تشيلامكوري رجا موهان

اليابان: أوكرانيا هي مستقبل آسيا

11 أيار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال مؤتمر صحافي في كييف | أوكرانيا، 21 آذار ٢٠٢٣

اتجهت معظم أنظار العالم نحو الزيارة البارزة التي قام بها الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى موسكو في الشهر الماضي، لكن أغفل جزء كبير من المراقبين عن وجود رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا في كييف خلال الفترة نفسها للقيام بزيارة لا تقلّ عنها أهمية. ذهب كيشيدا في رحلة غير معلنة لمقابلة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والتعبير عن دعم اليابان القوي للبلد.

يمكن استخلاص ثلاث ملاحظات من وجود شي جين بينغ في موسكو وكيشيدا في كييف في الوقت نفسه. أولاً، يشير هذا التزامن إلى توسّع دور شرق آسيا في رسم معالم الأمن الأوروبي. ثانياً، أكد كيشيدا أن نظرة الصين إلى الحرب في أوكرانيا لا تعكس بالضرورة رأي بقية دول آسيا. ثالثاً، كشفت الزيارتان المتزامنتان إلى أي حد تبقى مزاعم شي فارغة حين يطرح نفسه كصانع سلام حيادي في أوكرانيا.

يبدو أن السفر إلى أوكرانيا أعطى دفعة إيجابية لنِسَب تأييد كيشيدا المتراجعة محلياً، لكنه شدد أيضاً على اختلاف النهج الجديد عن الجمود الياباني الذي طَبَع العقود السابقة على الساحة العالمية. ربما كان تواجد كيشيدا في كييف أثناء وجود شي جين بينغ في موسكو مجرّد صدفة، لكن أكدت رحلته إلى أوكرانيا صورة اليابان المستجدة كلاعبة جيوسياسية يُحسَب لها حساب.

عملياً، بدأت اليابان تطرح نفسها كقوة أساسية في المجال الأمني في عهد الراحل شينزو آبي، رئيس الوزراء الياباني السابق الذي استلم مهمّة شاقة تقضي بإقناع اليابان بإعادة النظر بدورها في آسيا والعالم والتخلي عن الأغلال السياسية الماضية. أحرز آبي تقدماً كبيراً على مستوى تجديد سياسات الأمن القومي في اليابان خلال ولايتَين استلم فيهما رئاسة الحكومة، بين 2006 و2007، وبين 2012 و2020.

لكن لم يتوقع الكثيرون أن يتابع كيشيدا الإرث الاستراتيجي الذي تركه آبي. كان يصعب أن يحلّ أحد مكان آبي واعتُبِر كيشيدا ضعيفاً على نطاق واسع. لكن شكّلت أزمة أوكرانيا فرصة هائلة نجح كيشيدا في اقتناصها لإعادة توجيه اليابان بطريقة جذرية. كان آبي قد تخبّط لإقناع الطبقة السياسية بأفكاره، لكنّ الهجوم الروسي على أوكرانيا رفع مستوى الوعي الشعبي للتغيرات المحورية في البيئة الأمنية اليابانية. لقد اهتزت اليابان بشدة حين أقدمت قوة بارزة ومسلّحة نووياً على غزو دولة مجاورة لها من دون حسيب أو رقيب، وحاولت تغيير الحدود بالقوة وبشكلٍ أحادي الجانب. لهذا السبب، لم يواجه كيشيدا مقاومة قوية ضد خططه الرامية إلى زيادة الإنفاق على الدفاع خلال السنوات الخمس المقبلة، وتحديث الجيش لتمكينه من ردع كوريا الشمالية وروسيا والصين، وتوسيع دور البلد في الأمن الإقليمي.

لطالما اعتُبِرت السياسة الخارجية اليابانية جامدة وسلمية بطبيعتها، وكانت تطرح على ما يبدو عدداً ضئيلاً من الأفكار الاستراتيجية الخاصة بها. بدت طوكيو مسرورة بالاقتداء بواشنطن تزامناً مع تجنب بكين والتحديات التي تفرضها على الآخرين. لكن بدأت اليابان في آخر عقد ونصف تُطوّر مقاربات جيوسياسية جديدة، وتدعمها، وتقنع الحلفاء والشركاء بها.

