حتشبسوت... الملكة التي أرادت أن تكون ملكاً!

13 : 22

على مر العصور القديمة، كانت حتشبسوت المرأة الوحيدة التي بلغت أعلى مقاليد السلطة، فاعتلت عرش مصر في القرن الخامس عشر قبل الحقبة المعاصرة. وتماشياً مع متطلبات منصبها، عمدت تدريجاً إلى إخفاء معالم أنوثتها.نادراً ما كانت الحضارات القديمة تتحمل أن تحكمها امرأة. لا يجد المؤرخون أي أثر لامرأة حكمت لوقتٍ طويل في العصور القديمة، لا في حوض البحر الأبيض المتوسط، ولا في الشرق الأوسط، ولا إفريقيا، ولا آسيا الوسطى، ولا شرق آسيا، ولا العالم الجديد. كي تستلم المرأة الحكم، كان يُفترض أن تؤدي حرب داخلية إلى فراغ في السلطة أو أن يغيب الورثة الرجال لضمان استمرارية السلالة.في العصور القديمة، نجحـت حتشبسوت وحدها في تنظيم عملية وصولها إلى العرش بطريقة منهجية في أوقات السلم. لا يمكن وصفها بالملكة مع أن منصبها يوحي بذلك. لكن منذ وصولها إلى العرش، لم يكن ممكناً التعريف عنها إلا بصفة "الملك". في اللغة المصرية القديمة، كانت كلمة "ملكة" تعني "زوجة الملك" بكل بساطة. لكن لم تكن حتشبسوت زوجة أي ملك. عند تتويجها، كان زوجها ميتاً منذ سبع سنوات.

وفق الوثائق المرتبطة بالسلالتين التاسعة عشرة والعشرين، كانت المرأة المصرية تتمتع بالحريات لدرجة اعتبارها معاصرة، إذ يحق لها أن تخرج من منزلها وتقتني الأملاك وتطلب الطلاق، لكن كانت علاقتها بوالدها أو زوجها أو أشقائها تُعرّف عنها اجتماعياً. تكشف وثائق من بلدات مصرية ومن الحقبة نفسها أن الأرملة كانت تُعتبر من أكثر أعضاء المجتمع ضعفاً ويمكن أن تطردها ابنة زوجها من منزلها. لكن تشمل سجلات أخرى تفاصيل قضايا تتهم الرجال بالاغتصاب أو سوء المعاملة، ما يثبت أن المرأة المصرية كانت تملك الحق برفع دعوى قضائية.

لم تكن الملكة تملك الحقوق بقدر أي امرأة من الشعب لأنها لا تستطيع أن تطلّق الملك الذي يُعتبر تجسيداً للإله حورس. في عصر حتشبسوت، لم تستطع المرأة التي تحمل دماً ملكياً أن تتزوج أحداً من خارج القصر، وكانت عشرات النساء محجوزات في سجون من ذهب.

على غرار جميع الأميرات في السلالة الثامنة عشرة، وُلدت حتشبسوت في بيئة تشوبها القيود والتوقعات الاجتماعية. كانت ابنة وزوجة وشقيقة للفراعنة، ولم ينقصها إلا لقب أم الفرعون لأنها لم تنجب أي صبي. لا شك في أن هذا الوضع أحزنها لكنه عاد وسمح لها ببلوغ مناصب لم تحلم بها يوماً.

ذاقت حتشبسوت طعم السلطة للمرة الأولى في صغرها، حين سُمّيت "زوجة الإله أمون". في إطار هذا اللقب المقدس، اكتسبت مكانة كاهنة من أعلى الدرجات. كانت تستعمل أنوثتها لإثارة ذلك الإله كي يتمكن من إعادة خلق الكون أجمع بوتيرة متواصلة. في الوقت نفسه، كانت زوجة الإله آمون تتمتع بامتيازات أخرى، فتحصل على الأراضي والمنازل والقصور. إنه نفوذ هائل بالنسبة إلى فتاة في العاشرة من عمرها.

