محمد دهشة

نساء "مهمشات" في صيدا: "حيكوا" الثياب... وحكايات نجاح من أجل العيش بكرامة

7 آذار 2020

03 : 20

عائلة كبيرة في "مشغل الأم"

كل عام، يشكل "يوم المرأة العالمي" في الثامن من آذار، مناسبة لتسليط الأضواء على واقع المرأة في المجتمع اللبناني، تتناقل حكايات كثيرة عن نساء نجحن في حياتهن وبتن مؤثرات في المشاركة مع الرجال وفاعلات في اتخاذ القرار، في المقابل فرصة لاخراج أخريات "مهمشات" الى النور من بيوت مظلمة، عاندتهم ظروف الحياة، عملن بصمت، ونجحن بتربية عائلاتهن بفخر، في "مشغل الام" في صيدا الذي يعتبر تجربة رائدة وفريدة في تمكين النساء للاعتماد على انفسهن للكثيرات منهن..

كابوس الحياة

لم تتوقع الحاجة هناء سليم قبلاوي (61 عاماً)، أن تتحول أحلام صباها الوردية الى كابوس مثقل بالهموم والشجون، حين تزوجت من شريك عمرها أنيس أحمد خاسيكة، ولكنها لم تعش معه سوى ست سنوات، إذ قتل خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982 وهي ابنة الـ 24 ربيعاً، مخلفاً وراءه عائلة مؤلفة من ثلاث بنات صغار: فاطمة الكبرى، ميساء ومروة الصغرى، بدأت معهن رحلة حياة ملؤها الضنك وشظف العيش.

وسط عشرات النساء اللواتي فقدن المعيل، تجلس "أم فاطمة" على كرسي أمام ماكينة خياطة كبيرة، تطرز أشغالاً مختلفة من الثياب، تتنهد بحسرة وهي تستعيد ذكرياتها الأليمة وتقول: "بعد مقتل زوجي واجهت الحياة وحيدة، دخلت معتركها ولم أكن أعرف شيئاً عنها، فجأة وجدت نفسي مسؤولة عن عائلة، تهجرت من عبرا، وعدت الى منزل والدي في صيدا، وبدأت العمل والكفاح في مسيرة طويلة لم تنتهي بعد.


وتضيف هناء التي لم تأخذ من إسمها شيئاً من السعادة، "في السنوات العشر الاولى لم أستطع العمل، كنت أهتم بتربية بناتي، ثم تعلمت دورة خياطة في "مشغل الأم" العام 1994 وعملت فيه منذ ذلك الوقت، اعتمدت على نفسي في تأمين المصروف وتعليم البنات، كي لا أحتاج أحداً، ما زلت أتذكر فرحتي الكبيرة عند قبضت اول راتب ودخلت الى المنزل أحمل الفرح والسعادة والالعاب والهدايا.


الحاجة نجاح الغزاوي



بعد أكثر من ربع قرن من الزمن والعمل، تفتخر "أم فاطمة" انها نجحت، رغم كل الظروف المعيشية الصعبة وقلة المال والحيلة في تعليم بناتها حيث كانت تمر عليها أيام تكاد تؤمن قوت اليوم، تؤكد "هم كل شيء في حياتي، وعيوني التي أرى فيها، وأحلامي لم تضع سدى، فقد حصلت فاطمة على "ماجستير" في علوم البيولوجي، ومروة على شهادة هندسة في الاتصالات، بينما ميساء درست في الجامعة وتزوجت، هن الآن يتوزعن بين لبنان والولايات المتحدة الاميركية وكندا مع ازواجهن، لقد بات لي الكثير من الاحفاد وانا فخورة بهم جميعاً"، لتختم "لست نادمة على شيء وعمري قدمته هدية لعائلتي كي لا يحرموا من شي كما حصل معي".

