ثور شرودر

الرئيس التونسي يعود إلى زمن الإستبداد

4 أيار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

يُعتبر اعتقال راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة التونسية التي أصبحت من أهم مراكز القوة السياسية في آخر عشر سنوات، أحدث مثال على حملة القمع المستجدة في تونس. منذ فترة غير طويلة حمل هذا البلد، الذي شَهِد انطلاقة الربيع العربي، آمالاً كبرى ببزوغ مستقبل ديمقراطي. في كانون الأول 2010، أحرق بائع الفاكهة محمد البوعزيزي نفسه في بلدة سيدي بوسعيد، في وسط تونس، فأطلق بذلك ثورة الياسمين. ثم انتفض الشعب التونسي للمطالبة بالخبز والكرامة والحرية.



بدا نشوء دولة ديمقراطية في تونس ممكناً بعد انتهاء عهد الدكتاتور زين العابدين بن علي. حضر آلاف الناس إلى المطار عند عودة الغنوشي من المنفى، وأصبحت حركة النهضة مُمَثّلة في البرلمان وتحوّلت إلى عنصر أساسي لتطوير الديمقراطية خلال السنوات اللاحقة.

لكن منذ وصول قيس سعيد إلى الرئاسة في تشرين الأول 2019، بدأ البلد يسير في اتجاه استبدادي مجدداً. في العام 2021، قام سعيد بتعليق عمل البرلمان، وجمّد الحكومة المُنتخَبة، وعيّن أشخاصاً محسوبين عليه في السلطة. ثم اتخذ الخطوات اللازمة لحصر جميع الصلاحيات بيده. لكنه لم يكتفِ بصبّ غضبه على المعارضة، بل هاجم في الفترة الأخيرة المهاجرين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء، فاعتبرهم "جحافل" من المجرمين. كذلك، نُشِرت تقارير عن زيادة أعمال العنف والقمع ضد المهاجرين في فترة سابقة. يعيش عدد كبير منهم اليوم في خوفٍ دائم من فقدان حياتهم.

يقبع أكثر من 20 شخصاً وراء القضبان في تونس اليوم لأسباب سياسية. منذ شهر شباط الماضي، تم احتجاز سياسيين معارضين، وصحافيين، ورؤساء نقابات، وناشطين. يعتبرهم سعيد "خونة" أو "إرهابيين"، وقد هدّد خصومه بإطلاق حرب عنيفة. تقول إيزابيل ويرينفيلز، محللة لشؤون المغرب العربي في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن "جميع الأصوات العالية التي كانت تنادي بالديمقراطية تلاشت اليوم".

لكن لم تكن المشاكل التي واجهتها تونس في السنوات الأخيرة تنجم عن التطورات المحلية بكل بساطة، بل طرحت ظروف البلدان المجاورة تحديات كبرى على البلد أيضاً. انهارت ليبيا، وانعكست الاعتداءات الإرهابية على قطاع السياحة في تونس، وانضم عدد من الشباب التونسي إلى حركة الجهاد، واتُهِمت حركة النهضة بدعم متطرفين يسافرون إلى ليبيا وسوريا. ثم بدأت جائحة كورونا التي جاءت لتُضاف إلى موجة الجفاف الحادة التي اجتاحت تونس في السنوات الأخيرة. ثمة تقنين للمياه في العاصمة أيضاً، ومن المتوقع هذه السنة أن ينهار حصاد الزيتون بنسبة 50% وحصاد القمح بنسبة 70%.

يجد عدد كبير من التونسيين صعوبة في التكيّف مع زيادة الأسعار محلياً. في كشك للسندويشات في منطقة العوينية في العاصمة التونسية، تُعبّر عزيزة بن صالح (38 عاماً) عن غضبها بسبب المشاكل التي تواجهها راهناً لتأمين المنتجات التي تحتاج إليها. هي تقول إنها كادت تتعارك مع الآخرين للحصول على حزمة واحدة من الطحين الذي تستعمله الآن لتحضير الخبز المسطّح.

