"سلام" طالبان... خطة للعودة إلى السلطة في أفغانستان!

11 : 16

بعد أيام على توقيع اتفاق مع الولايات المتحدة، ينوي قادة "طالبان" الاستفادة من الإنسحاب الأميركي لتعزيز تفوّقهم السياسي والعسكري على حساب الأفغان المصدومين حتى الآن من نظامهم المرعب القائم منذ سنوات...جلس أحد عناصر "طالبان" على سجادة تفترش الأرض. كانت نظراته تحمل معنى التحدي وبدا منزعجاً من جندي يصدر الأوامر هناك. ثم قيل لنا: "هيئة الأركان في كويتا أبلغتني بقبول زيارتكم وأنا أنفذ رغبتها".


لمقابلة عنصر "طالبان"، اضطررنا لقطع مسافة بسيارة غير مسجّلة. كانت جبال شمشاد تحيط بتلك الأرض القاحلة. في المخيّم الذي قصدناه، يعيش المقاتلون ويتدربون ويخزّنون ذخائرهم على بُعد خمسين متراً من جبهة القتال. عائلاتهم تختبئ وراء الجدران. يقول المحارب المخضرم بصوته الأجش: "في العادة، كنا نقاتل حتى خمس مرات في الأسبوع الواحد. أنا لم أترك سلاح الكلاشنيكوف الخاص بي منذ أربعين سنة. لقد اعتدنا جميعاً على فكرة الموت وعلى رؤية عناصرنا يموتون يومياً. لكن تغيّر الوضع جذرياً في الوقت الراهن. كما ترون، ها قد جئتُ بلا سـلاح"! بدأ عنـــــــاصر "طالبان" منــــذ أيام بتنفيذ هدنـة جزئية، وهو شرط فرضته الولايات المتحـــدة للمصادقة، يوم السبت، أخيراً على انسـحاب القوات الأميركية. إنه انتصار هائل للحركة بعد أكثر من 18 سنة على سقوط نظامها على يد "الغزاة".


تجديد الروابط مع الشعب

كان المفاوضون باسم "طالبان" قد نقلوا التعليمات إلى رجالهم انطلاقاً من شققهم في قطر. يقول أوليا خان سانغاري بكل حماسة: "لقد أمرونا بالتوجه إلى البلدات المجاورة. قابلتُ هناك تجّاراً ومعلمين وكبار الشخصيات... شعرنا بالغرابة حين رحنا نتجول بلا أسلحة... لقد اكتشفنا النصف الآخر من البلدة التي كنا نهاجمها في العادة. لكننا تلقينا استقبالاً جيداً. كانت هذه الجولة تهدف إلى تجديد الروابط مع الشعب كي نعرف بعضنا البعض في حال إرساء السلام بفضل العلاقات التي أقمناها هذا الأسبوع". بموجب الاتفاق مع الأميركيين، يُفترض أن تطلق "طالبان" في 10 آذار محادثات مع الممثلين السياسيين والمجتمع المدني.

لا يزال الزي الخاص بهذه الاجتماعات غير مؤكد... وحتى نجاحها ليس مؤكداً بعد! تنتشر "طالبان" في أكثر من نصف المناطق، ومع رحيل القوات الأميركية وجزء من قوات حلف الناتو، من المنطقي أن يتوسع تفوقها العسكري. لا شيء يلزمهم بالجلوس الى طاولة المفاوضات، باستثناء محاولة فرض نسخة متساهلة بدرجة معينة من "الدولة الإسلامية" بعد أكثر من 18 سنة من القتال المسلّح وارتكاب المجازر والاعتداءات. باختصار، سينتشر السلام بشروطهم الخاصة أو لن ينتشر مطلقاً. يضيف قائد مُكلّف بالكشف عن جميع التفاصيل للمسؤولين عنه: "يقول الرؤساء إن الهدف الأساسي من هذه المبادرة يتعلق بكسب عقول وقلوب الناس". تتعدد المواضيع الواردة على لائحة هذه المحادثات العفوية ظاهرياً، منها فساد الحكومة المركزية، وأهمية الأخلاق والدين، والأضرار الناجمة عن الوجود العسكري الخارجي في "بلد البشتون". سواء حققنا السلام أو لم نفعل، سنوسّع نفوذنا حتماً".

