الكورونا... هل يقوّي نظام الصين الاستبدادي؟

12 : 25

أبحرت الصين في طريق شاق في خضم معركتها ضد مرض "كوفيد - 19" المشتق من سلالة جديدة من فيروس كورونا نشأت في "ووهان" في كانون الأول 2019.

أطلقت الحكومة "حرباً شعبية" ضد الفيروس، فأغلقت المدن والمحافظات وحاولت استعمال قطاعها الصناعي العملاق للحد من انتشار المرض. وبعد أسابيع من تسجيل حالات متزايدة من الإصابات والوفيات، بدأ انتشار الفيروس يتراجع بعدما بلغ ذروته، بحسب بيانات الحكومة الصينية الرسمية على الأقل.

في خضم المساعي إلى احتواء الفيروس ومحاربته، استعملت الحكومة الصينية مجموعة واسعة من الحلول المتطورة تقنياً، تزامناً مع الحد من حركة الناس. فعمدت إلى تطوير واستعمال نظام "أليباي" الصحي، من إنتاج شركة Ant Financial التابعة لشركة التكنولوجيا العملاقة Alibaba، وهو تعاون أولي مع حكومة "هانغتشو" المحلية حيث يقع مقر الشركتين معاً. تذكر صحيفة "نيويورك تايمز" في إحدى مقالاتها أن التطبيق يرسل بيانات المستخدم، بما في ذلك موقعه وأرقام رمز التعريف، إلى الشركات المعنية وسلطات أخرى. كذلك، تسعى شركة التكنولوجيا العملاقة الصينية Tencent التي تملك تطبيق WeChat، بالتعاون مع الحكومة، إلى ابتكار أنظمة رقمية لمراقبة السجلات الصحية وتعقبها، وهي ترسل معلومات مشابهة إلى الجهات ذات الصلة.

بالإضافة إلى قواعد بيانات الحكومة عن رحلات السفر المحلية وحجوزات الفنادق المرتبطة بأرقام بطاقات الهوية الوطنية، تثبت هذه الجهود الحثيثة أن الحكومة الصينية تحاول زرع نظام تعقب على مستوى البلد كله بحجّة احتواء الفيروس. نتيجةً لذلك، أدت المخاوف الصحية إلى إطلاق أحدث مرحلة من جهود ترسيخ النموذج الاستبدادي الصيني المتّصل بالشبكة. حتى الآن، كان معظم نظام المراقبة العامل بتقنيات فائقة التطور محصوراً في "معاقل المشاكل"، على غرار التِبَت وشينجيانغ. زرعت الحكومة أنظمة مراقبة واسعة في مناطق التِبَت بعد الانتفاضات والحوادث هناك بين العامَين 2012 و2015. وفي شينجيانغ، أنشأ الحزب الشيوعي الصيني نظام مراقبة جماعية بتقنيات متطورة، بفضل انتشار الشرطة في أنحاء المنطقة، وأعمال السخرة، ومخيمات إعادة التعليم والتدريب، وأنظمة السجون التي اختفى فيها ملايين المنتمين إلى جماعة الأويغور وسواهم. دافع الحزب الشيوعي الصيني عن هذه الجهود بقوة، حتى أنه أشاد بها بحجّة "الحفاظ على الاستقرار".

في هذا السياق، يقول الخبير القانوني تشو تشانغ رون إن الحكومة الصينية رسّخت حالة من "توتاليتارية البيانات الكبرى" أو ما يُسمّى "بيانات ليفياثان" في بكين. لكنّ أقوى جانب شامل من هذه الشبكة، كتلك المستعملة في شينجيانغ والتِبَت (تغطّيان معاً 30.14% من مساحة البلد الجغرافية لكن تقتصر نسبة السكان فيهما على 1.8%)، لم يصل بعد إلى بقية مناطق البلد. رغم سلبيات تفشي الفيروس على المستويين الاقتصادي والإنساني، شكّل مرض "كوفيد-19" فرصة مناسبة كي يرسّخ نظام شي جين بينغ والحزب الشيوعي الصيني هذا النموذج وينشروه على نطاق أوسع، ما يُمهّد في نهاية المطاف لاستعماله في معظم مناطق الصين أو في البلد كله. يمكن استعمال الفيروس إذاً كعذر مناسب لتعميق السيطرة التوتاليتارية على البلد وتدمير ما تبقى من المساحة الفردية المحدودة أصـــــلاً داخل الدولة.

في أي نظــــــام دكتاتوري، تتوقف جميع الطموحات والأهداف الأخرى على أمن النظام. قد يُعتبَر مرض "كوفيد - 19" تهديداً أمنياً شبه داخلي، مع أن بلداناً وحكومات أخرى تواجه الأزمة نفسها، وهو لا يطرح تهديدات بقدر الثورة الشعبية أو انتفاضة الناس. على صعيد آخر، لا يمكن معالجة "كوفيد - 19" باعتباره تهديداً أمنياً خارجياً تتجاوب معه الدول عبر إعطاء الأولوية للتطور الاقتصادي والعسكري. لهذا السبب، نشاهد نظام شي جين بينغ وهو يتعامل مع الوضع بطريقة منطقية وينشغل بالنجاة من الفيروس، فيتجاوب مع وباء "كوفيد-19" باعتباره وضعاً يتراوح بين تهديد أمني داخلي وخارجي (مع أنه أقرب إلى التهديد الناشئ من داخل الدولة). يتكل النظام في مقاربته على خصائص مشتقة من استراتيجيات الاستجابة لاستغلال الفرصة وفرض السيطرة بحجّة حماية الشعب.

