بنجامين حداد

ماكرون عبّر عن رأي الأوروبيين الحقيقي بالصين

21 نيسان 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

ماكرون في زيارة لجامعة صن يات صن في قوانغتشو | الصين، 7 نيسان 2023

حين عاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من رحلته الأخيرة إلى الصين، أجرى مقابلات أثارت استياء الدول على طرفَي الأطلسي، فقال إن أوروبا لا تستطيع أن تقتدي بالولايات المتحدة بشكلٍ أعمى ويُفترض أن تتجنب "الانجرار إلى أزمات لا تعنيها". هذا التعليق، الذي يشير إلى تايوان على الأرجح، جعل بعض المراقبين يزعمون أنه يُضعِف الجبهة العابرة للأطلسي ضد الصين، مع أن ماكرون عاد وكرر دعم فرنسا لاستمرار الوضع الراهن في تايوان. تابع ماكرون كلامه بأسلوب اعتبره بعض المحللين مثيراً للجدل، فقال: "لا يستطيع الأوروبيون أن يعالجوا الأزمة في أوكرانيا. كيف يُعقَل أن نقول بكل ثقة: "انتبهوا! إذا ارتكبتم أي خطأ، سنكون مستعدين لمواجهتكم"؟ لكنّ هذا الموقف ليس مفاجئاً بأي شكل: كجزءٍ من حملته الواسعة والمستمرة لدعم مفهوم "الاستقلالية الاستراتيجية"، أعلن ماكرون بكل بساطة أن الأوروبيين لا يستطيعون الاضطلاع بدور جدير بالثقة في آسيا إذا كانوا يعجزون عن معالجة المشاكل الأمنية في جوارهم، لا سيما بعد مطالبة رؤساء أميركيين متعاقبين، من جمهوريين وديمقراطيين على حد سواء، بأن يتحمّل الأوروبيون مسؤولية حماية أمنهم بأنفسهم.

قد يستاء المحللون من تعليقات ماكرون الصريحة، لكن تكشف مواقفه الدوافع الكامنة وراء رحلته إلى الصين: يجب أن يُعبّر الاتحاد الأوروبي عن رأيه الخاص في الشؤون الدولية وألا يسمح للآخرين بتوجيه رؤيته العالمية وتحديد مصالحه، سواء في واشنطن أو بكين. قد لا يكون صانعو السياسة الأميركية مستعدين لسماع هذا الموقف، لكن يُعبّر ماكرون عن واقع مزعج يؤيده عدد كبير من الشركاء الأوروبيين ضمناً.

ينزعج جزء كبير من الأوروبيين من احتمال الانجرار إلى مقاربة صدامية يعتبرونها أحياناً على صلة بمخاوف واشنطن من خسارة تفوّقها العالمي بدل أن تعكس سياسات عقلانية.

يجب أن تتقبّل الولايات المتحدة هذا الواقع فيما تتعاون مع أوروبا لابتكار مقاربة مشتركة للتعامل مع الصين. يمكن التصدي للصين عبر وضع استراتيجية اقتصادية موحّدة تزامناً مع الاهتمام بالشؤون العسكرية، ويجب أن تتنبه واشنطن إلى شكوك نظرائها الأوروبيين، واختلافاتهم، ومصالحهم، إذا أرادت أن تضمن نجاح مقاربتها.

في أنحاء القارة الأوروبية، حرص القادة على تعديل طريقة تعاملهم مع بكين، ومن الواضح أنهم يحاولون التوفيق بين المصالح الاقتصادية وأولويات أخرى. ماكرون ليس المسؤول الوحيد الذي يسير في هذا الاتجاه ولم تكن زيارته إلى الصين، برفقة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، مجرّد حدث معزول. منذ بضعة أشهر، سافر المستشار الألماني أولاف شولتس إلى الصين، ثم لَحِقه رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز بعد أسابيع. عقد الزعيمان اجتماعات ودّية مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، وانشغلا بالتفاوض على صفقات تجارية تفيد بلدَيهما. كذلك، تُخطط رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني للتوجه إلى بكين في شهر أيار المقبل للقيام بالمثل. في الوقت نفسه، لا يزال أشرس مؤيدي الاصطفاف مع الولايات المتحدة في أوروبا الوسطى والشرقية جزءاً من المنتدى المشترك مع بكين، ولم يغيّر الدعم الصيني للحرب الروسية في أوكرانيا هذا الوضع. قبل بضعة أسابيع على بدء الحرب، وبعد تأكيد الصين على "صداقتها اللامتناهية" مع روسيا بأيام قليلة، زار الرئيس البولندي أندريه دودا الصين خلال الألعاب الأولمبية الشتوية للعام 2022، رغم مقاطعة بلدان أخرى في التحالف لذلك الحدث. لن تتلاشى هذه النزعات السياسية لأي سبب، وستستفيد واشنطن حتماً من تقبّل هذا الواقع في أسرع وقت.

