بعد 70 سنة..."سيمون فايل" أكثر أهمية من أي وقت مضى!

12 : 52

في العام 1949، أضافت أعرق دار نشر فرنسية، "غاليمار"، كتاباً جديداً إلى سلسلة Espoir (أمل). في زمنٍ كان فيه "الأمل" داخل فرنسا يقتصر على لقمة العيش، حمل هذا الاسم بُعداً تفاؤلياً. كانت فرنسا نهضت للتو من أنقاض الحرب العالمية كي تغرق في مستنقع الحرب الباردة. لم تكن مقدمة الكتاب التي صاغها محرر السلسلة مُطمئنة، إذ حذرت من احتواء الكتاب المقتبس من مخطوطة غير مكتملة على تحليل قاسٍ، أو حتى عنيف، للظروف البائسة التي تواجهها أوروبا. لكنها أعلنت أن فهم "نهضة أوروبا" مستحيل إذا تجاهلنا رسالة الكاتبة.

كان المحرر صوت المقاومة والوجودية الفرنسية المعروف عالمياً، ألبير كامو، وكان الكتاب الذي صاغ مقدمته بعنوان The Need for Roots (الحاجة إلى الجذور). لم يقابل يوماً الكاتبة التي توفيت في العام 1943 في إنكلترا، حين كانت تعمل كمُحللة لـ"قوات فرنسا الحرة" في عهد شارل ديغول. الكتاب عبارة عن وثيقة سياسية عن فرنسا بعد حقبة الحرب. وكما اعتاد الجنرال على التعامل مع وثائق هذه المُحلِّلة بالذات، عمد إلى تجاهل العمل هذه المرة أيضاً. منذ نشر الكتاب قبل 70 سنة، لم يوقف العلماء الكتابة عن مؤلفته سيمون فايل. واستكشف المنظّرون السياسيون تحديداً ما سمّاه كامو "مطالب" فايل في كتاب The Need for Roots. صحيح أن النص غير مكتمل، لكنّ قيمته اليوم تبدو أكبر من أي وقت مضى، في عالمٍ اضطر فيه 70 مليون شخص للهجرة قسراً من أوطانهم، وفي عصرٍ يشهد توسعاً عنيفاً لسياسات الهوية والقومية الإثنية وتراجعاً غير مسبوق لقيمة حقوق الإنسان، تطرح فايل حلاً غريباً لكن مقنعاً!

فكتبت: "قد يكون التجذر أهم حاجة للروح البشرية وأقلّها تقديراً. لكل إنسان جذوره الخاصة بفضل مشاركته الفعلية والناشطة والطبيعية في الحياة الاجتماعية التي تحافظ على كنوز محددة من الماضي وتوقعات معينة عن المستقبل". من خلال هذا الإعلان الصريح، تستعمل فايل استعارة كانت راسخة في الخطاب السياسي الفرنسي. في منتصف القرن العشرين، كانت مناقشة الهوية الفرنسية من دون ذكر مفهوم الجذور مستحيلة.

لمعالجة مشكلة الانسلاخ عن الجذور، يقضي الحل برأي فايل بتقبّل أحد أسبابها الأساسية: "يحتاج العالم في الوقت الراهن إلى نزعة وطنية جديدة".

اعتبرت فايل أن الفرنسيين، بدل أن يجددوا ولاءهم لإعلان حقوق الإنسان والمواطن، يجب أن يطالبوا بـ"إعلان حاجات الإنسان والمواطن".

وضعت فايل الواجبات البشرية في صلب القومية وغيّرت بذلك المكانة التقليدية التي يحملها الوطن بنظر القوميين، باعتباره مصدر القيمة النهائي. فكتبت: "الوطن واقع، والواقع ليس قيمة مطلقة". على عكس الفخر بالوطن الذي يستحيل تصديره إلى أوطان أخرى، يُعتبر التعاطف بطبيعته دافعاً عالمياً.

من وجهة نظر فايل، كانت "المسؤولية المريعة" التي تحمّلتها المقاومة الفرنسية تتجاوز هزيمة ألمانيا النازية. لذا تكلمت عن توعية شباب الوطن، إذ لطالما تعلّم الأولاد أنّ "المسائل المرتبطة بالبلد...لها درجة من الأهمية تُميّزها عن المواضيع الأخرى. لكن بسبب تلك المسائل تحديداً، يغفل الجميع عن العدل، ومراعاة الآخرين، والواجبات التي ترسم حدود الطموحات والأذواق".

بعد مرور أكثر من نصف قرن، لم يتغير الكثير في المناهج الدراسية والخطاب السياسي على طرفَي الأطلسي. رغم وفرة الكتابات حول حقوق الإنسان، ثمة شح في الكتب المرتبطة بالواجبات الإنسانية. فيما يعجّ بريدنا الإلكتروني برسائل من منظمات على غرار "مراقبة حقوق الإنسان" و"حقوق الإنسان بلا حدود" و"رابطة حقوق الإنسان"، لا نتلقى شيئاً من منظمة "مراقبة واجبات الإنسان" لأن هذا النوع من المنظمات غير موجود أصلاً.

لكنّ هذا النقص جزء من الشوائب التاريخية كما يقول المؤرخ سامويل موين. حتى القرن العشرين، كانت الالتزامات والواجبات محور النقاشات القضائية والفلسفية، بينما بقيت الحقوق مسألة جانبية. بعد انقلاب الأدوار اليوم، كتب موين أن العواقب تبدو هائلة: "لا مفر من أن تتلاشى حقوق الإنسان بحد ذاتها حين يفشل المدافعون عنها في مناقشة الواجبات. بقدر ما يكون الامتثال للمعايير المكتوبة مطلوباً، لا بد من الاعتراف بأصحاب الواجبات وتشجيعهم على تحمّل عبئهم". في الذكرى السبعين لكتاب فايل الساخط والمحوري، يجب أن نتذكر جميعاً هذه الحقيقة!


MISS 3