كيف أصبحت الصين رائدة عالمياً في مجال الطاقة الخضراء؟

11 : 56

لم تكن الصين يوماً من أكثر الجهات حماسةً تجاه الاتفاقيات المناخية الدولية، لكنها قد تتمكن من إنقاذ الكوكب في نهاية المطاف. خلال عشر سنوات تقريباً، أصبحت الصين الأولى عالمياً في مجال السيارات الكهربائية، والطاقة المتجددة، وتخزين الطاقة. ورداً على بيئتها السامة وانحسار يدها العاملة والمخاوف الأمنية من فرط الاتكال على الخارج، تبنّت بكين سياسة صناعية خضراء تتّسم بالسخاء والصرامة في آن.


أقدمت الصين على هذه الخطوة لحل مشاكلها الخاصة، وتلقّت مساعدة كبرى من شركات ومستثمرين في اليابان والغرب، لكنّ النتائج تفيد الجميع. حتى الآن، لا يزال قطاع الطاقة الخضراء الصيني على ارتباط وثيق بأنظمة اقتصادية مختلفة جداً في آسيا والغرب. في المقابل، تُهدد سياسة واشنطن المبنية راهناً على "فصل" الأنظمة الاقتصادية الغربية عن الصين بإعاقة ابتكارات التكنولوجيا الخضراء مع أننا بأمسّ الحاجة إليها اليوم. نتيجةً لذلك، قد تتأثر البيئة سلباً، لا في الصين فحسب، بل في أنحاء العالم أيضاً.

تبني الشركات المملوكة للدولة وبعض الجهات الخاصة في الصين شبكة محلية من محطات الشحن وتشهد الابتكارات المرتبطة بتخزين البطاريات على مستوى الشبكة في السيارات والشاحنات ازدهاراً متواصلاً. كذلك، أصبحت أبرز شركات السيارات، على غرار BYD، من أهم شركات تصنيع البطاريات أيضاً. وأصبح قطاع البطاريات الصيني اليوم رائداً في السوق، وحقق قطاع إعادة تدوير البطاريات المكانة نفسها. تسهم إعادة تدوير البطاريات في تخفيف التلوث والاتكال على المواد الخام الخارجية. تُعتبر هذه القطاعات الخضراء عالمية من حيث الحجم والنطاق، وقد حققت الصين هذه الإنجازات كلها خلال أقل من عقدَين.


تعاون دولي

لم تكن ثورة الصين البيئية معزولة بأي شكل. بل شاركت شركات أميركية وأسترالية وكندية ودنماركية وألمانية ويابانية وغيرها من الجهات غير الصينية في قطاع التكنولوجيا الخضراء الصيني منذ البداية ولا تزال مساهماتها مستمرة حتى الآن. لكن لم تكن تلك المساهمات عبارة عن نقل قسري لوسائل التكنولوجيا. بل أدى تراجع تكاليف اليد العاملة الصينية، وانخفاض المعايير البيئية، والانفتاح على شركات التصنيع الأجنبية، إلى جانب ارتفاع الطلب بفضل خطط الدولة، إلى نشوء سوق للابتكارات والإنتاجات الخضراء غير الصينية، وهو سوق لم يكن موجوداً سابقاً.

عملياً، نظّمت الصين قطاع الطاقة الخضراء العالمي عبر تخفيض التكاليف الأولية وإنشاء طلب اصطناعي. اليوم، باتت أهم شركات تصنيع السيارات الأميركية والألمانية واليابانية (تُشكّل مجتمعةً معظم القطاع عالمياً) تشارك بنسبة كبيرة مع الشركات الصينية في تصنيع السيارات الكهربائية وتشغيلها. تملك شركةBYD حوالى 90% من سوق الحافلات الكهربائية العالمية وستشارك حتماً في معظم المدن التي تحمل خططاً بيئية للنقل. تُعتبر شركات CATL و BYDو Guoxuan High-Tech من أهم منتجي بطاريات السيارات الكهربائية في الصين، وهي تملك مشاريع مشتركة أو عقوداً مهمة مع شركات سيارات غربية بارزة. تعمل CATL راهناً على بناء مصنع للبطاريات في ألمانيا.تطغى ترتيبات مماثلة على القطاعات العاملة بالرياح والطاقة الشمسية. تملك شركة Envision الصينية البارزة لتصنيع توربينات الرياح مشروعاً مشتركاً مع Total الفرنسية، وقد اشترت وحدة بطاريــات السيارات مــن Nissan Motors.

