عبده جميل غصوب

قراءة قانونية للمادة 87 من قانون التنظيم القضائي في ضوء قرار المجلس التأديبي بصرف القاضي غادة عون

11 أيار 2023

15 : 20

بتاريخ 4/5/2023 صدر قرار صرف القاضي غادة عون من سلك القضاء، عن المجلس التأديبي للقضاة المؤلف من القضاة: جمال الحجار رئيسا وايمن عويدات وميرنا بيضا عضوين. أثار هذا القرار حفيظة رجال القانون حول نقطتين: النقطة الاولى: قابليته للطعن والنقطة الثانية: جواز استمرار القاضي غادة عون في العمل بعد صدوره.


اولا: قابلية القرار للطعن


تنص المادة 87 من قانون التنظيم القضائي في فقرتها الثانية:


" يقبل قرار المجلس الطعن من قبل القاضي المعني او من قبل رئيس هيئة التفتيش القضائي بمهلة خمسة عشر يوما من تاريخ صدوره امام الهيئة القضائية العليا للتاديب.


تتألف الهيئة القضائية العليا للتأديب من رئيس مجلس القضاء الاعلى او نائبه رئيسا ومن اربعة اعضاء يعيّنون من قبل المجلس في بداية كل سنة قضائية. كما يعيّن المجلس بديلا لاي منهم عند الغياب او التعذر.


تتبع لدى الهيئة القضائية العليا للتأديب اجراءات المحاكمة المعمول بها امام المجلس التأديبي.


لا يقبل قرار الهيئة القضائية اي طريق من طرق المراجعة بما فيها التمييز ويكون نافذا بحد ذاته بمجرد ابلاغه الى صاحب العلاقة بالصورة الادارية.


يبلغ هذا القرار الى وزير العدل".


يستدعي هذا النص ابداء ما يلي:


ان القرار الصادر عن المجلس التاديبي قابل للطعن امام الهيئة القضائية العليا للتاديب المؤلفة من رئيس مجلس القضاء الاعلى او نائبه رئيسا ومن اربعة اعضاء يعيّنون من قبل المجلس في بداية كل سنة قضائية، كما يعيّن المجلس بديلا لاي منهم عند الغياب او التعذر.


وقرار الهيئة القضائية العليا للتأديب، بحسب منطوق نص المادة 87، لا يقبل اي طريق من طرق المراجعة بما فيها التمييز.


لا بد بادىء ذي بدء من الاشارة الى عدم دستورية النص من عدم قابلية قرار الهيئة القضائية العليا للتأديب للطعن امام اي مرجع قضائي وباي طريقة طعن كانت، لان الهيئة المذكورة ليست " محكمة " بالمعنى القانوني الصرف وان تألفت حصرا من قضاة، فهي هيئة تاديبية ذات صفة ( وليس ذات طبيعة ) قضائية. فلا يصح ان يصرف قاض من الخدمة بدون ان يحق له مراجعة " القضاء". وان كانت الاصول المتبعة امام الهيئة تشبه الى حد بعيد اصول التقاضي، وفرص الدفاع متاحة امام القاضي المحال امامها.


فلو تمّ الطعن بالنص المذكور (لجهة عدم قابلية قرار الهيئة القضائية العليا للتأديب امام اي مرجع قضائي)، امام المجلس الدستوري ضمن المهلة القانونية، لكان من المرجّح ابطاله. فحبذا لو اعتمد المشترع اللبناني هنا، النهج الفرنسي فأتاح لقضاة النيابة العامة الطعن بالقرار امام مجلس شورى الدولة لتجاوز حد السلطة. وأتاح لافراد القضاء الجالس الطعن به امام احدى غرف محكمة النقض، لكان اصلح واكثر توافقا مع الدستور من النص الحالي ؛ اذ ان حق التقاضي مكرس دستوريا وأمميا وهو حق ذات قيمة دستوري فلا يصح التفريط به.


ولكن هذا هو النص على قساوته، Dura lex sed lex وعلينا ان نعالج الامور انطلاقا منه De lege lata وليس حسبما نتمناه ان يكون De lege ferenda . يبقى السؤال مطروحا: هل ان الهيئة القضائية العليا للتأديب مشكّلة الآن ام ناقصة بفعل عدم حصول التشكيلات القضائية ؟ هذه المشكلة تضاف الى المشاكل القضائية الحاضرة.