في مقاطعة "دور بابا" الريفية المجاورة، نجد الحاج أنار جول بلحيته السوداء السميكة والمرسومة على الطريقة السلفية. كان قائد الشرطة المحلية (ميليشيا موالية للحكومة تنقل المعلومات إلى القوات الأفغانية في المناطق النائية) يرتدي زياً عسكرياً وينتعل حذاءً ضخماً باللونين الأصفر والأزرق، وقد تلقى أوامر تشبه تعليمات حركة "طالبان" التي يعتبرها عدوّة له. يقول انطلاقاً من مركزه في الخط الأمامي: "يجب ألا نلمس أسلحتنا إلا إذا تعرّضنا للهجوم". بالكاد أنهى كلامه حتى حضر أحد عناصر الميليشيا ليخبره بما يلي: "ثلاثة عناصر من "طالبان" اقتربوا من هذا المكان وصافحونا ثم غادروا وهم يضحكون! حتى أنهم ما كانوا مسلحين"! يصف آنار غول الوضع الاعتيادي قائلاً: "في الحالات العادية، تحتدم المعارك بين الطرفين في مناسبات متعددة أسبوعياً، ليلاً ونهاراً". لكن في هذه الأيام، ينشغل رجاله بزراعة محصول الخضار (جرى تنظيم جدول بالمهام) وبالتدرب على الرماية (لا نفع من الضحك الجنوني والتربيت على الظهر في هذا المكان) وبذبح الطيور لطبخها.

من الواضح أن فكرة إعادة انخراط "طالبان" في المعترك السياسي، وبالتالي في المجتمع المدني، ولو أنها لا تزال فكرة نظرية، ترعب الناشطين في مجال حقوق الإنسان، لا سيما النساء منهم. يبذل عناصر "طالبان" قصارى جهدهم لتحسين صورتهم عبر التواصل عمداً مع الناس، فيحاولون بذلك جعل المجتمع الدولي ينسى النظام المرعب الذي فرضوه بين العامين 1996 و2001، حيث تُجبَر المرأة على ملازمة منزلها، ويُمنَع التعبير عن أي شكل من الفنون، ويُعاقَب المخالفون بالرجم وبتر الأطراف وأعمال وحشية أخرى، بما يتماشى مع تفسيرات متطرفة للشريعة الإسلامية. وفق أرقام الحكومة الأميركية، لا تسيطر الحكومة الأفغانية راهناً إلا على نصف البلد تقريباً. في المقابل، يخضع أكثر من 12% منه لنظام "طالبان" الموازي الذي يتولى تعيين "حكّام أشباح" ومختلف القضاة والمعلمين وغيرهم من الموظفين... أما المساحة المتبقية (حوالى 40% من البلد)، فهي منطقة متنازع عليها وتمتد على طول خطوط القتال الأمامية التي تبدو مبهمة ومتبدّلة في آن. تعكس هذه الأرقام واقعاً أكثر اضطراباً. يوضح توماس روتيغ، مؤسس "شبكة المحللين في أفغانستان": "في المناطق المتنازع عليها، سبق ونشأت مؤسسات حكومية، لكن تملك "طالبان" الحق بالإشراف على عملها". ووفق تقديرات هذه الشبكة، "تمتد الدولة الموازية التي أنشأتها "طالبان" إلى ما وراء المناطق التي تسيطر عليها الحركة عسكرياً". في منطقة "شام شبور" مثلاً، وهي قرية صغيرة في مقاطعة "دور بابا"، لا أحد يستطيع تحديد الجهة التي تسيطر على البلدة. يُجمِع عدد من السكان على وجود مركز تابع لـ"طالبان" على بُعد مئة متر، بينما يظن آخرون أنهم يعيشون تحت حكم حرب العصابات، ويتقبّل البعض الوضع بغض النظر عن حاكم المنطقة.

