كيف تخسر الولايات المتحدة أصدقاءها وتُضعِف تحالفاتها؟

12 : 31

منذ انطلاق الحرب التجارية في العام 2018، حاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إقناع حلفائه بالانضمام إلى صراع أوسع ضد الصين. لكن حتى الآن، تَقِلّ البلدان المستعدة للاقتداء بترامب. تطرح الصين تهديداً حقيقياً على بعض المصالح الأميركية ويُجمِع الكثيرون في الولايات المتحدة على ضرورة استعمال سياسة "صارمة" مع بكين. لكن فشل الأميركيون حتى الآن في إقناع حلفائهم بخطورة المشكلة، ويؤدي غياب الوفاق بهذا الشأن إلى إضعاف تحالفات واشنطن وفعالية سياستها تجاه الصين. أجّج ترامب المشكلة عبر سياساته الشائبة وغياب وجهة استراتيجية واضحة لخططه. لكن كان هذا الوضع قائماً قبل عهد ترامب ولن يتغير بعد رحيله إلا إذا تبنّت الولايات المتحدة سياسة واقعية وأكثر تماسكاً في تعاملها مع الصين وأدركت أن حلفاءها لا يشاركونها نظرتها إلى بكين.


بعد ثلاث سنوات على بدء هذا العهد الرئاسي، لم يتردد ترامب في زعزعة العلاقات القائمة مع حلفاء تقليديين. فقد هدد فرنسا بفرض عقوبات عليها في العام 2019، وتشاجر مع الدنمارك بسبب جزيرة "غرينلاند" في شهر آب الماضي، ووصف رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو بـ"الخنوع" في العام 2018. اليوم، فيما تنشغل إدارته بما تعتبره منافسة عالمية مع الصين، عمد ترامب إلى عزل حلفاء الأميركيين بدرجة إضافية عبر إجبارهم على "الاختيار" بين الصين والولايات المتحدة في بعض المسائل، تزامناً مع مهاجمتهم مباشرةً في مسائل أخرى.

لنأخذ مثلاً مقاربة ترامب في التجارة. تتقاسم الولايات المتحدة وعدد كبير من حلفائها مخاوف من ممارسات بكين الاقتصادية، بما في ذلك اعتيادها على سرقة الملكية الفكرية، وفرض ضوابط على دخول الشركات الأجنبية إلى أسواقها، ودعم الشركات المملوكة للدولة. تعني ضخامة الاقتصاد الصيني ونفوذه أن أي محاولة واقعية للضغط على الصين كي تغيّر هذه الممارسات تتطلب جهوداً مُنَسّقة ومتعددة الجوانب.

كان اتفاق الشراكة التجارية في المنطقة العابرة للأطلسي (جرى التفاوض حول معظم بنوده في عهد الرئيس باراك أوباما وتم توقيعه في العام 2016) خير مثال على فعالية التنسيق بين واشنطن وحلفائها: كان ذلك الاتفاق، على المدى الطويل، ليفرض الضغوط على الاقتصاد الصيني بما يضمن تحسين معاييره، حتى في مجالات البيئة والعمل وحقوق الملكية الفكرية، أو كان ليجازف بإضعاف مكانة الصين في العلاقات التجارية مع البلدان التي تشكّل 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. لكن بدل دعم ذلك الاتفاق أو العمل على تحسينه، انسحب ترامب منه فور تولّيه الرئاسة. حتى أنه غيّر مسار الولايات المتحدة عبر إطلاق حرب تجارية أحادية الجانب أدت إلى تضرر الصين وحلفاء الأميركيين في آن، وقد وقع بعضهم أيضاً ضحية الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب. لم يكتفِ حلفاء الولايات المتحدة بالتعبير عن عدم اهتمامهم بتطبيق سياسات ترامب التجارية المتهورة تجاه الصين، بل إنهم واجهوا أيضاً أضراراً جانبية نتيجة المواجهة بين أكبر اقتصادَين في العالم، فتأثرت سلاسل الإمدادات بشدة وأصبح عدد كبير من القادة والديبلوماسيين عالقاً وسط نيران العلاقة الأميركية الصينية التي تزداد عدائية.