يُفترض أن تحصد إدارة بايدن الإشادة لأنها رسّخت وحدة قوية عبر الأطلسي من خلال دعم أوكرانيا ضد العدوان الروسي، لكنها لم تنجح في تحقيق الهدف نفسه مع الصين. لم تكن المبادرة العابرة للأطلسي، التي أطلقها الرئيس الأميركي جو بايدن وتتمثل بنشوء "مجلس التجارة والتكنولوجيا"، كافية للاتفاق على المعايير الرقمية وسلاسل الإمدادات، بل إن إدارة بايدن تمسّكت بالسياسة الحمائية التي كانت معتمدة في عهد ترامب. يتابع المفاوضون عبر الأطلسي التجادل حول الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على الفولاذ، مع أن "قانون خفض التضخم" الذي مرّره الكونغرس الأميركي في آب 2022 يقدّم إعانات هائلة إلى هذا القطاع الأميركي على حساب الشركاء الأوروبيين.

كذلك، يشكك عدد كبير من القادة الأوروبيين بمصداقية محاوريهم الأميركيين حين تلجأ واشنطن إلى معايير مزدوجة في تصرفاتها. فيما تضغط الولايات المتحدة على أوروبا مثلاً لقطع علاقاتها مع الصين، بلغت العمليات التجارية الأميركية الصينية مستوىً قياسياً في العام 2022 (وصلت قيمتها إلى 690 مليار دولار). وبعد تعليق "الاتفاقية الشاملة بين الاتحاد الأوروبي والصين بشأن الاستثمار" غداة اشتداد الضغوط العابرة للأطلسي (وبسبب معاقبة الصين لعدد من المسؤولين في الاتحاد الأوروبي)، لا تزال اتفاقية "تجارة المرحلة الأولى" التي عقدتها إدارة ترامب مع بكين قائمة.

لكن رغم التوتر السائد، لا داعي كي تستاء واشنطن مما يحصل لأن أوروبا الأكثر استقلالية ستفيد الحملة الأميركية المعادية للصين على المدى الطويل. للتنافس مع بكين، تحتاج واشنطن إلى شريكة جديرة بالثقة بدل مجموعة من العملاء المتوافقين. ثمة طريقة أخرى للتصدي للطموحات الصينية من دون جعل الأوروبيين يقلّدون الأفكار الأميركية: من خلال السماح لأوروبا بتعزيز سيادتها، تستطيع الولايات المتحدة أن تُخفّض مستوى تعرّض الاتحاد الأوروبي للتأثير الصيني الخارجي. إنه الهدف الذي تسعى باريس إلى تحقيقه.

في آخر ست سنوات، كان ماكرون يطمح إلى تعزيز استقلالية أوروبا، وحماية البنية التحتية وسلاسل الإمدادات الأساسية، وتطوير الأدوات الجيوسياسية اللازمة كي تتمكن القارة الأوروبية من التنافس مع الآخرين والدفاع عن مصالحها وأمنها.