تأسست Canadian Solar، أكبر شركة إنتاج للألواح الشمسية في أميركا الشمالية، على يد شخص كان شاهداً على الثورة الثقافية وعمل لوقتٍ طويل مع الشركات الصينية المملوكة للدولة. معظم فِرَقها الإدارية وأقسام التصنيع موجودة في الصين.في ما يخص الابتكارات الخضراء، يحصل نقل التكنولوجيا في الاتجاهين.

عمدت شركة Tesla حديثاً إلى استعمال بطارية طويلة المدى وخالية من الكوبالت كانت قد أنتجتها CATL بعد سنوات من الأبحاث والتطوير. تأمل شركتاFord و Toyotaفي جلب السيارات الكهربائية إلى الأسواق الأميركية واليابانية والأوروبية في نهاية المطاف بفضل استثماراتهما الراهنة في شركات السيارات الكهربائية الصينية. بدأت واحدة من أهم شركتين أميركيتين في مجال الألواح الشمسية مشروعاً صناعياً مشتركاً في المكسيك مع شركة صينية تضيف ابتكاراتها الخاصة إلى المشروع. باختصار، يحتاج العالم إلى نجاح الصناعة الخضراء الصينية.


شبكات خضراء

لطالما كان الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين جزءاً من حرب تكنولوجية محتدمة، وتُعتبر المعركة المحيطة بشركة Huawei وشبكة الجيل الخامس الأشرس على الإطلاق. من الإيجابي أن نظن أن قطاع التقنيات الخضراء كله لا يزال على مسافة آمنة من الاضطرابات وأنه سيتابع تحسين مصادر الطاقة المستدامة حول العالم، بغض النظر عن التطورات الحاصلة في شبكة الجيل الخامس ومراقبة البيانات ومجالات أخرى مشابهة. لكنّ العكس صحيح!


وضعت الخطط الصينية في آخر خمس سنوات تطوير السيارات الكهربائية وذاتية القيادة على رأس أولوياتها. تقوم أبرز شركات التكنولوجيا الصينية، على غرار Baidu (محرك بحث)، و Tencent(موقع للتواصل الاجتماعي والألعاب على الإنترنت)، و Xiaomi (شركة هواتف)، و Alibaba (تجارة إلكترونية ومعاملات مالية إلكترونية عن طريق Ant Financial)، باستثمارات كبرى في مجال السيارات الكهربائية وقطاعات أخرى ذات صلة. حذا أهم أصحاب المشاريع الرأسماليين وصانعي الرقائق من غير الصينيين حذوها، منها شركةFoxconn التايوانية و Qualcommالأميركية العملاقة، وحتى Huawei: منذ العام 2017، تقيم شركة الاتصالات هذه شراكات مع مؤسسات صينية لتصنيع السيارات الكهربائية، على غرار BAIC، وشركات أجنبية مثل Audi.

لقد صبّ قطاع التكنولوجيا الصيني تركيزه على السيارات الكهربائية إذاً. إنه عامل أساسي لتفسير سبب تنامي القطاع بهذه السرعة: سمحت له أموال التكنولوجيا والمشاريع بتطوير الابتكارات بمعزل عن القطاعات العاملة بالبنزين. ويُعتبر هذا الطابع المستقل للمشاريع جزءاً من الأسباب التي دفعت أهم شركات السيارات والشاحنات والحافلات إلى إقامة شراكات مكثفة مع الشركات الصينية المبتدئة. هكذا قدّمت الصين وسيلة فاعلة لتجديد قطاع صناعة السيارات عالمياً وتحسين المبادرات الصديقة للبيئة مستقبلاً. 