ثانيا: في مدى نفاذ القرار


جاء في نص المادة 87 تنظيم قضائي اعلاه ان قرار الهيئة القضائية العليا للتاديب " يكون نافذا بحد ذاته بمجرد ابلاغه الى صاحب العلاقة بالصورة الادارية ".


فهل قرار المجلس التأديبي يتمتع ايضا بصفة النفاذ، كما هي حال قرار الهيئة العليا للتأديب القضائي؟


لا بد قبل ابداء رأينا من استعراض الاراء التي أبديت في هذا الصدد .


ولكن لا بد في مرحلة اولى من الوقوف على تأكيد وزير العدل في حكومة تصريف الاعمال هنري خوري في حديث تلفزيوني، انه بامكان القاضية غادة عون الاستمرار في مهامها كالمعتاد ، طالما لم يبرم الحكم بصرفها.


بادىء ذي بدء لا يصح الكلام عن " حكم "، فنحن لسنا بصدد " حكم" بالمعنى القضائي للكلمة، بل بصدد " قرار تأديبي ". ثم ان ليس وزير العدل من يحدد مدى نفاذ قرار المجلس التاديبي، بل ان القانون هو الذي يحدد ذلك ، كما سنرى.


ان الرأي المتداول قضائيا الآن هو الاستئناس، بما يحصل مع الاحكام القضائية لتقرير ما ذا كان القرار التأديبي نافذا ام لا ؟ فالاحكام القضائية، في المبدأ وما لم يكن هناك نص مخالف، يتوقف تنفيذها حكما بمجرد الطعن، ما لم تكن معجلة التنفيذ. وتعجيل التنفيذ يكون اما بقرار القاضي واما بحكم القانون ( ونضيف بان طبيعة القرار تلعب دورا هاما هنا ).


يقول اهل هذا الرأي ان قرار المجلس التأديبي ليس معجل التنفيذ، فقياسا بما يحصل في الاحكام القضائية، يجب ان يتوقف تنفيذه بمجرد الطعن به.


نحن لا نوافق على هذا الرأي للاسباب التالية:


أ ـ ان طبيعة عمل القاضي تفرض عليه التوقف فورا عن متابعة وظيفته القضائية بمجرد صدور قرار فصله من الخدمة، اذ لا يصح ان يستمر قاضٍ " مشكوك " في اهليته في وظيفته القضائية، فذلك يخلق الريبة والشك لدى المتقاضين ويزعزع الثقة به اولا وبالقضاء ثانيا.


ب ـ لانه بحسب المادة 122 أ.م.م يشكل القرار التاديبي سببا لعرض القاضي تنحيه، اذ يولد له سبب احراج. وان لم يعرض هو تنحيه، فيعود للفرقاء ان يطلبوا منه ذلك. واذا رفض ذلك، يمكنهم ان يتقدموا بطلب رده سندا للبند 7 من المادة 120 أ.م.م هذا بمعزل عما اذا كان قضاة النيابة قابلين للرد او التنحي ام لا.


ج ـ لانه ليس بالضرورة وصف القرار الصادر عن المجلس التأديبي بأنه نافذ منذ ابلاغه اداريا من القاضي المعني ـ كما فعل المشترع عندما اعطى هذا الوصف للقرار الصادر عن الهيئة العليا للتأديب القضائية ـ بل ان هذه الصفة ملازمة له بحكم القانون وبحكم طبيعته التأديبية (وليس القضائية )، كما سبق بيانه، وهي أقرب الى القرارات الادارية منه الى الاحكام القضائية. فقد قلنا ان القرارات التأديبية هي قرارات ادارية ذات صفة قضائية (وليست ذات طبيعة قضائية).


ولكن الاهم الذي لم ينتبه اليه الكثيرون، هو الفرق بين نفاذ القرار الاداري وتنفيذه. فالقرار التأديبي يبقى اقرب في طبيعته الى القرار الاداري منه الى القرار القضائي، خصوصا في ظل عدم جواز الطعن به قضائيا ! الامر الذي رفضناه رفضا قاطعا ولكنه قائم، موجود ومعمول به.


