جاستن لينش

الأوهام الأميركية مهّدت لاندلاع الحرب في السودان

1 أيار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

عبد الفتاح البرهان (في الوسط) ، قائد القوات المسلحة السودانية ونائبه محمد حمدان دقلو (يسار) | السودان، في 5 كانون الأوّل 2022

بدأ القتال في السودان في 15 نيسان، بعد سنوات من التوتر بين صانعَي قرار أساسيَين في البلد: الجنرال عبد الفتاح البرهان، وهو حاكم السودان بحكم الأمر الواقع وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو المعروف على نطاق واسع باسم "حميدتي"، وهو زعيم قوات الدعم السريع شبه العسكرية. بدأت معارك الشوارع في الخرطوم ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلد. يذكر السكان أن الطائرات التي حلّقت على علو منخفض قصفت مواقع برّية، ثم انتشرت تقارير عن حصول انتهاكات مشينة لحقوق الإنسان.



أسفر القتال في دارفور عن مقتل ثلاثة عمّال إغاثة في برنامج الأغذية العالمي. كذلك، تفيد التقارير بأن النيران أُضرِمت في أسواق دارفور، وتعرّضت مباني الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية للغزو والنهب في أنحاء البلد. في الوقت نفسه، هاجم عدد من الجنود سفير الاتحاد الأوروبي في الخرطوم داخل منزله.

يواجه السودان انهياراً للدولة على غرار اليمن. أطلقت القوات المسلحة السودانية حملة قصف مكثّفة في الخرطوم، وقد تفرض سيطرتها في العاصمة قريباً بفضل قوتها الجوية المتفوقة. لطالما كانت القوة الجوية عنصراً حاسماً في حروب السودان، بدءاً من العام 2003، حين تحالفت القوات المسلحة السودانية مع جماعة "الجنجويد" التي اشتقت منها قوات الدعم السريع لخوض الحرب في دارفور جنباً إلى جنب.

ركّزت عمليات قوات الدعم السريع في ساعات الصراع الأولى على فرض السيطرة في جميع مطارات البلد لكبح العمليات الجوية التي تطلقها القوات المسلحة السودانية. حققت هذه الخطوة نجاحاً جزئياً، لكن لا يمكن إخراج قوات الدعم السريع من المباني السكنية التي تحوّلت إلى منشآت عسكرية في الخرطوم قبل مرور بضعة أسابيع على الأرجح. في الوقت نفسه، يصعب هزم قوات الدعم السريع في معقلها القبلي في دارفور، لا سيما في ظل قدرتها على استدعاء الجنود من تشاد المجاورة. نتيجةً لذلك، يبدو انغماس السودان في حرب أهلية شاملة أقرب إلى الواقع مع مرور الوقت.

قد تكون الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون القوى الوحيدة التي تتمتع بقدرة محدودة على رسم الأحداث في السودان. في محاولة لمنع السيناريو القاتم الذي ينذر بتفكك الدولة في السودان، بدأت الحكومة الأميركية تتعاون مع الدول العربية، لا سيما مصر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، لكن تحمل هذه المجموعة من حلفاء واشنطن مواقف متباينة من السودان. مع ذلك، يدرك الدبلوماسيون الغربيون أن العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل 15 نيسان أصبح مستبعداً في ظل استمرار القتال.

امتدت الاحتجاجات أشهراً عدة في بداية العام 2019 وأدت إلى إطلاق انقلاب عسكري ضد الدكتاتور السابق عمر البشير. بدا وكأن ثلاثة عقود من السياسة الأميركية الداعمة للديمقراطية قد تعطي ثمارها أخيراً. لكن ضغطت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى على المحتجين المدنيين والجيش لتشكيل حكومة انتقالية.

كان الدستور الانتقالي اللاحق يشير إلى تنظيم الانتخابات في العام 2022. لكن تلاشت الآمال بترسيخ الديمقراطية في السودان عند الاتفاق على ذلك الدستور الانتقالي، فسُمِح للجيش بإدارة البلد خلال الجزء الأول من العملية الانتقالية.

كان البرهان رئيس الدولة حينها وكُلّف بتنفيذ وعده بإرساء الديمقراطية. لكن فور بدء المرحلة الانتقالية، اتّضح أن آمال الغرب بترسيخ الديمقراطية لا تزال بعيدة المنال.

أجريتُ مقابلة مع رئيس الوزراء المدني الجديد، عبدالله حمدوك، في منزلٍ حصل عليه من عائلة سودانية بارزة لأن البرهان والجيش رفضا في البداية منحه مكاناً للإقامة فيه. خسرت أهم عناصر الحركة الاحتجاجية السودانية في العام 2019 السلطة بسبب الاقتتال الداخلي، وعلى رأسها النقابات العمالية السودانية. تصارعت الأحزاب السياسية المدنية على السلطة، ومنع البرهان وحميدتي الإصلاحات التي أراد حمدوك تطبيقها. ثم انهارت أي أوهام بنشوء سلطة مدنية في العام 2021، عندما سقط حمدوك بانقلاب عسكري. تبيّن أيضاً أن وعد الجيش بتسليم السلطة إلى المدنيين لم يكن جدّياً، وسرعان ما اتّضح إلى أي حد كانت العملية الانتقالية المدعومة من الولايات المتحدة شائبة في جوهرها.

قد يكون إصرار واشنطن على اعتبار المرحلة الانتقالية في السودان عملية "يقودها المدنيون" أكبر مثال على حجم الأوهام الأميركية. لم يكن أي جانب من العملية الانتقالية السودانية مدنياً. كان الدستور الانتقالي الصادر في العام 2019 ينص على أن يقود الجيش تلك العملية في أول 21 شهراً، ثم يستلم المدنيون هذه المهمة طوال 18 شهراً بعد تلك المرحلة.