ما كان القطاع ليتخذ هذا المسار على الأرجح، أو ليس بالوتيرة الراهنة على الأقل، لو أنه تابع التحرك وحده. يبرز استثناءان على القاعدة، وهما شركتا Tesla وGoogle اللتان أطلقتا جهوداً شاقة لإنتاج سيارات ذاتية القيادة. لكن حتى Tesla تحولت حديثاً إلى واحدة من أهم شركات السيارات الكهربائية الرائدة في الصين بفضل المساعدات المالية الصينية طبعاً وغداة فرض رسوم جمركية صينية على السلع الأميركية نتيجة الصراع التجاري القائم. لطالما كان تجنب حاجز الرسوم الجمركية دافعاً بارزاً للقيام باستثمارات خارجية مباشرة، أقلّه منذ أن أدخلت الرسوم الأميركية في القرن التاسع عشر الاستثمارات الأوروبية إلى بلدٍ كان يُعتبر حينها متخلفاً. في مطلق الأحوال، لا يمكن فصل الابتكارات الصينية الخضراء عن شركات التكنولوجيا العملاقة التي تثير قلقاً شديداً في عدد كبير من العواصم في شرق آسيا والغرب. ومن المتوقع أن تؤدي أي حرب تكنولوجية مطوّلة إلى عواقب بيئية.


أضرار جانبية


يطمح قطاع التكنولوجيا الصيني راهناً إلى ابتكار "إنترنت بشبكة الجيل الخامس للسيارات"، بناءً على نظام الذكاء الاصطناعي، على أن تكون هذه التقنية مزوّدة بقوة محوسبة أساسية داخل مراكز بيانات ضخمة. لم تتأكد بعد فاعلية الإنترنت بشبكة الجيل الخامس للسيارات كخطة مهنية بحد ذاتها، لكنّ المغزى الفعلي من المشروع مختلف. نادراً ما يكون الرابط بين هدف الاستثمار في الابتكارات التكنولوجية والنتائج المُحققة وثيقاً. أُهدِرت أموال طائلة بسبب مدّ كابلات الألياف البصرية حول العالم. وحين اشترت WorldCom قطاع الكابلات غير المربح من MFS، أصبحت بذلك أكبر مالكة للكابلات في العالم قبل إفلاسها في العام 2002 (اعتُبر حينها أكبر إفلاس في تاريخ الولايات المتحدة). لكن نتيجةً لذلك، نشأت بنية تحتية خاصة بالاتصالات وأصبحت خدمات الإنترنت متاحة للعالم أجمع، ما ساهم في إحراز تقدّم تكنولوجي وصناعي لم يكن يتخيّله المستثمرون الذين حققوه، حتى لو لم يكسبوا منه الأرباح.

قد تتخذ ثورة الطاقة الخضراء في الصين منحىً مشابهاً. أو ربما تؤدي الرهانات المفرطة على سيارات الركاب ذاتية القيادة والمتصلة بشبكة الإنترنت مثلاً إلى حالات إفلاس أخرى وتدمير القدرة على تصنيع سيارات كهربائية أو انحسار الاستثمارات في مجال التكنولوجيا الخضراء. لكن على عكس ما حصل عند انهيار شركة WorldCom، سيتدهور وضع كوكب الأرض بشدة إذا فشل هذا القطاع.

يحمل التقدم الصيني في مجال التكنولوجيا الخضراء منافع عالمية يجب ألا يستخف بها صانعو السياسة، سيما وأنّ الأضرار الجانبية المترتبة عن الحرب التكنولوجية الأميركية الصينية لن تفيد أحداً. لذا سيكون فصل القطاعات الغربية عن هذه التطورات خطوة غير منطقية ومخادعة. اعتبر وزير الاقتصاد الألماني، بيتر ألتماير، أن شركات السيارات الألمانية تحتاج إلى بدء تصنيع بطارياتها الخاصة للسيارات الكهربائية. لكن إذا كثّفت ألمانيا مشاريعها لابتكار بطاريات ذاتية، ستتخذ هذه الخطوة بعد عشر سنوات من التعاون مع شركات صينية مبتكرة، مثل BYD وCATL. لا يختلف الوضع كثيراً على مستوى الألواح الشمسية أو توربينات الرياح أو تخزين الطاقة بالشبكات. كان التقدم الصيني في مجال التكنولوجيا الخضراء أحد الأسباب التي جعلت الأنظمة الاقتصادية الصناعية القديمة تنجح لهذه الدرجة في تقليص آثار الكربون في الاقتصاد العالمي. ليس الوقت مناسباً إذاً لإبطاء هذا المسار!