ثورستن بينير

إنقسام أوروبي كارثي بشأن الصين

28 نيسان 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عند وصولها للقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بكين | 6 نيسان ٢٠٢٣

في آخر أسبوعَين، انشغل رئيس الحزب الشيوعي الصيني، شي جين بينغ، باستقبال شخصيات أوروبية مرموقة. في أواخر شهر آذار، كان الرئيس الإسباني بيدرو سانشيز أول رجل دولة أوروبي يلتقي الزعيم الصيني بعد القمة التي جمعته مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في موسكو. ثم لَحِقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الأسبوع الماضي، إلى جانب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين. كان شي جين بينغ المستفيد الوحيد من هذه الزيارات، فهو لم يقدّم أي تنازل حول المسائل المرتبطة بالمصالح الأوروبية، بدءاً من الحرب الروسية وصولاً إلى العلاقات الاقتصادية، حتى أن زوّاره الأوروبيين أثبتوا له حجم التفكك الأوروبي والعابر للأطلسي، فمنحوه منفعة استراتيجية كبرى على طبق من فضة وجعلوا السياسة الأوروبية تجاه الصين في حالة فوضى.



لم يكن يُفترض أن يحصل ذلك. بدت خطة القادة الأوروبيين واعدة نظرياً، فهم كانوا يحاولون الاستفادة من إعادة فتح البلد بعد انتهاء استراتيجية "صفر إصابات" التي طبّقتها الصين خلال أزمة كورونا، وأرادوا أن يتطرقوا إلى مخاوف بارزة مع شي جين بينغ شخصياً، لا سيما الحرب الروسية. دعا ماكرون فون دير لاين للانضمام إليه في بكين للاحتفال بالوحدة الأوروبية واجتمع معها خلال غداء تحضيري في باريس قبل الرحلة. من الواضح أن الرئيس الفرنسي أراد أن يثبت أنه مسؤول أوروبي أكثر التزاماً من المستشار الألماني أولاف شولتس الذي قام برحلة فردية إلى بكين، في تشرين الثاني 2022، بعد رفضه عرض ماكرون للقيام بزيارة مشتركة. أما فون دير لاين، فهي أدّت دورها عبر طرح مقاربة أوروبية متماسكة.

بذل سانشيز وماكرون جهوداً كبرى خلال رحلتهما إلى الصين لإثبات موقفهما. في خطاب أمام "منتدى بواو" (نسخة صينية من منتدى دافوس)، أشاد الرئيس الإسباني بالصين بسبب إيمانها "بنظام قوي، وشفاف، ومتعدد الأطراف، ومبني على قواعد واضحة"، وهو موقف يتعارض مباشرةً مع ما قالته فون دير لاين عن نظرة بكين إلى النظام الدولي.

نظراً إلى مكانة فرنسا كعضو دائم في الأمم المتحدة وثاني أهم قوة اقتصادية في أوروبا، كان ماكرون يستطيع إخماد هذه التعليقات عبر تأييد أجندة فان دير لاين الرامية إلى تقليص المخاطر. لكن فضّل الرئيس الفرنسي أن يسحب دعمه لها فجأةً خلال زيارتهما المشتركة إلى بكين. تمسّك ماكرون بأوهام المعاملة بالمثل في العلاقات الاقتصادية مع الصين، وكأنه لم يتعلم شيئاً من التجارب السابقة التي لجأ فيها إلى هذه المقاربة قبل أن يستنتج أن بكين لا تلتزم بوعودها. في الملف الروسي، لم ينجح ماكرون في انتزاع أي التزامات تتجاوز الموقف الرافض لاستعمال الأسلحة النووية، وهو التزام انتزعه شولتس من شي جين بينغ في شهر تشرين الثاني. هذا الوضع ليس مفاجئاً، نظراً إلى إصرار شي على الوقوف إلى جانب بوتين للحفاظ على مكانة روسيا كحليفة للصين في صراعها مع الولايات المتحدة.

