عقيل عباس وشايان طالباني

قصة العراق لم تنتهِ بعد

3 نيسان 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

متظاهرون يحتجّون على قرار البرلمان العراقي لتعديل قانون انتخاب مجالس المحافظات | المنطقة الخضراء، بغداد، 27 شباط ٢٠٢٣

غالباً ما تُركّز تحليلات غزو العراق في العام 2003 على الإخفاقات الأميركية السابقة أو تحوّل "العراق الجديد" إلى جزءٍ من نطاق النفوذ الإيراني. نتيجةً لذلك، تنتشر نظرة شاملة عن العراق في الغرب انطلاقاً من مفهومَين بسيطَين: قدرة البلد على التحول إلى شريك جدير بالثقة في خضم المعركة على الإرهاب، واستعداده للتصدي لإيران.

لكن تغفل التحليلات الغربية النموذجية عن مكامن القدرات الديمقراطية الحقيقية في العراق: هي تكمن فعلياً داخل مجتمع عراقي متنوّع بدأ يرسّخ نفسه عبر التمسك بموقف يتحدى حكّامه ويبحث عن طرق سلمية لإصلاح نظامٍ منهار من دون أن يعرف بالضرورة نقطة انطلاق هذه الإصلاحات أو كيفية تطبيقها.

تمرّ شرائح المجتمع بمعظمها في الوقت الراهن بعملية بطيئة من النضج السياسي، وهي تستفيد بدرجة كبيرة من خصائص ديمقراطية أصبحت ممكنة بعد سقوط نظام الزعيم العراقي السابق صدام حسين. لم تتبلور الرؤية المثالية المُعدّة للعراق بعد العام 2003 بالشكل المتوقّع، لكن يُفترض ألا يكون هذا المعيار العامل الوحيد لتقييم وضع العراق راهناً أو لاختيار السياسة التي تسمح بتحقيق تلك الرؤية مستقبلاً.

استناداً إلى معايير الديمقراطيات الراسخة، تتعلق الميزة الديمقراطية الأولى في العراق بحرية التعبير النسبية التي يستعملها العراقيون ويدافعون عنها رغم جميع التحديات، ما يسمح لهم بانتقاد الحكومات والأحزاب والاطلاع على مختلف الآراء ووجهات النظر، فيتمكنون بذلك من مقارنة واقعهم السياسي مع دول أخرى. هذه الميزة أنتجت خيبة أمل مفيدة وأطلقت مساراً تصحيحياً بطيئاً بدأ يسلّط الضوء على هشاشة الوضع السياسي الراهن في العراق.

بدأ معظم العراقيين الذين شاركوا بكل سرور في انتخابات العام 2005، حين شهد البلد أول استحقاقَين انتخابيَين ديمقراطيَين، يشكّكون بالمرشحين والأحزاب المطروحة اليوم، ومن حقهم أن يشككوا بمنافع سياسة الهوية التي تحرمهم من نزعتهم الفردية.

تعجز الطبقــــة السياسية الراهنـــة في العراق عن إحداث التغييرات المطلوبة على المستوى البنيوي، فهي غارقة في الفساد والاقتتال الداخلي لدرجة أن تفشل في تطبيق أي إصلاحات مؤثرة. ينجم هذا الوضع عن تقسيم المناصب الحكومية المرموقة على الأحزاب الحاكمة التي تعمد لاحقاً إلى إنشاء مناصب اقتصادية داخل مؤسسات الدولة لاستنزاف الأموال العامة.

لا يتباطأ مسار العراق اليوم بسبب قرارات تم اتخاذها منذ عقدَين إذاً، بل نتيجة المواقف المتردّدة والمخالفات المرتكبة اليوم.

تتعلق الميــــزة الديمقراطية الثانية بآلية انتخابية تسمح بتناوب السلطة بشكلٍ دوري، مع أن هذه المهمة تبقى شائكة. رغم الجهود الرامية إلى إفساد هذه المقاربة وتحويلها إلى إجراء شكلي لإعادة الأحزاب الحاكمة نفسها إلى السلطة، صمدت تلك الآلية وتحسّنت على مستويات معيّنة، وقد اتّضح ذلك خلال الانتخابات البرلمانية، في تشرين الأول 2021. خسرت أحزاب كبرى في هذه الانتخابات، وكانت لتخرج من السلطة لولا مقاطعة الاستحقاق على نطاق واسع.

