ليز كوكمان

أولاد أوكرانيا ليسوا بخير

6 أيار 2023

02 : 00

إيرينا تحتضن ابنها البالغ من العمر 13 عامًا، الذي تمّ إنقاذه من الحجز الروسي | أوكرانيا، 8 نيسان ٢٠٢٣

عندما طلبت ابنتا سفيتلانا ماركينا الذهاب إلى مخيّم عطلة في شبه جزيرة القرم التي تحتلها روسيا في تشرين الأول الماضي، ظنّت الأم أنها الفرصة الوحيدة كي تبتعد ابنتاها عن أجواء الحرب الوحشية والمُتعِبة.

قال المعلمون في المدرسة إنها فرصة كي تستريح الفتاتان، يانا (15 عاماً) وييفا (12 عاماً)، وتستجمعا طاقتهما بعيداً عن مدينة "خيرسون" التي كانت تتعرّض للقصف مع اقتراب الهجوم الأوكراني الجنوبي المضاد. أصبحت هذه المدينة تحت الاحتلال الروسي بعد بدء الغزو الشامل في شهر شباط مباشرةً. قال أعضاء من الإدارة الروسية بكل إصرار: "لماذا تريدين إبقاء ابنتَيك هنا؟ لماذا تريدين حرمانهما من البحر والهواء المنعش؟".

أجابت ماركينا (36 عاماً)، وهي امرأة أصلها من شبه جزيرة القرم لكنها لم تتمكن من زيارة المنطقة منذ أن ضمّتها إليها روسيا بطريقة غير شرعية في العام 2014: "أنا أم عازبة وأعمل بدوام كامل في مصنع، وكان وضعنا صعباً أصلاً قبل بدء الحرب. حتى أن الفتاتَين لم تغادرا خيرسون سابقاً".

في 7 تشرين الأول، ركبت يانا وييفا في حافلة، برفقة عشرات الأولاد الآخرين، وكانتا تحملان شهادة ميلادهما الأصلية تماشياً مع التعليمات التي تلقاها الأولاد. يقول يورا فيربوفيتسكي (15 عاماً)، الذي كان على متن إحدى الحافلات في ذلك اليوم، إن الجو كان حماسياً ولا يثير الخوف. لكن حين انطلقت الحافلات، رسم الجنود الروس الذين كانوا يشرفون على الرحلة إشارة الصليب، فبدأ الأولاد يتساءلون حينها عن حقيقة ما يحصل.

لم يعد الأولاد من الرحلة بعد مرور أسبوعين، كما وعدت الإدارة الروسية. تقول ماركينا: "أدركتُ حينها أن الفتاتَين لن تعودا، وحاولتُ التواصل مع المدرسة لكني لم أجد أحداً". مرّ أسبوعان آخران، ثم وصلت القوات الأوكرانية إلى "خيرسون" وحررتها من الاحتلال الروسي، لكنها تركت ابنتَي ماركينا عالقتَين على الطرف الآخر من حرب شاملة، في ظل غياب أي معابر حدودية مفتوحة نحو شبه جزيرة القرم.

طوال أشهر، لم تتمكن العائلات في "خيرسون" من التواصل مع أولادها الغائبين إلا عبر تطبيقات المراسلة أو المكالمات الهاتفية من وقتٍ لآخر، وكان التواصل ينقطع بينهم طوال أسبوع أحياناً حين تتعطل شبكات الهواتف بسبب القصف المكثّف. عاشت هذه العائلات معاناة كبيرة حين اضطرت لتمضية عيد الميلاد ورأس السنة وأعياد ميلاد الأولاد بعيداً عنهم. تقول والدة يورا، توما فيربوفيتسكي (45 عاماً)، إنها كانت ترتدي ملابس ابنها وتتجول في المنزل للشعور بأنه قريب منها.

وفق مكتـــب المعلومـــات الوطني الأوكراني، سيق أكثر من 16 ألف طفل إلى روسيا أو الأراضي التي يسيطر عليها الروس منذ بدء الغزو في شباط الماضي. لكن تشير تقديرات أخرى إلى تجاوز هذا الرقم عتبة 400 ألف. تزعم موسكو أن الأولاد الموجودين راهناً في عهدتها كانوا يتامى أو طلبوا إجلاءهم، لكن تحذر كييف من مؤامرة أكثر وحشية بكثير: تحصل إبادة جماعية بين الأجيال في محاولة لمحو هوية أوكرانيا عبر سرقة مستقبل البلد.