في ما يخص مسألة "هواوي"، طبّق ترامب سياسة شبيهة بحقبة الحرب الباردة، فأجبر الحلفاء على الاختيار بين الانحياز إلى الولايات المتحدة أو معارضتها. يفكّر عدد صغير من البلدان الأوروبية الأخرى أن يحذو حذو البريطانيين ويختار الطرف الثاني. تزعم شركة "هواوي" التي تقدم أكثر التقنيات التكنولوجية تقدماً أن معداتها تدعم ثلثَي الشبكات التجارية من الجيل الخامس حول العالم. لذا يشعر المسؤولون الأميركيون بالقلق من أن تستعمل الصين هذه البنية التحتية من الجيل الخامس لجمع البيانات والتجسس وإضعاف الأمن القومي في بلدان أخرى، وهو قلق مبرر.

نتيجةً لذلك، تعتبر إدارة ترامب "هواوي" تهديداً على الأمن القومي. لقد منعت واشنطن الشركة من اختراق الأسواق الأميركية ودفعت حلفاءها إلى إبعادها عن شبكاتها من الجيل الخامس. أوضح نائب الرئيس مايك بينس هذه السياسة في خطاب له عن الصين في العام 2019 فقال: "دعونا حلفاءنا حول العالم إلى بناء شبكات آمنة من الجيل الخامس من دون إعطاء بكين القدرة على التحكم بأهم البنى التحتية والبيانات". حتى أن إدارة ترامب هددت بريطانيا بالحد من التعاون الاستخباري بين واشنطن ولندن، واعتبرت أن دخول "هواوي" إلى السوق البريطاني قد يهدد فرص عقد اتفاق تجاري بين الولايات المتحدة وبريطانيا. لكن رغم هذه الضغوط كلها، قررت بريطانيا السماح لـ"هواوي" بالمشاركة في بناء شبكتها من الجيل الخامس، ما يثبت أن لندن وواشنطن لا تنظران إلى التهديد الصيني بالطريقة نفسها.

بعد انتشار "هواوي" في الأسواق حول العالم واستعداد مجموعة أخرى من حلفاء الولايات المتحدة لاتخاذ قراراتها حول هذه الشركة، يبدو أن إدارة ترامب اتخذت موقفاً له نتائج عكسية في مسألة تعجز عن الفوز فيها. إذا كانت "هواوي" تطرح تهديداً حقيقياً، فقد فشلت الولايات المتحدة في محاولتها كبح النفوذ الصيني المريع. لكن إذا كانت بريطانيا محقة بقولها إن مخاطر "هواوي" يمكن التحكم بها، يعني ذلك أن الولايات المتحدة أضعفت مكانتها بدرجة إضافية أمام حلفائها: من خلال مضايقة بريطانيا ودول أخرى لإجبارها على الرضوخ لمطالبها، تؤكد الإدارة الأميركية على الخطاب الصيني القائل إن مخاوف واشنطن في مجال الأمن القومي هي مجرّد حيلة لإخفاء طموحها الحقيقي بإيذاء الاقتصاد الصيني. قد تكون سياسة ترامب الخارجية غير متماسكة أو تبدو طريقة تعامله مع الحلفاء خرقاء، لكنّ صعوبة كسب دعم الشركاء لمواجهة الصين تسبق هذا العهد الرئاسي. كانت العوائق واضحة قبل انتخاب ترامب، وستبقى كذلك إلى أن تتبنى الولايات المتحدة سياسات أكثر تفصيلاً لمعالجة التحديات التي تطرحها الصين وتجد طريقة لإقناع الحلفاء بالانضمام إلى هذه الجهود.

إذا أراد المسؤولون الأميركيون أن يطلبوا من البلدان الأخرى مباشرةً أن تختار بين الولايات المتحدة والصين، قد لا يعجبهم الجواب. كشف استطلاع جديد أن الأغلبية الساحقة في أكبر البلدان الأوروبية تفضّل تبنّي موقف حيادي في حال اندلاع صراع بين الولايات المتحدة والصين.