فنفاذ القرار التأديبي ( من الوجهة الادارية ) يتعلق بآثاره القانونية. وهو عنصر داخلي فيه. في حين يكون تنفيذ القرار باظهار آثاره في الواقع واخراجه الى حيزّ العمل وتحويله الى واقع مطبّق يؤدي الى تحقيق الهدف من اتخاذه. فالقرار الصادر عن المجلس التأديبي فيه ما يكفي، من حيث طبيعته، من القوة التنفيذية او النفاذ، ولا يتطلب اجراء تنفيذيا خارجيا لنفاذه. واذا تعنت القاضي في تنفيذه، فان الامر يستدعي التنفيذ المادي للقرار التأديبي هذا بحق القاضي الممتنع عن تنفيذه. وهذا لا يتطلب اللجوء الى " القضاء " للحصول على حكم بالتنفيذ اذا لم يقبل القاضي تنفيذ القرار اختياريا، اذ لا حاجة في ذلك لسلوك طريق دعوى جزائية او مدنية؛ لان الادارة هي سلطة عامة وظيفتها حماية المصلحة العامة وتحقيق مصالح الافراد وضمان سير المرفق العام بانتظام واطراد. وقد اتاح لها المشترع الحق في تنفيذ قراراتها بالقوة الجبرية اذا رفض القاضي الصادر بحقه قرار تاديبي تنفيذه اختياريا دون حاجة الى إذن من القضاء.


ولكن عمليا ـ وفي حال رفض القاضي غادة عون ـ تنفيذ القرار التأديبي القاضي بفصلها من الخدمة طوعا واعتبارها انه متوقف التنفيذ بانتظار صدور قرار الهيئة العليا للتأديب القضائي، فانه، وعملا بمبدأ فصل السطات، لا يحق لوزير العدل، منعها من متابعة وظيفتها القضائية، بل ان الامر يبدو سهلا في ضوء كونها احد قضاة النيابة، اذ تخضع تسلسلا لقرارات مدعي عام التمييز الذي يرأسها. وهنا على مدعي عام التمييز، ان يتخذ القرار بوقفها عن العمل بمجرد صدور القرار التأديبي وليس انتظار صدور قرار الهيئة العليا للتأديب القضائي، حتى ولو اضطر الامر الى اقفال باب مكتبها بالشمع الاحمر ومنعها من الدخول اليه.


اخيرا وبمعزل عن "تصرفات" القاضي غادة عون، وما اذا كانت تستأهل الفصل من القضاء ام لا ؟ يبقى القانون قانونا على قساوته Dura lex sed lex ويبقى واقعه هو الصحيح واللازم De lege lata بعيدا عن التمنيات De lege ferenda .


لذلك، نخلص الى نتيجتين حتميتين:


أـ النتيجة الاولى: نفاذ قرار المجلس التأديبي ووجوب تنفيذه والتقيد به حالا طالما ان القاضية غادة عون تبلغته ادارياً.


ب ـ وجوب تعديل نص المادة 87 من قانون التنظيم القضائي وجعل قرارات المجلس التأديبي او الهيئة العليا لتأديب القضاة، خاضعة للطعن امام مرجع قضائي اي امام المحاكم وليس امام اي هيئة أخرى، فنصبح على غرار القانوني الفرنسي، وتكون القرارات التأديبية بحق قضاة النيابة قابلة للطعن امام مجلس شورى الدولة لتجاوز حد السلطة والقرارات التأديبية بحق اعضاء القضاة الجالس وقضاة التحقيق قابلة للطعن امام احدى غرف محكمة التمييز.


ماذا سيحصل ؟ ان غدا لناظره قريب، املي ان يبقى النقاش في اطاره القانوني البحت، فلا يتعداه الى الاطار السياسي، لان السياسة التي ضربت كل شيء في لبنان قادرة على ضرب القضاء، فحذار من ادخال سموم السياسة الى نقاوة القضاء، لدينا في لبنان جهاز من بين افضل اجهزة القضاء في العالم ؛ هذا ما تثبت لي من خلال عملي في الخارج، حذار التفريط بالقضاء انه احدى ثرواتنا والسلام.

في 5/5/2023.


*دكتور في الحقوق، بروفسور لدى كليات الحقوق، محام بالاستئناف لدى نقابة المحامين في بيروت، مستشار قانوني في الامارات العربية المتحدة ـ دبي ، خبير قانوني دولي معتمد لدى عدة منظمات قانونية دولية، كاتب قانوني وباحث.