بعد وفاة والدها تحتمس الأول، أصبحت حتشبسوت "الزوجة الملكية الكبرى" لأخيها غير الشقيق تحتمس الثاني حين كانت في عمر الثانية عشرة. أثمرت هذه العلاقة عن ابنة واحدة على الأقل اسمها نفرو رع، وربما وُلدت ابنة ثانية لكنها ماتت في عمر مبكر. لم تنجب حتشبسوت الإبن الذي يضمن استمرارية السلالة، وكان لهذا الحدث أثر هائل على حياتها لأن تحتمس الثاني توفي بعد أربع سنوات وترك وراءه وريثاً صغيراً جـــــــــداً أنجبه من إحـدى زوجاته الثانويات.هكذا وصل تحتمس الثالث إلى عرش مصر وهو في عمر صغير. يمكن أن نتخيله وهو يمضغ صولجانه ويتحرك في جميع الاتجاهات خلال المراسم الدينية الطويلة. ونظراً إلى ارتفاع معدل وفيات الأطفال، ما كان ليعيش طويلاً. يجد المصريون الحلول دوماً في هذه الظروف السياسية المعقدة: يُكلَّف وصي العرش بالاهتمام بشؤون المملكة إلى أن يصبح الفرعون في عمرٍ يسمح له بحكم البلاد. في الحالات العادية، تستلم الأم الوصاية على العرش لأنها لا تستطيع أن تحمل أي طموح شخصي من دون أن تضرّ بمصالح ابنها. لكن لم تكن إيزيس، والدة تحتمس الثالث، مناسبة لهذا الدور لأنها لا تنتمي إلى نَسَب عريق ولا تتمتع بالمهارات اللازمة لتولي هذه المسؤولية. باختصار، كانت مجرد محظية جميلة.

استغلت حتشبسوت الفرصة بأفضل طريقة. فقد كانت الزوجة الملكية الكبرى للفرعون السابق وزوجة الإله آمون، واعتُبرت أعرق امرأة في العائلة المالكة، ودرست في أهم أوساط السلطة والنفوذ، واطّلعت على الألغاز الدينية منذ طفولتها. في عمر السادسة عشرة، حكمت المملكة باسم الملك الطفل بطريقة غير رسمية. لكن سرعان ما اعتلت العرش رسمياً، فاستلمت مهام الفرعون لأكثر من 20 سنة. كانت تتمتع بهامش واسع من الحرية لكنها لم تحكم وحدها يوماً. لم يكن تحتمس الثالث ابن حتشبسوت، لكن يبدو أنها كانت تحميه رغم كل شيء وتُحضّره كي يحكم المملكة يوماً. كان مدهشاً أن تتحول إلى نسخة من أب الفرعون (إنه فرعون راشد يشرف على تعليم تلميذه). في معظم فترات حكم حتشبسوت، كان تحتمس الثالث مجرّد طفل. لكن في آخر خمس أو ست سنوات من عهدها، أقام الاثنان شراكة حقيقية. وحين كانت تظهر مع شريكها في الحكم، كانت تُعتبر هي جلالة الملكة. لكنه لم يفارقها يوماً، بل بقي في ظلها طوال الوقت.منذ أن أصبحت حتشبسوت وصية العرش، كسبت صفات وخصائص أخرى ترتبط بالسلطة الملكية، لكنها حققت غايتها تدريجاً لتجنب أي صدام مع الحاشية الملكية والأعيان. لقد تحلّت بالصبر الكافي كي تحرز تقدماً ثابتاً إلى أن تم تتويجها رسمياً في معبد الكرنك، بعد سبع سنوات على موت زوجها، وبحضور الإله آمون رع وفق ما وَرَد في السجلات المتعلقة بتتويجها.

كان تأثير الدين كبيراً على الحياة السياسية في مصر القديمة، لذا اضطرت حتشبسوت لأخذ الوقت الكافي والتحلي بصبر شديد لتشريع اعتلائها العرش وإقناع المعنيين بأن مكانتها ترتبط بإرادة الآلهة. استناداً إلى السجلات الخاصة بالمعابد وحدها، يصعب أن نفهم أسباب تتويجها بدقة. وفي ظل غياب أي تبرير منطقي لوصولها إلى العرش، يفترض عدد كبير من الخبراء أن حتشبسوت كانت امرأة جشعة ومتآمرة وصلت إلى منصبٍ لا يعود لها، أو استغلالية انتزعت العرش من طفل لا يستطيع الدفاع عن نفسه. لكن نظراً إلى غياب أي أدلة للتأكيد على هذه الفرضية، طرح بعض الخبراء بتاريخ مصر القديمة نظرية أخرى، فافترضوا أنها تلقّت المساعدة من رجل، وهذا الرجل هو الذي فكّر بتتويجها.