اعتبر المجتمع الدولي عمليات الترحيل جريمة حرب، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف في شهر آذار بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومفوضة حقوق الطفل التابعة له، ماريا لفوفا بيلوفا، التي تبنّت شخصياً الفتى فيليب (15 عاماً) من "ماريوبول".

لكن عاد عدد صغـير من الأولاد الأوكرانيين إلى دياره. سمعــت ماركينا وفيربــــوفيتسكي وآخرون عن الجمعية الخيرية "أنقذوا أوكرانيا" التي كانت تسعى إلى إعادة الأولاد الأوكرانييـن، عبر مجموعـة محلية على "تلغرام". بعد شهرَين من التخطيط المترافق مع أعلى درجات التوتر، بدأت مجموعة من 13 امرأة، في بداية شهر نيسان، رحلة شاقة عبر بولندا، وبيلاروسيا، وصولاً إلى أرض العدو، لإنقاذ 31 طفلاً. تجمّع هؤلاء في نهاية المطاف داخل مخيّم على الجهة الغربية من شبه جزيرة القرم.

قالت ماركينا والدموع في عينيها عند وصولهم إلى كييف بعد مرور أسبوع: "أشعر بخدر في ساقيّ، ووخز في يديّ، وتورّم في كاحليّ. كانت الرحلة طويلة وشاقة جداً، لكني اجتمعتُ مجدداً مع ابنتيّ".

وقالت فيربوفيتسكي أثناء نزولها من الحافلة وهي لا تزال ترتدي سروال يورا الرياضي: "أنا سعيدة للغاية. لقد استرجعتُ ابني ولم أعد أشعر بالنقص. كنتُ أختنق بمعنى الكلمة قبل عودته".

كان القانون الروسي يمنع تبني الأولاد الأجانب من دون موافقة بلدهم الأم حتى شهر أيار الماضي، لكن وافق بوتين بعد تلك المرحلة على مرسوم لتخفيف القيود المعمول بها. تتلقى العائلات الروسية المستعدة للتبني مبالغ من المال، ويذكر المركز الإقليمي لحقوق الإنسان في أوكرانيا أن العائلات الروسية تبنّت 400 يتيم أوكراني على الأقل، وقد احتسب هذا الرقم في شهر كانون الثاني استناداً إلى بيانات الحكومة الروسية. تقول روسيا من جهتها إن ألف يتيم آخر ينتظرون من يتبناهم أيضاً. رصد بحث نشره مختبر الأبحاث الإنسانيـــة في جامعة "يال"، في شهر شباط، 32 معســـكر "اندماج" حيث يتم تلقين تاريخ روسيا، وحملتها الدعائية، ولغتها، وثقافتها، للأولاد.

حتى الآن، استرجعت جمعية "أنقذوا أوكرانيا" 95 طفلاً، ويجري العمل على استعادة مئة آخرين. يعود بعضهم وهو يحمل قصصاً عن عقوبات قاسية وأنظمة صارمة. يقبع طفل عائد واحد على الأقل في جناح الطب النفسي اليوم.

لم يتكلم أبناء ماركينا وفيربوفيتسكي عن تعرّضهم لسوء المعاملة، مع أن ممثلين عن جمعية "أنقذوا أوكرانيا" قالوا إن الأولاد يحتاجون أحياناً إلى بعض الوقت كي يستوعبوا ما أصابهم. تكلم طفل من تلك المجموعة، خلال مؤتمر صحافي من تنظيم "أنقذوا أوكرانيا"، عن وجود صراصير في غرف الطعام، وتعفّن الوسائد، وتعرّض بعض الأولاد للضرب. يخضع الأولاد العائدون لإعادة التأهيل مع فِرق متخصصة بالصحة النفسية طوال ثلاثة أشهر.