في مدرسة الفتيات، تلعب مجموعة من الطالبات في الملعب وتطير أوشحتهنّ البيضاء في الهواء. يحاول المدير عبد الكبير نيازي تنظيم صفوفهنّ ويتذكر اليوم الذي أرسلت فيه حركة "طالبان"، عن طريق زعيم قِبَلي، رسالة للسماح بفتح المدرسة. يقول المسؤول الذي لم يذكر تفاصيل كثيرة عن محتوى الرسالة: "من جهتنا، كان يجب أن نُعدّل برامجنا المدرسية بكل بساطة. منذ ذلك الحين، تتلقى المدرسة تعليمات دورية عبر رسائل متداخلة. لم تعد "طالبان" اليوم تشبه ما كانت عليه منذ عشرين سنة. بل إنهم يدعمون التعليم. وعند فرض السلام، سيحتاجون إلى المهندسين والأطباء لإعادة بناء البلد"!

"أقرأ كل ما أريده"!

في قاعة أحد الصفوف، تحضر مجموعة مراهقات درساً عن الطاقة الشمسية. هذا الدرس ليس جزءاً من المنهج الذي فرضته "طالبان"، وجميع الكتب التي تختلف نظرتها إلى الأخلاق الإسلامية لا تدخل في منهجها أيضاً. تقول ياسمين، فتاة في السابعة عشرة من عمرها تحلم بأن تصبح جرّاحة: "هذا الوضع لن يوقفنا! أحب الأدب كثيراً وأنا فتاة عنيدة جداً. أقرأ كل ما أريده بغض النظر عن رأيهم". ومع ذلك، تشعر ياسمين بالرعب من فكرة عودة "طالبان" إلى الحكم وتقول بنبرة حادة: "لا تفهم الطالبات الأصغر سناً هناك أنهنّ قد يُجبَرن بعد بضعة أشهر على التخلي عن حلمهنّ بتطوير مهنة خاصة بهنّ... أما نحن، فنفهم ذلك"! على مسافة غير بعيدة، في عيادة خاصة بالنساء، كانت ثلاث موظفات يتبادلن الحديث خلال استراحة الغداء. بالكاد كانت أوشحتهنّ الحمراء والخضراء والزرقاء موضوعة على رؤوسهن، وكنّ يتحدثن عن خوفهنّ من الاضطرار للتخلي عن عملهنّ وعن "هويتهنّ" أيضاً. أريزو قابلة عمرها 24 عاماً، وهي تضع المكياج بعناية وتنتعل حذاءً برّاقاً بكعب عالٍ. تعترف هذه الشابة بأنها لا تثق بحركة "طالبان": "حتى لو عادوا لتقاسم السلطة مع الحكومة الراهنة، سيحققون غايتهم في نهاية المطاف. بالنسبة إلينا، نحن سكان الأرياف، لن يتغير الوضع كثيراً... لكن تخيلوا أن يفرضوا البرقع في كابول، حيث تتنزه الفتيات اليوم بحجاب بسيط وبسروال جينز ضيّق"!

مروراً بزقاق متصدع ومليء بأقنان الدجاج وبِرَك موحلة، نصل إلى المدرسة القرآنية. يستند الملالي هناك إلى مكتبة كبيرة من المؤلفات الدينية ويشربون الشاي بين الحصص. في وسط المكان، ينسخ أحدهم آيات من القرآن على أوراق مائلة إلى الاصفرار. يقول سناء الله وهو يحرك مسبحته بيده ولا يدرك على الأرجح أنه يتكلم باسم حركة متمردة: "عدونا الوحيد هو المحتلّ الأجنبي. حالما يرحل الأميركيون، سيجتمع الأفغان مجدداً لمناقشة مسار المستقبل والسلام. لماذا يظن الأجانب أننا نحتاج إليهم لعقد السلام"؟ يحمل هذا المعلّم أصلاً فكرة دقيقة جداً عن معنى السلام، فيضيف: "يجب أن تكون الحكومة حكراً على "طالبان". لا مجال لتقاسم السلطة مع أي طرف آخر. السياسيون الحاليون فاسدون، وهم خاضعون للجهات الخارجية. حان الوقت لإعادة فرض النظام في بلدنا". إنه كلام مشابه لخطاب "طالبان"، حين استولت الحركة في العام 1996 على السلطة عبر إطلاق حرب أهلية مزّقت البلد منذ انسحاب القوات السوفياتية. قبل يوم على توقيع الاتفاق مع الولايات المتحدة، تلقى مسؤول رفيع المستوى في "طالبان" التهنئة في الدوحة غداة "هزيمة غطرسة البيت الأبيض أمام العمامة البيضاء"!