تقول والدتها سوهرا إن العملاء لا يفهمون السبب الذي يجعل سندويش التونة، والبيض المسلوق، والجبنة، وصلصة الهريسة، يكلّف أربعة دنانير تونسية، أي ما يساوي 1.20 يورو. لكنها توضح أن كلفة جميع المقادير المستعملة زادت وتؤكد على أنهم ما عادوا يستطيعون تحمّل كلفة اللحوم والموز والتفاح منذ فترة. زوجها مصاب بمرض في القلب وقد خضع لجراحة للتو. تتكل العائلة على كشك السندويشات الذي بدأ يدرّ أرباحاً متناقصة، وتقول سوهرا إنهم لا يعرفون إلى متى يستطيعون الاتكال على هذا المدخول.

انضم شقيق عزيزة الأكبر، قيس، إلى هذه المحادثة، فقال إنه اضطر للانفصال عن زوجته بسبب الوضع الاقتصادي: "أرادت زوجتي ألا أكتفي بتسديد الإيجار ودفع تكاليف الطعام". هو يعترف أيضاً بأنه لم يتمكن من إيجاد أي عمل خلال الأشهر القليلة الماضية، لا في قطاع البناء أو المطاعم ولا كحارس أمن، كما أنه يعجز عن دفع نفقة أولاده الثلاثة منذ شهرين.

تقول عزيزة بن صالح: "كنا نتوقع أن يتحسن الوضع بعد الثورة، فتُبنى المصانع وتكثر فرص العمل لأشخاصٍ مثلنا. لقد صوّتنا مرة واحدة فقط منذ ذلك الحين، حتى أننا لا نتذكر لمن صوّتنا". تضيف والدتها سوهرا: "لطالما تجاهَلَنا السياسيون".

يظن المراقبون أن الحكومات التي تعاقبت على السلطة بوتيرة متسارعة خلال السنوات التي تلت ثورة الياسمين أثبتت عجزها عن تفكيك المجموعات المعقدة والراسخة من الشركات المملوكة للدولة والبنوك والنقابات العمالية. أصبح القطاع العام متضخماً، ويكسب الموظفون الحكوميون رواتب مرتفعة، وتُستعمل مبالغ كبيرة من الأموال العامة لدعم المواد الغذائية والطاقة. تشكّل إعانات الطاقة وحدها حوالى 5% من الناتج المحلي الإجمالي.

يريد الرئيس قيس أن يحافظ على هذه الإعانات الحكومية مهما حصل، مع أن قرضاً مُصمّماً للبلد من صندوق النقد الدولي يتوقع إلغاء تلك المدفوعات. هاجم سعيد هذا الشرط الذي "يُمليه" عليه صندوق النقد الدولي وأعلن حديثاً أن بلده "ليس للبيع".

يقول آرام بلحاج، خبير اقتصادي في جامعة قرطاج، إن تونس أصبحت بأمسّ الحاجة إلى قرض بقيمة مليارَي دولار تقريباً من صندوق النقد الدولي: "يتوقف عدد من الاستثمارات الخارجية الأخرى على هذا القرض، بما في ذلك الاستثمارات التي يقوم بها بنك التنمية الأفريقي، والاتحاد الأوروبي، ودول الخليج". تبلغ نسبة البطالة في تونس اليوم 15%، ويصل التضخم إلى 10%، وبدأ الدينار التونسي يخسر قيمته. باختصار، أصبح البلد على شفير الانهيار.

تتابع فئات واسعة من الشعب دعم سعيد حتى الآن، إذ لا تزال نسبة تأييده تصل إلى 49% رغم تحركاته الصارمة.