على مر السنين، عمدت حتشبسوت إلى تغيير هويتها كامرأة. تظهر في أولى التماثيل والصور وهي ترتدي ثوباً وصدرها واضح جداً، لكنها تحمل في الوقت نفسه صفات ذكورية خاصة بالسلطة الملكية. وتظهر في تمثال آخر وهي عارية الصدر وبكتفين هزيلين وترتدي وزرة تغطي الجزء السفلي من جسمها فقط.

لكن بعد تتويجها، أصبحت الصورة التي تظهر بها أقرب إلى الرجل (كتفان عريضان، وركان ضيقان، لا أثر لصدرها الأنثوي). تغيرت صورتها لكنها حافظت على اسم حتشبسوت وتابعت النصوص القديمة التكلم عنها بصيغة المؤنث. في العصور القديمة، كانت المرأة الثلاثينية تقترب من الشيخوخة. وحين خسرت حتشبسوت جمالها وجاذبيتها الجنسية بنظر الرجال، بدأت تبني لنفسها صورة ملكة فرعونية مسترجلة. عند موتها، دُفنت جثة امرأة ناضجة في تابوت ملكي، داخل قبر محفور في جرف وادي الملوك، وتَزَيّن معبدها الجنائزي بعشرات التماثيل التي تظهر فيها كرجل مفتول العضلات يقدم الذبائح للآلهة.

على مستويات عدة، كان حكم حتشبسوت غير التقليدي محاولة للتأقلم مع البيئة السائدة. كانت تلتزم بقواعد الحكم الملكي التي تعرفها منذ طفولتها، أقله تلك التي لا تستثني مشاركة النساء. وعلى غرار أي ملك ناجح، خاضت حتشبسوت حروباً إمبريالية وقدمت الغنائم في معبد آمون، واستغلت بلا رحمة الشعب النوبي لمكافأة آلهتها وشعبها بمعدن ثمين يرمز إلى تجسّد إله الشمس. كما أنها أصبحت جزءاً من نظام الوصاية المشتركة على العرش، ما يعني أن يأخذ فرعون مُسنّ ملكاً أكثر شباباً تحت جناحه في إطار دعوة إلهية. هكذا حرصت على حماية الحاكم المستقبلي تحتمس الثالث. على صعيد آخر، اكتسبت حتشبسوت هوية ذكورية كي تتمكن من أداء بعض الطقوس الدينية، وشيّدت المعابد والمسلات بالطرق المتعارف عليها، وتركت وراءها آثاراً ومعابد حجرية كما لم يفعل أيٌّ من أسلافها في الإمبراطورية الجديدة، ولم تتجاوز التقاليد بل حاولت أن تكون امتداداً للملوك الذين حكموا قبلها.

قد يكون اختفاء اسمها وتماثيلها من الآثار بعد عشرين سنة على وفاتها مؤشراً على نجاحها كملكة فرعونية: من الواضح أنها كانت تثير الخوف في نفوس خلفائها رغم موتها. تابع النظام الملكي الثيوقراطي المصري العمل لمصلحة السلالة الذكورية بكل بساطة. كان حكم حتشبسوت حالة استثنائية هائلة ومدهشة. لم تكن مصر القديمة تتحمل أن تملك أي امرأة صلاحيات الفرعون، حتى لو كانت تلتزم بالنظام السياسي والديني القائم وتنسب سلطتها إلى إرادة الآلهة وتفعل ما يلزم لاتخاذ طابع ذكوري. لم يعرف خلفاؤها ما يفعلونه للتعامل مع عهدها الناجح والجدير بالثناء والتزامها بالتقاليد الدينية وابتكاراتها الجريئة. أمام هذه التناقضات، لم يبقَ أمامهم إلا تدمير الآثار المرتبطة بها!


MISS 3