يمكن الإبلاغ عن موقع أي طفل عبر الخط الساخن لجمعية "أنقذوا أوكرانيا"، أو الشرطة، أو المنظمات غير الحكومية، أو من جانب الأمهات أو الأولاد أنفسهم. يواجه العاملون في الجمعيات الخيرية مخاطر كبرى إذا حاولوا قطع الحدود، ولا يستطيع الرجال بين عمر الثامنة عشرة والستين مغادرة أوكرانيا بسبب قرار التعبئة. تنظم جمعية "أنقذوا أوكرانيا" ممراً لهذه العمليات، وتدفع التكاليف عبر هبات خاصة، وتساعد الأمهات أو نساءً من أفراد العائلة على بلوغ روسيا أو الأرض التي يسيطر عليها الروس. تُلَقّن المنظمات النساء ما يجب قوله على الحدود، والصور التي يجب حذفها من الهواتف، وكيفية التعامل مع جلسات الاستجواب.

كانت يدا ماركينا ترتعشان بسبب التوتر حين انطلقت النساء من كييف، فقالت في تلك اللحظات: "أنا خائفة جداً من وقوع خطبٍ ما وعدم تمكّني من الوصول إلى ابنتيّ". ركبت النساء طائرة متجهة إلى موسكو من بيلاروسيا، قبل قطع ألف ميل بالسيارة نحو شبه جزيرة القرم. على طول الطريق، مرّت النساء بحواجز شرطة عدائية وخضعن للاستجواب لساعات في المطار. كانت تلك الرحلة مُتعِبة جسدياً لدرجة أن تتعرض امرأة في المجموعة، اسمها أولغا (65 عاماً)، لنوبة قلبية وتموت في "كراسنودار"، قبل ساعات من بلوغ المعبر نحو شبه جزيرة القرم.

في معسكر "دروزبا" (تعني هذه الكلمة "الصداقة" باللغة الروسية)، في "يفباتوريا"، حيث أقام عشرات الأولاد، حصل لمّ شمل عاطفي جداً. تقول ماركينا: "كانت الضجة صاخبة لأن جميع الأولاد راحوا يصرخون "ماما، ماما"! تبادلنا جميعاً العناق وبكينا سوياً طوال 15 دقيقة متواصلة ولم نتمكن من إفلات بعضنا البعض". لاحظت كل أم أن أولادها أصبحوا أطول قامة أثناء فترة غيابهم.

بعد مرور ساعة فقط، بدأت النساء رحلة العودة وسَلَكْن المسار نفسه، لكن في اتجاه معاكس، برفقة ييفا، ويورا، ومعظم الأولاد الآخرين. بقي حوالى 14 طفلاً أوكرانياً في المعسكر نظراً إلى استحالة تسليمهم إلا لفرد مقرّب من عائلتهم. كان حفيدا أولغا من بينهم. تعمل جمعية "أنقذوا أوكرانيا" على إطلاق مهمة أخرى لاسترجاعهم.

لكن تواجه العائلات العائدة اليوم تحدياً جديداً: العودة إلى مدينة "خيرسون" التي تتابع تعافيها من احتلال امتد على ثمانية أشهر. لا يزال العمل محدوداً، والمتاجر المفتوحة قليلة، وتتعرض المنطقة للقصف بشكلٍ متكرر. تقول يانا: "الجانب الإيجابي الوحيد من وجودنا في المعسكر هو ابتعادنا عن خط المواجهة وعدم وقوع أي انفجارات".

يوم الجمعة وحده، تعرّضت منطقة "خيرسون" للقصف 96 مرة. استمر القصف يوم السبت أسفر عن مقتل أم وابنتها. تلقى السكان المحليون تحذيراً يمنعهم من التجمّع للاحتفال بعيد الفصح الأرثوذكسي، وأعلنت أوكرانيا عن خطط لإطلاق هجوم جديد في الربيع لاسترجاع المزيد من الأراضي التي تسيطر عليها روسيا، ما قد يؤدي إلى شن ضربات انتقامية إضافية.

في النهاية، يقول يورا: "أنا أخاف من العودة إلى خيرسون الآن لأن القصف عنيف هناك. قد يكون الوضع مخيفاً، لكنه وطننا. سأعتاد على ما يحصل".


MISS 3