مشغل الأم

في "مشغل الأم" التي تشرف عليه الرعاية (الهيئة الاسلامية للرعاية)، وهي من أبرز المؤسسات الاهلية والخيرية في صيدا، يلتقي صباح كل يوم عشرات النساء اللواتي فقدن المعيل ويشعرن انهن "مهمشات"، المشغل يشكل "العائلة الكبرى" في حياتهن، هو تجربة رائدة خاصة بالنساء، أسس منذ أكثر من 25 عاماً بهدف تمكينهن بكل فئاتهن (المطلقة، الأرملة وكبيرة السن والوحيدة والمتسربات) من العمل والاعتماد على النفس، بل ومساعدة عائلتها بعيداً عن العوز والسؤال.

وتقول مديرة المشغل وفاء وهبة لـ "نداء الوطن"، ان المشروع يتضمن "مشغل الأم" و"سوق الخير"، كان حبة قمح وبات سنبلة توزع الخير، كبر بالتفاني بالعمل، بالجهد والعرق والمثابرة، بدأنا في قلب صيدا وانتقلنا الى البرامية، وضعنا نصب أعيننا هدفاً سامياً عنوانه "تمكين النساء" من العلم والعمل، والتي لا نستطيع مساعدتها في العمل، ندربها في "معهد الخياطة" ونقدم لها ماكينة مجاناً كي تعمل في بيتها وتعيل نفسها وعائلتها وذلك بدعم من رئيس البلدية محمد السعودي.

وتضيف "اليوم اصبحنا عائلة كبيرة، لدينا 40 عاملة لبنانية وفلسطينية وخلال الازمة السورية انضمت الينا نساء سوريات أجبرتهن ظروف الحرب على الهجرة، خمسة منهن عدن الى سوريا أو هاجرن الى دول أوروبية، ولدينا 25 متدربة في معهد الخياطة"، مضيفة "ان انتاجنا مستمر ولا يتكسد ولا يتكدس، اذ نقوم بإعداد زي "المدارس والمطاعم والمستشفيات" بشكل دوري، وهذه البضاعة سوقها مستمر بل وعليه طلب، علماً ان مشروعنا الاساس كان تخصصياً في ثياب الحاج والعمرة.



رانيا دندشلي


نجاح الغزاوي ورانيا دندشلي

داخل المشغل، تنهمك العاملات في خياطة الثياب، الحاجة نجاح الغزاوي (67 عاماً)، أم لثلاثة اولاد: مازن، لمى ومحمد، ما زالت قادرة على العمل والعطاء لانها تعشق المهنة، تقول "لقد توفي زوجي منذ سنوات، فوجدت نفسي مضطرة للعمل كي أعيش بكرامة مع عائلتي، كانت لدي العزيمة والاصرار على تحويل الفشل الى نجاح، فتعلمت الخياطة منذ صغري، وكان عمري 15 عاماً، بدأت الخياطة في البيت، الى ان تعرفت على "مشغل الام" وعملت فيه منذ 18 عاماً، بهدف مساعدة زوجي في تأمين مصروف العائلة حيث كان عاملاً مياوماً، بينما ظروف الحياة صعبة والغلاء وارتفاع الاسعار يأكل كل الليرات والحمد لله نجحت في ستر نفسي وتربية عائلتي".

ولا تختلف حكاية رانيا دندشلي كثيراً عن "نجاح"، تزوجت من محيي الدين اليمن وأنجبت منه ثلاث بنات: آمنة، ربى وريم، أصيب باكراً بمرض "الزهايمر" الى ان وافته المنية، تقول "لقد أفنيت سنوات حياتي في العمل، كان عمري 17 عاماً حين تعلمت الخياطة في جمعية "المواساة" وعملت فيها لفترة من الزمن، ثم انتقلت من معمل خياطة الى آخر، الى ان تزوجت وانجبت، ثم عدت الى العمل في العام 2001، بعدما اجبر المرض زوجي وهو كهربائي سيارات من ملازمة المنزل، واستقر بي الحال في "مشغل الام" منذ العام 2017، بهدف تأمين مصروف العائلة، فمتطلبات الحياة كثيرة وقد ساعدني اشقائي وعدت الى منزل اهلي توفيراً للمصروف ومسيرة عملي طويلة لرعاية البنات وتعليمهن.