في الأشهر القليلة الماضية، بدأ الاتحاد الأوروبي يُحقق هذا الهدف في مجالات عدة، فوافق في البداية على آليات لمكافحة الإكراه بهدف حماية أعضائه من ضغوط التجارة الشرسة، وجاءت هذه الخطوة في المقام الأول رداً على محاولات الصين لعزل ليتوانيا ومضايقتها بعدما رفعت هذه الأخيرة الصوت بشأن تايوان. قد لا تتصدر قوانين الرقائق وصافي الانبعاثات الصفرية والمواد الخام الأساسية عناوين الأخبار، لكنها خطوات مهمة لتخفيف اتكال الأوروبيين على الصين لتلقي البطاريات، والمواد الخام، والهيدروجين، والعناصر الإلكترونية في التقنيات الأساسية. كانت باريس تحديداً في طليعة الأطراف التي أطلقت هذه الجهود. وفي مسائل التكنولوجيا المحتدمة، كانت فرنسا من أكثر البلدان التي فرضت القيود على شركة "هواوي"، وقد مُنِع الموظفون الحكوميون فيها من تنزيل تطبيق "تيك توك".

في هذا السياق، قالت فون دير لاين سابقاً إن الهدف من هذه المقاربة لا يتعلق بفك الارتباط بالكامل، بل بتقليص المخاطر التي تتعرض لها الصناعات الأوروبية نتيجة الاتكال على الصين. لحسن الحظ، لم يغفل القادة في بروكسل وعواصم الاتحاد الأوروبي عن تجربة الامتنان للصين حين أرسلت الأدوية خلال أزمة كورونا، أو قدرة روسيا على تعزيز روابطها في مجال الطاقة لاكتساب مستوى من النفوذ السياسي.

بدأت أوروبا الأكثر استقلالية تستيقظ تدريجاً من سباتها التاريخي في الشؤون العسكرية أيضاً. يتجه الإنفاق على الدفاع إلى الارتفاع في أنحاء القارة. زادت فرنسا ميزانيتها الدفاعية بنسبة 25% منذ بدء ولاية ماكرون الرئاسية الأولى في العام 2017، وهي تفكّر راهناً بقانون قد يسمح بمتابعة هذا التوجه في حال إقراره، حتى أنه سيضاعف الإنفاق العسكري المحلي في نهاية المطاف على مر عهد ماكرون. كذلك أعلنت ألمانيا، ودول الشمال، وبولندا، عن زيادات مشابهة.

على صعيد آخر، بدأ الأوروبيون أخيراً يجددون تواصلهم مع محيطهم الذي خضع للنفوذ الروسي والصيني لفترة طويلة، فجدّدوا تركيزهم على سياسة التوسّع والتكامل الإقليمي في غرب البلقان أو أوروبا الشرقية. في غضون ذلك، يُعتبر إطلاق "الجماعة السياسية الأوروبية" من جانب فرنسا، بعد سنة واحدة فقط على تفوّق الصين على الاتحاد الأوروبي في مجال توزيع اللقاحات في منطقة غرب البلقان، بداية واعدة لتطوير التعاون والبنية التحتية في مجموعة من القطاعات المهمة.

بدل توقّع اصطفاف الآخرين مع واشنطن إذاً، يجب أن يبحث صانعو السياسة الأميركية عن مجالات تتلاقى فيها مصالح الطرفَين بطريقة عملية. حتى الآن، بدأت القوة الأوروبية الأساسية تستفيد من نفوذها التجاري. يُفترض ألا تُضعِف الولايات المتحدة هذه الجهود عبر اللجوء إلى السياسة الحمائية أو معارضة ظهور صناعة دفاعية أوروبية.

لطالما كان ماكرون صريحاً في موقفه القائل إن الأوروبيين لا يقفون على مسافة واحدة من الحلفاء الأميركيين والصين. ستكون أوروبا الموحّدة، التي تدافع عن مصالحها ورؤيتها العالمية، شريكة قوية لواشنطن على المدى الطويل أكثر من الحلفاء الذين يصطفون معها في جميع الأحوال لكنهم يطبّقون استراتيجيات وطنية معزولة. قد لا تعتبر الولايات المتحدة نشوء اتحاد أوروبي قوي ومستقل فكرة جاذبة في الوقت الراهن، لكن يُفترض أن تتذكر واشنطن أن الصين ستعجز عن تقسيم هذه النسخة من الاتحاد الأوروبي أو فرض إملاءاتها عليه.


MISS 3