أدى تفشي "سارس" بين العامين 2002 و2003 في الصين إلى تسليط الضوء على الثغرات في أدوات المراقبة الجماعية وجهاز مراقبة الدولة. إنه أحد الأسباب التي دفعت الحزب الشيوعي الصيني إلى التجاوب بطريقة مغايرة ومكثفة هذه المرة، بما يختلف عن ردة فعله عند تفشي "سارس". يعتبر البعض هذا الوضع دليلاً على التقدم الذي أحرزته الصين في طريقة معالجتها للأوبئة، لكن يكشف ظهور "كوفيد-19" المفاجئ جزءاً من المنافع المباشرة التي يمكن أن تحصدها الأنظمة الدكتاتورية من الحالات الصحية الطارئة عند وضعها في سياق أمني.

وفق التقييم المطروح حتى الآن، يبدو أن التكاليف الاقتصادية المترتبة عن "كوفيد - 19" ليست حادة بما يكفي كي تثير قلق الصين. بسبب هذا الوباء، من المتوقع أن يتراوح النمو الاقتصادي الصيني في العام 2020 بين 5 و6%، أي ما يساوي نصف معدل النمو الاستثنائي في العامين 2009 و2010، وأقل من المعدل المسجّل بين 2012 و2019 بـ 2 أو 2.5%. بالتالي، لا يبدو انتشار "كوفيد - 19" مقلقاً لدرجة أن يصبح أمن النظام الداخلي مُهدداً. بل إن المرض ساهم في الحد من القدرات الفردية، فقد زاد اتكال الناس على إمكانات الدولة لحمايتهم. في هذا الإطار، يشكّل الوباء فرصة فريدة من نوعها كي يجد الحزب الشيوعي الصيني التبرير اللازم لتشديـــد السياسة الأمنية.

في إطار أمن النظام، يمكن اعتبار مرض "كوفيد - 19" خطيراً بقدر الإرهاب على الأرجح، ما يعني أنه يتطلب مجموعة من البنى الضرورية لمراقبة المواطنين الصينيين على نطاق شامل، من خلال استعمال الطائرات بلا طيار لفرض الحجر الصحي، وإغلاق المدن، ووضع أقنعة الوجه، واتخاذ خطوات أخرى. لكن سيكون التراجع عن هذه التدابير الأمنية في المرحلة اللاحقة والعودة إلى الوضع "الطبيعي" السابق شبه مستحيل، حتى في الأنظمة الدكتاتورية المعاصرة. عند التعامل مع الأزمات الصحية بالصرامة التي طبّقها الحزب الشيوعي الصيني، لا مفر من أن يصبح المرض بمستوى التهديد الوجودي، ما يعني أن يستلزم سياسات واستجابات استثنائية.

تؤدي الأحداث والممارسات الحاصلة في الصين منذ كانون الأول 2019 إلى استنتاج عام مفاده أن الصين تجاوزت مرحلة ابتكار أجهزة الأمن والتحكم المتطورة تقنياً والمبنية على المراقبة في المناطق المضطربة وبدأت تطبّق هذا النموذج على المستوى الوطني. من خلال استعمال هذا الفيروس، يبدو أن الحزب الشيوعي الصيني يعالج مخاوفه المرتبطة بصمود النظام. منذ فترة طويلة، لم يكن النظام يتجاوز حدود عقده الاجتماعي غير المعلن خشية أن يؤثر على نماذج الحرية والمراقبة المحدودة أكثر من اللزوم. لكن قد يكون الوقت مناسباً لإحداث التغيير الذي يريده في ظل المخاوف من فيروس كورونا، تزامناً مع تشديد الرقابة من جانب شي جين بينغ. حتى أن هذا الوضع قد يكشف طبيعة استجابات الحزب الشيوعي الصيني مستقبلاً تجاه المسائل التي تتأثر بها الدول، على غرار التغير المناخي والركود والكساد وأي أزمات صحية أخرى. لقد ثبت أن الحكام الدكتاتوريين يتصرفون بدرجة من المسؤولية لصالح المجتمع عموماً، بما يتجاوز حدود الدولة، لكن تبقى أساليبهم طاغية أو تخدم مصالحهم الشخصية في الوقت نفسه. تثبت أزمة "كوفيد-19" وطريقة استجابة الصين للمرض أن الحزب الشيوعي الصيني لديه مسار منطقي للسيطرة على السكان وكبح الاضطرابات والحفاظ على الاستقرار.

أخيراً، يثبت كل ابتكار جديد لمحاربة الفيروس إلى أي حد أصبح حُكْم شي جين بينغ طاغياً ومهيمناً. قد تكون تدابير الحجر الصحي وإغلاق المدن كفيلة بإعطاء الوقت الكافي للحكومات كي تجد الحلول الطبية والاجتماعية والاقتصادية، لكنها ليست حلولاً مستدامة بحد ذاتها. أثبتت الأحداث في العقود الأخيرة أن الصينيين مستعدون لتحمل التجاوزات السياسية لحكامهم، حتى لو كانوا يمقتونهم. لكن يُفترض أن يحمي هؤلاء الحكام حياة الناس ومعيشتهم من التهديدات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والصحية. سيكون موقف الناس من قابلية استمرار هذه الصفقة حاسماً لتحديد مدى قدرة البلد على تحقيق التعافي الاقتصادي السريع الذي تحتاج إليه الصين والعالم أجمع.


MISS 3