لكن بدأ الرئيس يفتقر إلى شخصيات يستطيع مهاجمتها، فهو اعتبر المثليين "منحرفين"، وذهب إلى حد مهاجمة المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء في شهر شباط، خلال موجة الاعتقالات السياسية، فزعم أن القوى الخارجية تسعى إلى تغيير التركيبة السكانية في تونس.

في العاصمة، تكلم مهاجرون من أفريقيا جنوب الصحراء مع صحيفة "دير شبيغل" عن حصول اعتقالات عشوائية واعتداءات على يد عصابات مسلّحة زادت قوتها على ما يبدو بسبب خطاب الرئيس المليء بالكراهية.

يقول الشاب نيس من سيراليون إنهم حُرِموا من كل شيء. هو وحبيبته مريم يخيّمان في الوقت الراهن أمام مكاتب المنظمة الدولية للهجرة في وسط حيّ السفارات الراقي. يلعب الأولاد بالنفايات بين الخِيَم هناك، وتنتشر رائحة البول في كل مكان. تقول مريم الحامل إن المعتدين التونسيين عادوا مرتَين منذ الهجوم الأول، فضربوها بعصي خشبية ولم يستطع أحد القيام بشيء لتجنب ما حصل.

يقول نيس بأسلوب مبهم إن "عدداً من المنظمات" يستطيع مساعدتهم للوصول إلى أوروبا. هم لا يعتبرون العودة إلى وطنهم الأم خياراً وارداً. وقع نيس ضحية القمع السياسي في بلده وتراكمت الديون على حبيبته كما يزعمان. يضيف نيس أنه سمع من مهاجرين آخرين أن كلفة الوصول إلى لامبيدوسا بالمركب متدنية، فيقول: "تواصل معي شبان أصبحوا في أوروبا الآن. هذه المحاولات قابلة للنجاح".

وفق أرقام المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، سبق وخسر 200 شخص تقريباً حياتهم هذه السنة خلال حوادث بحرية قبالة الساحل التونسي. سجّلت وزارة الداخلية الإيطالية حوالى 40 ألف وافد بالمراكب منذ بداية السنة، وهو عدد يفوق الرقم المسجل خلال الفترة نفسها من السنة الماضية بأربعة أضعاف. أصبحت تونس اليوم أهم بلد منشأ في ممرّ البحر الأبيض المتوسط نحو الاتحاد الأوروبي، وقد أعلنت إيطاليا حديثاً حالة الطوارئ.

بدأت أصوات متزايدة من بروكسل وأعضاء الاتحاد الأوروبي تدعو إلى تكثيف التعاون الأوروبي مع تونس لكبح موجة الهجرة المتوسّعة. حذرت رئيسة الحكومة الإيطالية اليمينية، جورجيا ميلوني، المجلس الأوروبي من الوضع القائم حديثاً، فقالت: "إذا انهارت تونس بالكامل، قد تقع كارثة إنسانية كبرى ويصل عدد اللاجئين إلى 900 ألف شخص". هي طالبت بتقديم مساعدات فورية إلى تونس من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. يشكك المراقبون بالأرقام التي تطرحها، لكن عبّر النائب في البرلمان الأوروبي مانفريد ويبر، من حزب "الاتحاد الاجتماعي المسيحي" البافاري المحافِظ، عن دعمه لاتفاق شامل حول اللاجئين مع تونس في الأسبوع الماضي. بدأت المحادثات أصلاً بشأن دعم خفر السواحل المحلي رغم اتهامه بتفكيك المحركات في مراكب اللاجئين وتركهم لمصيرهم في المياه الدولية.

لكنّ القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء ليسوا الأشخاص الوحيدين الذين يريدون الرحيل من تونس في عهد قيس سعيد. يقول قيس بن صالح من كشك السندويشات في العاصمة التونسية: "لو كنتُ أملك مالاً كافياً، كنتُ لألجأ إلى الهجرة غير الشرعية منذ وقتٍ طويل. أفضّل أن تلتهمني أسماك القرش على البقاء هنا".


MISS 3