في معنى الأيديولوجيا وفي دور الفكر في التاريخ

03 : 15

أثار انهيار التجربة الاشتراكية الكثير من الأسئلة حول مسار حركة التاريخ. وكان من بين هذه الأسئلة ما هو مشروع وطبيعي وما هو غير مشروع وغير طبيعي. وهو أمر مألوف في مثل هذه المنعطفات الكبرى التي تحصل في التاريخ. وإذا كان البعض من أنصار الاشتراكية القدامى والجدد قد عادوا الى "شبح" ماركس ليبدأوا التاريخ من جديد بالطريقة ذاتها وفق أهوائهم ووفق أحلامهم الرومانسية التي مضى زمنها، فإن بعض من يصنفون أنفسهم خصوماً ألدّاء للاشتراكية من منظّري الليبرالية المحدثين قد تطوعوا لابتداع أفكار غريبة تتمحور في جوهرها حول فكرة أساسية مفادها أن الاشتراكية كانت حدثاً طارئاً على تاريخ البشرية وأن زوالها كان من طبائع الأمور! وكان من أبرز تلك الأفكار التي ابتدعها هؤلاء المفكرون الليبراليون الفكرة التي تقول بانتهاء زمن الأيديولوجيات، استناداً الى ما ساد في التجربة الاشتراكية من تأكيد بأن الماركسية هي أيديولوجية الشيوعيين والاشتراكيين وأيديولوجية أهل اليسار بمدارسهم المختلفة. وهو خطأ خالفنا فيه نحن الشيوعيين بنسب متفاوتة ما كان قد أكد عليه ماركس في شكل قاطع بأن أفكاره وأفكار الاشتراكية ليست عقيدة، وأن للأفكار تاريخاً تتغير فيه وتتجدد، يشيخ بعضها ويولد بديل جديد منها بصورة دائمة. تقودني هذه الإشكالية حول علاقة الفكر بحركة التاريخ الى طرح السؤال الآتي: هل صحيح بأن عصر الأيديولوجيات قد انتهى؟ وأطرح بالمقابل سؤالاً آخر هو: هل صحيح أن للأيديولوجيات في الزمن الحالي المعنى ذاته والمفهوم ذاته في الفكر وفي الممارسة اللذين سادا في القرن الماضي؟

سؤالان يتطلبان الإجابة عنهما بالقدر الضروري من الموضوعية والواقعية والحذر من الوقوع في التفسير المسطح للأمور وللظاهرات وللأحداث. لكنني أستطيع، قبل الانخراط في محاولة الإجابة على السؤالين، إلا أن أتوقف عند ما بدا، في نظر ممن ينتمون الى تيار الليبراليين الجدد، ما يشبه "التلازم" بين مفهومي نهاية عصر الأيديوليوجيا ونهاية التاريخ. وهو "تلازم" غريب في فهم قوانين التاريخ. ربما يعود ذلك الى "الهوس" في قراءة التحولات التاريخية الى الآثار "المذهلة" التي ولّدها الانهيار المدوي للتجربة الاشتراكية بعد ثلاثة أرباع القرن من قيامها ومن الأحلام الكبرى التي وعدت البشرية بها!

وأبادر الى القول، تعليقاً على تلك الأفكار "الغريبة" في قراءة حركة التاريخ، بأن فشل التجربة الاشتراكية – وهي الأولى من نوعها في تاريخ العالم- لا يمكن أن ينهي حلم البشرية الدائم في السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية مقرونة بالتقدم وبالحرية لبني البشر. بل إن أفكار ماركس، حتى وإن شاخ الكثير منها وانتهى زمانه، ستبقى واحدة من أعظم ما أنتجه الفكر الإنساني في الألفية الثانية. وبهذا المعنى فليس صحيحاً بالمطلق الكلام عن نهاية التاريخ الذي أطلقه المفكر الياباني الأميركي فوكوياما. ومعروف أن فوكوياما ذاته قد اضطر الى تصحيح وتدقيق فكرته حول نهاية التاريخ وألغى منها طابع الحسم الذي ساد فيها. جاء ذلك في حديث أدلى به الى مجلة "الكرمل" الفلسطينية بعد بضعة أعوام من صدور كتابه الشهير الذي يحمل عنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير".