لكن لم يحاول ماكرون اعتبار دعم بكين للحرب الروسية انتهاكاً للمصلحة الأوروبية الأساسية، بل إنه جلب معه وفداً قوياً يتألف من 50 رجل أعمال، وهو أكبر من وفد شولتس في تشرين الثاني بأربع مرات. شمل الوفد المرافق لماكرون عضواً في مجلس إدارة فرع "هواوي" في فرنسا، ورئيس الوزراء السابق جان بيار رافاران الذي يُعتبر النسخة الفرنسية من غيرهارد شرودر، بهدف مراعاة المصالح الروسية والصينية. إنه مؤشر واضح على تغيّر المسار التجاري في علاقات الصين والاتحاد الأوروبي بسبب دعم الحرب الروسية.

لكن اختار ماكرون التسبّب بأكبر الأضرار في السياســــة المتعلقة بتايوان. حين سُئِل في بكين عن اللقاء الذي جمع رئيسة تايوان، تساي إنغ ون، ورئيس الأغلبية في مجلس النواب الأميركي، كيفن مكارثي، لجأ ماكرون إلى المعادلة البطولية المألوفة وقال: "أنا لستُ تايوان ولا الولايات المتحدة. أنا أتعامل مع ما يقع على عاتقي فقط. لا داعي للخلط بين الأمور". كان هذا التصريح موقفه الوحيد في الصين حول الاستقرار في مضيق تايوان، ويتعارض هذا الموقف مباشرةً مع تصريح فون دير لاين في بكين، حين قالت أمام شي جين بينغ أن "الاستقرار في مضيق تايوان بالغ الأهمية"، وأن "التهديد باستعمال القوة لتغيير الوضع القائم غير مقبول". لكن لم يتوقف ماكرون عند هذا الحد. بعد إطلاق الألعاب النارية لتوديعه، بدأ جيش التحرير الشعبي سلسلة من التدريبات العدائية من خلال محاصرة تايوان، كردّة فعل على اجتماع تساي إنغ ون مع مكارثي. وخلال رحلة العودة، أجرى ماكرون مقابلة مع مجلة "بوليتكو يوروب" وصحيفة "ليزيكو"، وكان كلامه أشبه بإعطاء شيك على بياض للرئيس شي جين بينغ في ملف تايوان. اعتبر ماكرون تايوان "أزمة لا تعنينا"، لذا يُفترض ألا يتدخل بها الأوروبيون وألا يصبحوا "من أتباع الولايات المتحدة".

لا يراعي ماكرون إذاً رغبة معظم الشعب التايواني في ألا يخضع لحُكم بكين، وهو موقف عبّر عنه التايوانيون خلال انتخابات ديمقراطية. أوضح شي جين بينغ تصميمه على التحكم بتايوان عبر إطلاق تحركات أكثر عدائية، ومع ذلك بدا وكأنّ ماكرون يريد تحميل الولايات المتحدة وحدها مسؤولية تصعيد التوتر في مضيق تايوان. يبدو أن ماكرون يفترض بكل حماقة أن أوروبا تستطيع عزل نفسها عن أي حرب بين الصين، وتايوان، والولايات المتحدة، ما يعني أنها لا تحتاج إلى محاولة ثني بكين عن استعمال القوة. لكنّ أوروبا التي تعجز أصلاً عن التعامل مع حرب أصغر بكثير على أعتابها، من دون مساعدة واشنطن، لن تتمكن من تجنب العواقب الأكثر خطورة للحرب المحتملة بين الصين والولايات المتحدة. يُضعِف ماكرون بهذه الطريقة المصداقية الفرنسية عبر معارضة أهم تصريحات دول مجموعة السبع التي وقّعت عليها فرنسا (صدر آخرها في آب 2022).