بقيت تلك الأحزاب في السلطة نتيجة خليط من الجهود التي بذلها السلك القضائي العراقي المتواطئ، وأسلوب الإكراه الإيراني القوي، وتهديدات الميليشيات، واستعمال القوة. نجحت هذه الأحزاب الآن في استبدال القانون الانتخابي الذي هدّد احتكارها السلطة عبر طرح نسخة معدّلة من قانون سابق يخدم مصالحها، فتلاشى بذلك مكسب كبير حقّقته الحركة الاحتجاجية في العام 2019، حين أصرّت على إجراء انتخابات عادلة تعطي الأحزاب الصغيرة فرصة المنافسة في الانتخابات.

لكن قد تتعثّر جهود الأحزاب الحاكمة. على مرّ سنوات من سوء الحُكم وسوء الإدارة الاقتصادية، نشأت معارضة شرعية. منذ العام 2011، بدأت الخيبات المتراكمة تؤجج الاحتجاجات في أنحاء البلد، بدءاً من إقليم كردستان في الشمال وصولاً إلى الجنوب. سرعان ما ترسّخت تلك الخيبات وانفجرت بين العامين 2019 و2020 على شكل احتجاجات واسعة عُرِفت باسم "حركة تشرين" لأنها بدأت في شهر تشرين الأول وحصدت دعماً وطنياً واسعاً. شكّلت تلك الاحتجاجات أول فرصة حقيقية لتطبيق إصلاحات جدّية من أعلى المراتب إلى أسفلها، وكانت تهدف إلى تفكيك السياسات الطائفية الراهنة والفاشلة وفرض سياسة مبنية على معيار الجدارة، حيث تتعرض النخبة الحاكمة للمساءلة ويتم تقييمها بناءً على إنجازاتها، لا هويتها.

تعرّضت حركــة تشرين للقمع عن طريق العنف وتمّت شيطنتها سياسياً من جانب النخبة الحاكمة والميليشيات المتحالفة معها (بدعمٍ من إيران)، لكنها بدأت تعيد تنظيم نفسها ببطء تمهيداً للتحول إلى أحزاب سياسية تستطيع المشاركة في الانتخابات المستقبلية، بعدما تعلّمت من أخطائها حين دعت إلى مقاطعة شعبية للاستحقاق الانتخابي ورفضت طرح أي مرشحين في انتخابات تشرين الأول 2021.

لكن أنتجت تلك الانتخابات، التي سجلت مشاركة ضئيلة واعتراضية من حركة تشرين، نتائج واعدة حيث حصد مرشحون مستقلون أو تابعون للحركة الاحتجاجية حوالى 50 مقعداً برلمانياً من أصل 329. تفاجأ المواطنون والمراقبون، وحتى النخبة السياسية، بنتائج الانتخابات. سبق ونظّم هذا الجزء من أعضاء المجلس، بالتعاون مع جهات أخرى، حركة مقاومة شرسة للاعتراض على قانون الانتخاب الذي تم تمريره حديثاً، فأجبرت الأحزاب الحاكمة على تقديم تنازلات جدّية رغم عجزها عن منع تمرير القانون.

من المنتظر أن تحصل انتخابات مهمة أخرى في شهر تشرين الثاني من هذه السنة، حيث يختار الناخبون مجالس المحافظات لإدارة مناطقهم. كان البرلمان قد علّق عمل تلك المجالس المنصوص عليها في الدستور، في العام 2019. انتهت ولايتها الانتخابية الممتدة على أربع سنوات في العام 2017 رسمياً، لكن عجز البلد عن إجراء انتخابات جديدة في تلك الفترة بسبب الحرب ضد تنظيم "داعش" الذي دمّر المدن وهجّر ملايين الناس. نتيجةً لذلك، تابعت المجالس حُكم المحافظات من دون تفويض ديمقراطي إلى أن علّق البرلمان عملها أخيراً.