لا يُعتبر أي واحد من ابتكارات السياسة الخارجية اليابانية أهم من اختراع المفهوم الجيوستراتيجي المرتبط بمنطقة "المحيطَين الهندي والهادئ" أو "الحوار الأمني الرباعي"، علماً أن هذين المفهومَين أصبحا اليوم جزءاً لا يتجزأ من المفاهيم الجيوسياسية الآسيوية. طرح آبي هاتين الفكرتَين للمرة الأولى خلال خطابٍ ألقاه أمام البرلمان الهندي في آب 2007. لكن كان طرح أفكار جديدة خلال الخطابات يختلف بالكامل عن إقناع الآخرين بمنافع تلك الأفكار.

يمكن اختصار الرد الدولي الأولي على هاتين الفكرتَين بانتشار الشكوك وسط أصدقاء اليابان والعدائية المباشرة من جانب بكين. لكن سرعان ما تقبّل شركاء طوكيو في "الحوار الأمني الرباعي" (أستراليا، والهند، والولايات المتحدة) أفكار آبي بسبب إصرار اليابان وزيادة قوة الصين.

في أواخر شهر آذار، سافر كيشيدا أيضاً إلى الهند لاقتراح رؤية مستحدثة عن منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، حيث طُرِحت مجموعة أفكار لتقوية الأمن الإقليمي، كما أنه عرض مساهمات يابانية أكثر طموحاً لتحقيق تلك الرؤية، بما في ذلك تنفيذ تدريبات عسكرية مشتركة وتكثيف التعاون في مجال الأمن البحري.

كان ابتكار مهم ثالث من جانب اليابان يقضي بتجاوز نظام "توزيع المتحدثين المحوريين" الذي طغى على نظام أمني قادته الولايات المتحدة في آسيا بعد حقبة الحرب. تولي اليابان أهمية كبرى لتحالفها الثنائي مع الولايات المتحدة، لكنها تعترف أيضاً بأهمية التواصل مع الآخرين مباشرةً.

تأتي الجهـــــود اليابانية لبناء شراكات استراتيجية ثنائية مع بلدان أخرى في المنطقة لتستكمل تحالف طوكيو مع واشنطن وتقوي ركيزة الأمن الإقليمي في ظل تنامي القوة العسكرية والدبلوماسية الصينية وما يرافقها من اضطرابات في المنطقة ككل. نشأت أقوى العلاقات الإقليمية الجديدة مع أستراليا والهند المنتسبتَين إلى "الحوار الأمني الرباعي"، لكن بدأت العلاقات مع كوريا الجنوبية والفيليبين تزداد قوة أيضاً.

يتعلق هدف أساسي في الاستراتيجية الإقليمية اليابانية بتقوية البنية التحتية الدفاعية وقدرات الدول في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ. كانت إدارة آبي قد سعت إلى إعطاء طابع استراتيجي لأهم المساعدات التنموية الخارجية الخاصة باليابان، لكن يعمل كيشيدا اليوم على تطوير إطار عمل للمساعدات الأمنية الخارجية. تحظى هذه المبادرات اليابانية الجديدة بدعم أميركي كامل، إذ تتمنى واشنطن أن تزيد قوة حلفائها وأصدقائها عبر تكثيف التعاون في ما بينهم وزيادة قدرتهم على التكيّف مع التحديات التي تطرحها بكين.

لكن ستكون جهود طوكيو لربط أوروبا بالنظام الأمني الآسيوي مهمة بقدر الدور الياباني في تطوير هندسة أمنية جديدة في آسيا. مثلما افترض مفهوم آبي عن منطقة المحيطَين الهندي والهادئ حصول وحدة استراتيجية بين هذين المحيطَين، هو اعترف أيضاً بعمق الترابط الأمني بين أوروبا وآسيا.