لحصد دعم الحلفاء للسياسة الأميركية تجاه الصين، لن يكفي التخلي عن مقاربة ترامب المتهورة ومحاولته الحثيثة تحويل الحلفاء إلى أدوات حماية. بل يجب أن تفهم الولايات المتحدة اهتمامات حلفائها جيداً، وتدرك أن مصالحها قد تختلف عن مصالحهم في مجالات معينة: من واجب الولايات المتحدة مثلاً أن تحافظ على تحالفات كثيرة في آسيا. في المقابل، لا يلتزم الحلفاء الأوروبيون بواجبات مماثلة ولا يهتمون بالقدر نفسه بالتهديدات الأمنية الصينية ضد البلدان الآسيوية. بشكل عام، يبدو أن الولايات المتحدة بالغت في تقدير ثقة الحلفاء بقيادتها واقتناعهم بتداخل مصالح الطرفين.

كذلك، يجب أن يعطي المسؤولون الأميركيون الأولوية للمسائل الصينية التي تهم الولايات المتحدة فعلاً، على غرار سرقة الملكية الفكرية، أو محاولات الصين إعادة رسم معالم المؤسسات متعددة الجوانب، أو الاعتداءات العسكرية في المساحات البحرية الآسيوية. ما هو السلوك الصيني غير المقبول بأي شكل، وما هو السلوك الذي تستطيع واشنطن تقبّله؟ ما هي النشاطات الصينية المقلقة التي تتطلب ردوداً متعددة الجوانب، وما هي النشاطات التي تستطيع الولايات المتحدة التعامل معها وحدها أو بمساعدة عدد قليل من الحلفاء؟ باختصار، حان الوقت كي يبدأ صانعو السياسة الأميركية باتخاذ هذه القرارات الصعبة. في المسائل التي تهم الولايات المتحدة، من الأفضل أحياناً التواصل مع بكين بدل معارضتها فوراً. لكن في المسائل المبهمة بدرجة معينة، مثل انتهاكات الصين الفادحة لحقوق الإنسان بحق الأقليات العرقية، يتعين على الولايات المتحدة أن تتخذ موقفاً صارماً وتسعى إلى تنفيذ قراراتها بالتعاون مع شركائها. يمكن تحديد الأولويات وتنظيم المسائل المرتبطة بالصين إذاً، كما حصل خلال الجهود الناجحة الأخيرة حين تعاونت الولايات المتحدة مع شركائها لانتخاب قائدها المفضّل كرئيس المنظمة العالمية للملكية الفكرية بدل مرشّح الصين.

ستبقى مسائل أخرى موضع خلاف بين الولايات المتحدة وحلفائها، منها شبكة "هواوي" من الجيل الخامس. لكن يجب أن تقلّص الولايات المتحدة وقع هذه الخلافات على تحالفاتها، وهذا ما تنوي واشنطن ولندن فعله غداة خلافهما بسبب "هواوي". وإذا طالت لائحة الخلافات، يجب أن تقيّم واشنطن المخاطر التي تطرحها تهديدات صينية محددة مقابل تكاليف تصدّع علاقاتها مع أحد الحلفاء.

أخيراً، على الولايات المتحدة أن تتمتع بالتواضع الكافي كي تعترف بأن المقاربة الأميركية لن تكون الأفضل دوماً في حال نشوء خلاف قوي بين واشنطن وحلفائها. وحتى لو طرحت واشنطن مقاربة "صائبة"، قد لا تكون استراتيجيتها قابلة للتنفيذ من دون دعم هؤلاء الحلفاء.

ستكون طريقة تنسيق السياسة الأميركية تجاه الصين مع الحلفاء مهمة بقدر العلاقة بين واشنطن وبكين وحدها. حالما تتوقف الولايات المتحدة عن اعتبار نفسها جزءاً من صراع عالمي ثنائي الأقطاب، ستتمكن من معالجة مشاكلها مع الصين في جميع المسائل الشائكة سريعاً، بدءاً من التجارة والتكنولوجيا، وصولاً إلى الاعتداءات البحرية. لكن تتطلب هذه الخطوة ابتكار حلول واضحة للمشاكل المطروحة وطلب بعض المساعدة من الأصدقاء عند الحاجة.


MISS 3