على أنني، استناداً الى رفض ماركس تحويل أفكاره وأفكار الاشتراكية الى عقيدة "جامدة" أي الى أيديولوجيا، عدت الى القواميس والموسوعات أبحث فيها عن معنى كلمة أيديولوجيا. فاكتشفت أن أصل الكلمة هو الجمع بين كلمة Idee أي الفكرة وكلمة Logos اليونانية، أي العلم. فيكون المعنى الأصلي للكلمة هو "علم الأفكار". وتعني هذه الكلمة في الاستخدام السياسي لها، قديماً وحديثاً، إعطاء طابع علمي للأفكار من قبل أصحاب الأيديولوجيات الشائعة، لكي يجعلوا من أفكارهم عقائد ثابتة وراسخة. ويلتقي في هذا الأمر أصحاب الفكر العلماني وأصحاب الفكر الديني كل منهم على طريقته ووفق مرجعيته الفكرية.

في ضوء هذا "الاكتشاف" عدت الى بعض المفكرين الكبار من القرنين التاسع عشر والعشرين لأقرأ كيف استخدموا مقولة الأيديولوجيا. وأكتفي هنا برأي كل من إنجلز وغرامشي. يقول انجلز:" .. إن انعكاس العلاقات الاقتصادية في صورة مبادئ حقوقية يضع هذه العلاقات رأساً على عقب بحكم الضرورة ذاتها. فإن عملية الانعكاس هذه إنما تجري بمعزل عن إدراك العنصر الفاعل، فالحقوقي يتصور أنه يعمل بموضوعات بديهية، في حين أن هذه الموضوعات ما هي إلا انعكاس للعلاقات الاقتصادية. وهكذا يقف كل شيء رأساً على عقب. إن هذا التشويه الذي ينفذ أمامنا إن هو، ما لم نكتشفه، سوى ما نطلق عليه اسم العقيدة الإيديولوجية، التي تؤثر بدورها تأثيراً مباشراً في البناء التحتي الاقتصادي".

ويقول غرامشي في كتابه "كراسات السجن: "كانت "الأيديولوجيا"، ومعناها الأصلي علم الأفكار، أحد مظاهر المذهب الحسي، اي المادية الفرنسية في القرن الثامن عشر. ولما كان التحليل هو المنهج الوحيد الذي يعترف به العلم ويستخدمه فإن "الأيديولوجيا" تعني "علم الأفكار"، أي " البحث عن أصل الأفكار". لذلك لا بد من تحليل الأفكار وإعادتها الى عناصرها الأولى. فهي ليست سوى "الإحساسات" التي منها تُستمد الأفكار.. أما كيف تحوّل مفهوم الأيديولوجيا من "علم الأفكار" و "تحليل الأفكار" الى "نسق" مجرد من الأفكار، فيحتاج الى بحث تاريخي. وهي عملية يسهل فهمها من الناحية المنطقية.. ويبدو لي أن عنصر الخطأ المحتمل في تقدير أهمية الأيديولوجيا ـ إنما يرجع الى (وهذا ليس مصادفة على الإطلاق)، أن تعبير ايديولوجيا يطلق على البنية الفوقية الملازمة لبنية محددة، كما يطلق على هلوسات البعض وأوهامهم.. لقد أصبح المعنى القبيح للكلمة هو المعنى الشائع. وترتب على ذلك تغير وتشوه التحليل النظري لمفهوم الأيديولوجيا".

في ضوء هذا التوضيح من قبل هذين المفكرين الاشتراكيين الكبيرين لمعنى كلمة أيديولوجيا يصبح الحديث عن الأيديولوجيا بالمعنى المتداول مخالفاً لحقائق التاريخ واللغة. وبهذا التوضيح الذي يحرر الفكر الإنساني من طابعه العقائدي يظهر الدور الحقيقي للفكر في حركة التاريخ. إذ لا تقدّم في هذه الحركة من دون فكر. لكن الفكر هو دائماً تاريخي، بمعنى إنه ينتمي الى تاريخ معيّن ثم يخلي مكانه لفكر آخر جديد ينتمي الى زمن جديد. الفكر في حركته المتواصلة وفي تجدده الدائم هو إذاً الأساس في حركة التاريخ. إنه سيّد التاريخ.(*) مفكّر وقيادي سابق في الحزب الشيوعي