركزي لحزب الله». من هنا ضرورة التطرق إلى عقيدة «التيار الشيعي الخميني» الذي إنبثق منه «حزب الله»، لفهم خلفية هذا العمل الممنهج وهدفه.
المثال الخميني
تبعت الحركة الإسلامية الإيرانية في لبنان، المثال الخميني الإيراني في مرحلتين: المرحلة التي سبقت الاستيلاء على الحكم وتقويض الدولة، والمرحلة التي عمل فيها الفريق الخميني على نظم مجتمع موجّه على الحرب الداخلية والخارجية معاً. إن استيلاء آية الله الإيراني على الحكم والمجتمع وإنقلابه على الشاه كان وليد خطط طويلة الأمد، محكمة التدبير.
خرجت التعبئة الخمينية من السر إلى العلن في الأشهر الأخيرة من 1977 عن طريق انتشار منظمات «الدعوة» في معظم أرجاء إيران، وكانت ركيزة المنظمات هذه في المساجد وفي المهديات والحسينيات التي انتقل معظمها إلى أيدي أنصار رجل الدين المنفي إلى العراق، في خاتمة عمل واسع سبق للخميني أن مهد له قبل منفاه. ومن أبرز العناوين التي روّج لها الخميني والتي حملها في محاضراته هي «ولاية الفقيه» أي الطريق الخمينية إلى السلطة (الجمهورية الإسلامية) وسبيل النضال من أجل تشكيل حكومة إسلامية.
بحسب الخميني «لن ينقذ الإسلام، الذي يردّه إلى أمور ثلاثة هي العالمية، التشريعات الاجتماعية وأنظمة الحكومة، سوى العلماء السائرين في طريق المتحدث نفسه». كما ويشير المتحدث أي الخميني على تلامذته «بتدمير الحكومات التي يعتبرها معادية باتباع خطة من أربعة بنود: مقاطعة المؤسسات التابعة للحكومة، ترك التعاون معها، الابتعاد عن كل عمل يعود بمنفعة عليها، تأسيس مؤسسات قضائية، مالية، اقتصادية، ثقافية وسياسية جديدة».
وبذلك، شهد المجتمع الإيراني على إنشاء عدد كبير من المجموعات والشلل والمنظمات التابعة لـ»التيار الخميني»، منها من كان يدرب الشبان على استعمال السلاح وبعضها اختص في عمليات الجهاد والعمليات العسكرية والتظاهرات إلخ... لكن برز من بين هذه المنظمات منظمة «الصف» التي أحرقت 85 فرعاً مصرفياً وسرقت أموالاً عامة، بالإضافة إلى ذلك تم توجيه المجتمع على العداء الخالص تجاه المؤسسات والهيئات الرسمية وعرقلة عملها، فدعت الحركة الخمينية من هم في سن الخدمة العسكرية إلى الهرب من التدريب العسكري، ودعت أصحاب الدعاوى العالقة أمام القضاء إلى ترك الجهاز القضائي الرسمي والتوجه إلى الفقهاء ورجال الدين العلماء، أيضاً حملت الجباة على ترك جباية فواتير الكهرباء والماء والإمتناع عن أدائها إلى إداراتها، كما حضت أصحاب الودائع المصرفية على سحب ودائعهم من المصارف.
التجربة اللبنانية
أليس هذا ما حصل وما زال يحصل في لبنان إن كان بشكل مباشر أو غير مباشر في بعض الأحيان؟
مما لا شك فيه أنّ «حزب الله» الحامل لمشروع «ولاية الفقيه» هو امتداد للثورة الإسلامية الإيرانية وبلسان السيد حسن نصرالله «إن التمويل العسكري والمالي واللوجستي كله من الدولة الإسلامية الإيرانية». فكما الحال في إيران، يحاول «حزب الله» إستنساخ التجربة الخمينية في لبنان، لذلك قامت الحركة الإسلامية الإيرانية في لبنان بتشكيل جسم اجتماعي سياسي مالي لها منفصل عن الدولة، ويتألف هذا الجسم من:
- أولاً، رأس سياسي جامع هو «حزب الله»،
- ثانياً كتلة من المنظمات تجمع العلماء (تجمع العلماء المسلمين في لبنان، هيئة علماء جبل عامل...)،
- ثالثاً كتلة من المدارس الدينية،
- رابعاً خصّت الحركة شهداءها وأسرهم بمنظمتين، وهذا التخصيص بيان عن المكانة التي تحتلها الحركة على الصعيد العسكري،
- خامساً منظمات تنهض بالصلة بعامة الشيعة، فهي نظير المنظمات الجماهيرية في الحركات الشيوعية خاصة. والمقصد منها إنشاء دوائر أوسع من الدوائر السابقة وكلها تفترض علاقة وثيقة ومتينة بسياسة الحركة وعملها.
خلاصة الأمر هي أن الهيئات المختلفة تعمل على الإحاطة بكل وجوه الحياة الإجتماعية، وعلى إنشاء مجتمع نقيض للمجتمع العام والظاهر. إذ ينبغي على جمهور وأنصار الحركة أن ينتقلوا من المهد إلى اللحد من غير الخروج من مرافق المجتمع المسلم مهما كانت الذريعة. ويقول خطباء «حزب الله» إنّ «من ألح مهامهم استكمال إنشاء الهيئات التي تأخذ على عاتقها حياة أمة «حزب الله» من غير أن تترك للخارج، أي للمجتمع العادي والمشترك، دوراً». كما ويزيد الخطباء «إن الدولة التي يسعى الدعاة إلى خلقها لا تستقيم إذا لم يُخلق مجتمع خاص سنداً لها بلبنان، ما يعني مجتمعاً داخل المجتمع ودولة داخل الدولة». لكن الأصل يبقى للثورة والمقاومة الإسلامية، أي الحرب، وما الهيئات المختلفة إلا فروع متفرعة عن هذا الأصل، تخفف بعض نتائج الحرب أو تمدها بوقود جديد.
إذاً بعدما أصبحت الغاية واضحة باتت الوسيلة أوضح، وهي تدعيم دور وإمكانات مؤسسات «حزب الله» على حساب مؤسسات الدولة الشرعية، وما نشهده من «قرض حسن» وسلاح خارج الشرعية وسياسة خارجية خاصة وتهديد وتعطيل القضاء وغيرها، ليست إلّا محاولات ممنهجة لفرض أمر واقع معيّن واستبدال كل القطاعات والاطر المكونة للدولة إحقاقاً للمجتمع النقيض والعقيدة الخمينية.
(*) باحث في مركز الشرق الأوسط للأبحاث والدراسات الاستراتيجية- MEIRSS