كان حمدوك رئيساً مدنياً للحكومة، لكن بدا هذا المنصب خالياً من الصلاحيات. مع ذلك، أصرّت الحكومة الأميركية على استعمال هذه العبارة رغم تأخير استلام المدنيين للسلطة من الجيش بشكلٍ متكرر. كان المسؤولون الأميركيون يعرفون أن موقفهم يُعبّر عن الوضع الذي يطمحون إليه ولا يعكس الواقع. لكن أوحت الحِيَل اللغوية التي استعملتها واشنطن باقتناع المسؤولين بأن السودان قد يصبح بلداً ديمقراطياً لمجرّد أن يعتبروه كذلك.

لم يتّضح بعد إلى أي حد كانت الولايات المتحدة أو الحكومات الغربية قادرة على منع الانقلاب ضد حمدوك في العام 2021. كان الدستور الانتقالي المدعوم من الولايات المتحدة خياراً سيئاً. لكن أثّرت السياسات الأميركية والغربية اللاحقة في السودان على أعمال العنف التي يشهدها البلد راهناً بطريقة مباشرة. إنها واحدة من قصص بناء السلام الغربية التي تبقى محدودة على مستويات عدة.

يتحمّل الجنرالات السودانيون المتناحرون المسؤولية الأولى عن القتال المتفاقم في السودان. لكنّ الحدث الذي سرّع مسار الحرب الراهنة هناك يتعلق باتفاق مصالحة وخطة لإصلاح القطاع الأمني بدعمٍ من الولايات المتحدة وبعثة الأمم المتحدة في السودان. بعد الانقلاب على حمدوك، أعادت واشنطن والأمم المتحدة إحياء تلك الخطة فوراً، ما يعني العودة إلى نسخة من دستور العام 2019 الفاشل والوثوق بقدرة القادة العسكريين على تحقيق وعودهم.

كانت الفكرة الأساسية من إصلاح القطاع الأمني تتعلق بتوحيد القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وجمعها في إطار جيش واحد. يصعب تقدير حجم كل قوة منهما. تشمل القوات المسلحة السودانية حوالى مئة ألف جندي، بينما تضم قوات الدعم السريع جيشاً أصغر حجماً يتراوح عدد عناصره بين 30 و50 ألف مقاتل، لكنها تشمل أيضاً قوة احتياطية كبيرة لأنها تستطيع حشد حلفائها القبليّين.

استمرت المفاوضات طوال أشهر لمحاولة إقناع الطرفَين بالموافقة على المسار اللاحق. لكن لم يرغب البرهان ولا حميدتي في التخلي عن سلطتهما المستجدة. سرعان ما أصبحت تلك الخطة أشبه بقنبلة موقوتة. يقول دبلوماسي غربي في الخرطوم، بعد واحدة من جلسات التفاوض بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع: "تدهور الوضع بكل وضوح لأن جميع المشاركين كانوا مجرّد هواة. الدبلوماسيون والمسؤولون هنا يفكرون بشكلٍ سطحي".

كانت نتيجة تلك الخطة متوقعة لأنها تُكرر أحداثاً تاريخية سابقة. وكانت جهود صناعة السلام تكراراً للاتفاقيات التي أُبرِمت في جنوب السودان في العامَين 2013 و2016. أدت تلك الاتفاقيات بدورها إلى انـــدلاع حروب أهلية.

يفصّل شاراث سرينيفاسان في كتابه الممتاز When Peace Kills Politics (حين يقتل السلام السياسة) تأثير صناعة السلام الدولية في السودان وجنوب السودان على هذه الأنواع من الحروب الأهلية، فيقول: "قد تجازف جهود صناعة السلام بتكرار منطق العنف لأن طريقة عملها تتعارض بكل وضوح مع سياسات الحروب الأهلية".

على غرار ما يحصل في كل مكان، أطلقت إصلاحات القطاع الأمني في السودان منافسة شجّعت حميدتي والبرهان على تعزيز قوتهما. كان هذا الوضع يعني أيضاً أن يضطر الرجلان للخضوع لسيطرة مدنية، وهو وضع لا يصبّ في مصلحة أي منهما. التزم الجنرالات علناً بتطبيق الإصلاحات وإرساء الديمقراطية، لكن بدا وكأن أحداً لم يصدّقهم باستثناء المسؤولين في واشنطن والأمم المتحدة.

يعترف الدبلوماسيون بأنهم كانوا يملكون أدوات محدودة لوقف العنف في السودان. تسعى الولايات المتحدة ودول أخرى إلى دعم وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية وللسماح للمدنيين بالوصول إلى بر الأمان وجمع المواد الغذائية، لكن لم يلتزم أحد ببنود هذا الاتفاق بالكامل بعد. سيكون الضغط على مصر والإمارات العربية المتحدة أساسياً لتجنب أي صراع إقليمي محتمل وفرض وقف إطلاق النار كي يتمكن المدنيون من الهرب. في غضون ذلك، قد تبدأ جهود مكثفة لإجلاء المواطنين الأميركيين قريباً. لكن بعد انتهاء الأزمة الراهنة، يجب أن يعترف المعنيون بأن السياسة الأميركية والغربية لم تفشل في إرساء الديمقراطية فحسب، بل إنها شاركت أيضاً في تسريع انهيار السودان.

في مطلق الأحوال، لم يتّضح بعد مدى استعداد واشنطن لهذه المرحلة. حين بدأ القتال في 15 نيسان، كرر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الأوهام الأميركية المعتادة عن السودان، فقال: "إنها فرصة حقيقية لإطلاق العملية الانتقالية بقيادة المدنيين أخيراً".