ستكون هذه الانتخابات اختباراً جدّياً للقوى المستقلّة والجديدة التي تنبثق من الحركة الاحتجاجية. وقد يصبح أداء الحكومة، التي لا تزال تمثّل نخبة الحرس القديم، اختباراً حاسماً لقدرتها على تنفيذ وعودها الإصلاحية إذا نجحت في إجراء انتخابات نزيهة. لكن يتعلق أهم عامل بمشاركة الناخبين: تعني المشاركة الواسعة نسبياً تجديد جزءٍ من الثقة بالعملية الانتخابية.

عملياً، يشهد العراق حالة من الغليان. يتقاتل العراقيون داخلياً على مستقبل البلد، وهويته السياسية، والترتيبات الرسمية لاستعمال السلطة فيه. يدور هذا الصراع بين القوى الليبرالية والمحافظة، حيث تتابع النخبة الحاكمة القديمة والقوى الشابة الناشئة في حركة تشرين البحث عن تمثيلها السياسي والمؤسسي.

يجب ألا يقف المجتمع الدولي على الهامش ويكتفي بمراقبة هذه المعركة تزامناً مع تقييم أحداث الماضي، لا سيما بعثة الأمم المتحدة في العراق، والولايات المتحدة، والدول الأوروبية. بل يجب أن يحاول تشجيع العراقيين، الخائبين في معظمهم، على الانخراط في السياسات الانتخابية المحلية. يمكن تحقيق هذه الغاية بثلاث طرق.

أولاً، يجب أن يتابع المجتمع الدولي استثماراته في العراق عبر المؤسسات الدولية وبرامج المانحين، ويكثّف تواصله مع رجال الأعمال والقادة الشباب الذين يسعون إلى فرض التغيير رغم الظروف السياسية الصعبة.

ثانياً، يجب ألا يتجاهل المجتمع الدولي تصرفات الدولة والميليشيات الموالية لإيران تجاه المحتجين في حركة تشرين. قُتِل حوالى 600 محتجّ وأصيب آلاف آخرون خلال الانتفاضة بين العامين 2019 و2020. ورغم الوعود الرسمية التي أطلقتها الحكومة العراقية حول محاسبة المسؤولين عن تلك الارتكابات، لم يُسَق أحد إلى العدالة. يُفترض ألا يشعر المسؤولون العراقيون بأنهم محصّنون ضد العواقب القانونية والسياسية للقمع الذي سمحوا به. إنه عامل مهم للحفاظ على نقاش سلمي عن طريق الأدوات الانتخابية للنظام. يؤدي الرد على الاحتجاجات السلمية بالعنف إلى عزل المحتجين الغاضبين تدريجاً ودفعهم إلى البحث عن حلول عنيفة خارج النظام الرسمي.

ثالثاً، يجب أن يسعى المجتمع الدولي إلى مراقبة قواعد اللعبة الانتخابية وضمان احترامها، حتى لو اكتفى بتقديم الدعم الشفهي، فلا يسمح بتغيير تلك القواعد بما يصبّ في مصلحة اللاعبين الأكثر نفوذاً. إذا كان المجتمع الدولي يهتمّ بنشوء عراق ديمقراطي ينبثق من جهود العراقيين ونضالاتهم، يجب أن يعرف أن مسار الانتخابات الأخيرة، حين مُنِعت الأغلبية من تشكيل حكومة، قد يطرح مشكلة في أي انتخابات مستقبلية.

يسهل أن نعتبر العراق قصة فاشلة لأن وسائل الإعلام الغربية لا تتكلم عن هذا البلد إلا في ذكرى الحرب. لهذا السبب، يجب ألا يكتفي المجتمع الدولي بإعادة تقييم ما حصل منذ عشرين سنة ويراقب العراقيين وهم يناضلون لبناء ديمقراطية حقيقية، بل يُفترض أن يستثمر في مستقبل العراق، لا سيما فئة الشباب التي تطالب بتشكيل حكومة تمثيلية ونشوء خدمات ومؤسسات فاعلة تزامناً مع حماية التعددية. لقد تغيّر المجتمع العراقي بشكلٍ جذري منذ العام 2003، وتتعلق المسألة الأساسية الآن بقدرة المؤسسات السياسية المحلية على مواكبة هذا التغيير.


MISS 3