منذ خمس سنوات تقريباً، دعا آبي بريطانيا وفرنسا، أهم قوتَين عسكريتَين في أوروبا الغربية، إلى المساهمة في الأمن الآسيوي. أدرك آبي حينها أن الضغوط الانعزالية على السياسة الخارجية الأميركية (أصبحت أكثر وضوحاً في عهد الرئيس دونالد ترامب) تعني أن تعجز آسيا عن الاتكال على الولايات المتحدة حصراً لضمان أمنها مستقبلاً. كان آبي يتطلع إلى ما وراء المنطقة بحثاً عن شركاء آخرين للتعامل مع التحديات الأمنيـــة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ.

منذ ذلك الحين، طرحت قوى أوروبية كثيرة استراتيجيات خاصة بهـذه المنطقة، بما في ذلك فرنسا، وبريطانيـا، وألمانيا، وهولندا. كذلك، تشدد استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي أقرّتها إدارة جو بايدن للعام 2022 على ضرورة تكثيف التعاون بين الحلفاء والشركاء في أوروبا وآسيا.

أطلق آبي مجموعة من المبادرات البارزة قبل اغتياله، فتطرّق إلى حجم الردع الأميركي المتوسّع في آسيا ودعا إلى مناقشة خيار نشر الأسلحة النووية الأميركية في المنطقة. حتى الآن، رفض كيشيدا تقاسم أي أسلحة نووية مع الولايات المتحدة، وكرر التزام اليابان بنزع تلك الأسلحة ومنع الانتشار النووي. لكن من المستبعد أن تتلاشى مسألة الالتزام الأمني النووي الأميركي تجاه آسيا فيما تتابع الصين تحديث ترسانتها النووية وتعمل على توسيعها.

تعكس الرؤية الأمنية اليابانية الجديدة اعترافاً واضحاً بالتهديدات الصينية في آسيا. على عكس عدد كبير من الأوروبيين غير المستعدين حتى الآن للاعتراف بالطموحات الرجعية والعدائية التي تحملها روسيا أو الصين، لم تتردد طوكيو في مواجهة بكين رغم تأثيرها الهائل على الاقتصاد الياباني. لا شك في أن قُرب المسافات بين البلدين ساعد طوكيو على رؤية المشكلة بوضوح، لكن اضطرت اليابان أيضاً لتجاوز القيود الحتمية التي تنجم عن تقاسم حدود بحرية متنازع عليها مع الصين.

كان قرار اليابان بتسليط الضوء على العدوان الروسي ضد أوكرانيا مهماً بالقدر نفسه. أعلن كيشيدا أن "أوكرانيا هي مستقبل آسيا"، فدفع بذلك اليابان وآسيا إلى رؤية العواقب المترتبة عن تحركات قوة مسلّحة نووياً حين تقرر تغيير الوضع الإقليمي بطريقة أحادية الجانب.

بفضل هذه السياسات الأمنية التي تزداد ذكاءً مع مرور الوقت، تأتي اليابان لتُذكّر الغرب، لا سيما أوروبا التي أصبحت مكتفية بما تملكه من الناحية الجيوسياسية خلال العقود التي تلت الحرب الباردة، بأن التعامل مع التحديات التي تطرحها الصين وروسيا يتطلب مستوىً متزايداً من الانضباط. تشمل هذه المتطلبات تعزيز التواصل الاستراتيجي مع الجنوب العالمي، حيث دعا كيشيدا الدول الأخرى في مجموعة السبع إلى بذل جهود مضاعفة لمعالجة مخاوف البلدان النامية ومراعاة أولوياتها، بدل تكرار السياسات الغربية وفرض الإملاءات عليها بشأن طريقة إدارة شؤونها.

فيما تتجه اليابان للتحول إلى لاعبة جيوسياسية كبرى في آسيا والعالم، قد تصبح الجهة الأكثر قدرة على إقناع الغرب بإعادة النظر بفرضياته الاستراتيجية. وبينما يتخبّط الرئيس الفرنسي ماكرون وقادة أوروبيون آخرون للتعامل مع التحديات التي تطرحها روسيا والصين، تأتي اليابان لتضخّ مستوىً ضرورياً من الوضوح في الخطاب الاستراتيجي السائد في أوروبا وآسيا.


MISS 3