شي جين بينغ وماكرون في بكين | 6 نيسان ٢٠٢٣


أكثر ما يثير القلق على الأرجح هو امتناع ماكرون عن طرح أي تعريف إيجابي للمصلحة الوطنية الفرنسية والأهداف الاستراتيجية المرتبطة بالاستقرار في مضيق تايوان، فهو يحصر معناها بعدم الاقتداء بواشنطن. ويبدو أن مقاربته الشهيرة التي تعتبر فرنسا "قوة اتزان" تهدف بكل بساطة إلى التصدي للولايات المتحدة دون سواها. قد يكون ماكرون محقاً حين يعتبر أوروبا بحاجة إلى رسم مسارها تجاه الصين استناداً إلى مصالحها الخاصة، فضلاً عن استثمار قدراتها لتحقيق ما يسمّيه "السيادة الأوروبية". لكن من خلال طرح مقاربته على شكل أجندة معادية للولايات المتحدة، هو يُضعِف ثقة الكثيرين بمقاربة "السيادة الأوروبية"، لا سيما في أوروبا الوسطى والشرقية حيث يشكك الناس أصلاً بتلك السيادة. لا مفر من أن يستفيد أعداء أوروبا من هذه الانقسامات.

لهذا السبب، من الضروري أن تنتقل أوروبا الآن إلى مرحلة الحد من الأضرار. مهما كانت تعليقات ماكرون انهزامية واستفزازية، لا نفع من صب الزيت على النار عبر نشر مواقف قادة أوروبيين آخرين لتأجيج الجدل علناً. من الأفضل أن يعيد هؤلاء القادة التأكيد على المبادئ الأساسية في ملف تايوان بكل هدوء، وهي المبادئ التي وردت في بيانات مجموعة السبع ووقّع عليها الاتحاد الأوروبي أيضاً. في الوقت نفسه، يجب أن يغيروا مسار النقاش مجدداً كي يتماشى مع أجندة تقليص المخاطر التي طرحتها فون دير لاين. يبدو معظم أعضاء الاتحاد الأوروبي مستعدين لطرح أجندة مبنية على تقليص المخاطر بدل فك الارتباط مع الصين. سيكون دور ألمانيا أساسياً في هذه الجهود. في شهر تشرين الثاني، أدلى شولتس بمواقف واضحة حول تايوان وحقوق الإنسان خلال مؤتمره الصحافي، حتى أنه لم يعتبر أحداث "شينجيانغ" شأناً صينياً داخلياً. يقول دبلوماسي ألماني إن شولتس وجّه رسالة "واضحة لأقصى حد" إلى شي جين بينغ حول عواقب استعمال القوة ضد تايوان وتأثيرها على العلاقات الاقتصادية الثنائية. يجب أن يحاول شولتس ووزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إقناع بقية دول أوروبا بدعم أجندة الردع ضد بكين في ملف تايوان. استعمل شولتس شخصياً عبارة "تقليص المخاطر" في كلامه عن الصين، مع أنه لا يريد على ما يبدو أن يتخذ مواقف حاسمة بقدر فون دير لاين في بعض المسائل.

لكن وجد الاتحاد الأوروبي صعوبة متزايدة في بناء سياسة متماسكة ومبنية على "تقليص المخاطر" تجاه بكين بعد رحلة ماكرون الشائكة إلى الصين. لكنها الطريقة الوحيدة كي تؤكد أوروبا على "سيادتها"، كما قال ماكرون. يُفترض أن تجد بيربوك الطرق المناسبة لدعم أجندة "تقليص المخاطر" علناً، فضلاً عن تأييد موقف مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي في ملف تايوان خلال رحلتها إلى بكين. لكن يجب ألا يتوقع أحد أن ينبهر شي جين بينغ بهذا التوجه. طالما يستطيع الرئيس الصيني الاتكال على ماكرون كأفضل حليف له ضد أوروبا السيادية التي تتمسك بمصالحها في وجه بكين العدائية، من المنطقي ألا يحرّك ساكناً ويستمتع بهذا العرض الأوروبي.